بات الاتجاه العام عندما يجري الحديث عن أي خطوة صينية في قطاع التكنولوجيا، هو تصنيف هذه الخطوة أو الإشارة إلى أنها ضمن إطار المنافسة، ومحاولة مزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية، وغالبًا ما يكون الحديث مقتصرًا على الحرب التجارية بين البلدين، قد لا تكون هذه النظرة خاطئة كليًّا، ولكن الواقع يشير إلى أن منافسة أمريكا أو مزاحمتها ليس السبب الأبرز للاهتمام الصيني الواضح بالقطاع التكنولوجي.
هل يعكس التطوير التكنولوجي الاتجاه للاستهلاك أكثر من التصنيع؟
يمكن القول إن احتياج الصين لإنعاش القطاع التكنولوجي وتطويره، يعد حاجة ملحة للحفاظ على معدلات نمو مقبولة في المستقبل، في ظل التباطؤ الواضح في الإنتاج الصناعي الصيني، الذي كان قاطرة النمو على مدار العقود الماضية، لكن النمو الفصلي الأخير هو الأبطأ منذ اعتماد نظام التقرير الإحصائي الحالي في عام 1992، بل أسوأ من النمو المسجل قبل 10 سنوات في أوج الأزمة المالية العالمية.
وهو ما يجعل الصين في حاجة سريعة للاعتماد على قطاع آخر يجلب النمو السريع، وفي أغسطس (آب) 2018، كتب زانج جون، عميد كلية الاقتصاد في جامعة فودان، ومدير «المركز الصيني للدراسات الاقتصادية»، مقالًا بعنوان «وهم الإبداع الصيني في الغرب»، نشر على موقع «بروجيكت سنديكيت»، تحدث فيه عن أن تطوير تكنولوجيات حديثة فائقة في الصين تعكس تأثيراتها أنماط الاستهلاك أكثر مما تعكس التصنيع.
ويرى جون أن هذا التحول يحدث هناك بسرعة كبيرة وبشكل استثنائي، وذلك بفضل السوق الاستهلاكية الضخمة، والضوابط التنظيمية المالية الضعيفة، لكنه يستبعد أن تكون تلك التغيرات لها أي علاقة بالسياسات الصناعية التي تنتهجها الحكومة؛ لأن نمو اقتصاد الإنترنت في الصين مدفوع إلى حد كبير بريادة شركات مملوكة للقطاع الخاص، مثل «علي بابا» و«تن سِنت».
ويضيف أن «المراقبين الغربيين أساؤوا فهم طبيعة الدور الذي تلعبه سياسات الصين في تطوير الصناعات الاستراتيجية والتكنولوجيا الفائقة، وبالغوا في تضخيم هذا الدور، فهناك فارق كبير بين تطبيق التكنولوجيات الرقمية على نماذج الأعمال الموجهة نحو المستهلك، والتحول إلى رائد عالمي في تطوير وإنتاج التكنولوجيا الصعبة، فهو يرى أن الصين ربما تظل على مسافة 15 إلى 20 عامًا بعيدة عن مضاهاة مدخلات البحث والتطوير، في اليابان أو كوريا الجنوبية على سبيل المثال».
«ستار ماركت».. خطة نحو الاتجاه التنموي الجديد
مؤخرًا أطلقت الصين سوقًا مالية شبيهة ببورصة ناسداك الأمريكية، وبدأت عمليات الإدراج في المنصة الجديدة في بورصة شنغهاي، وأطلق عليها اسم «ستار ماركت»، وهي مخصصة لأسهم قطاع التكنولوجيا فقط، وتعد هذه الخطوة بمثابة تحرك نحو إصلاحات السوق المالية بثاني أكبر اقتصاد في العالم، إذ يتضمن شروطًا مرنة لمساعدة الشركات الواعدة على جمع رأس مال بطريقة أسهل لتمويل نموها.
وأعلنت الصين أن الهدف الرئيسي لـ«ستار ماركت» هو إبقاء شركات التكنولوجيا الوطنية داخل البلاد، وذلك في مساعي الهيمنة على قطاع التكنولوجيا، الذي يعد أهم قطاع اقتصادي حاليًا، وبحسب المحللين، فالتكنولوجيا هي الاتجاه التنموي الاقتصادي الجديد، وقد لاقت تلك الخطة استحسان المستثمرين.
ففي اليوم الأول من التداولات، سجلت نسب ارتفاع ضخمة تراوحت بين 120% و520%، في ظل مسارعة المستثمرين لشراء أول 25 شركة مدرجة في السوق، بينما تقدمت أكثر من 140 شركة تكنولوجية وعلمية في الصين، لإدراج أسهمها في السوق الجديدة، وسمحت «ستار ماركت» في الأيام الخمسة الأولى من الإدراج، بتجاوز حدود التقلبات اليومية والتي تبلغ الآن 10% في بورصة شنغهاي، وبعدها أصبحت العتبة 20%، وهو ما يجعلها بورصة مغرية أكثر للكثير من الشركات.
يشار إلى أن كبرى الشركات الصينية، مثل «علي بابا» للتجارة الإلكترونية، ومحرك البحث «بايدو» دخلت منذ عدة سنوات بورصة «ناسداك» الأمريكية، بينما اختارت شركات أخرى مثل «تينست» العملاقة بورصة هونج كونج، لكن الخطوة الصينية ستعزز من إبقاء شركات التكنولوجيا داخل البلاد.
على الجانب الآخر يمكن القول إن الحديث الآن عن منافسة أمريكية- صينية بين «ستار ماركت» و«ناسداك» هو أمر غير منطقي، هناك 3 آلاف شركة مدرجة حاليًا في «ناسداك»، وتتزايد أهمية القطاع التكنولوجي في أمريكا بشكل كبير، إذ إن قيمة أكبر ست شركات فقط تزيد على 20% من حجم الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية، لكنها في النهاية خطوة لتعزيز التوازن الداخلي في بكين.
تسريع القدرة التكنولوجية.. أهم أهداف استراتيجية «الصين 2025»
وبعيدًا عن أن البداية المنتعشة لـ «ستار ماركت» لا تشكل تهديدًا على هيمنة «ناسداك»، فإن دوائر صنع السياسات الأمريكية ترى أن سياسة «صنع في الصين 2025» التي تنتهجها بكين، تهدف إلى ضمان الهيمنة الصينية على القدرات السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، وصناعة الطيران، وغير ذلك من القطاعات التي توظف الحدود القصوى للتكنولوجيا، ليس بوصفها تحديًا اقتصاديًّا فحسب، بل على أنها تهديد جيوسياسي أيضًا، بحسب ما يقول مانويل مونيز، عميد كلية الشؤون العامة في مدريد.
رأي مونيز، يقودنا للحديث عن استراتيجية الصين الحالية التي تقوم على ثلاثة محاور رئيسية، وهي الحفاظ على النمو المحلي بأي ثمن، وإيجاد تحالفات من الخارج، وتسريع القدرة التكنولوجية للبلاد، فأولًا، وقبل كل شيء، تحتاج الصين إلى تخفيف تباطؤ النمو الاقتصادي، خاصة بعد زيادة التباطؤ في عام 2018، وبالرغم من تخفيف القيود النقدية، ومحاولة غير متقنة للتحفيز المالي، لكن لم تكن هذه الإجراءات كافية لوقف التباطؤ الاقتصادي.
وفي الواقع لا يبدو أن التخفيضات البالغة 1.3 تريليون يوان في الضرائب كانت فعالة في تحفيز الاقتصاد، كذلك لم يجر التوسع في الإنفاق المالي أيضًا، هذا الأمر الذي قد يكون مرتبطًا بضوابط الحكومة المركزية المشددة على استثمارات الحكومات المحلية والقيود المصرفية، فضلًا عن الخوف من حملة شي جين بينغ لمكافحة الفساد.
وعلى الجانب النقدي، لم تكن السيولة التي ضخها بنك الشعب الصيني لغرض خفض تكلفة التمويل في جميع المجالات فعالة في سوق المال، إذ لم تستفد الشركات الخاصة كثيرًا من تخفيض تكلفة التمويل، لذلك فالصين ليس أمامها خيار حاليًا سوى سحب المعوقات ومحاولة تحفيز الاقتصاد، وهو ما يحدث حاليًا بالفعل.
وبخلاف النمو، لدى الصين هدفان خارجيان رئيسيان، الأول وهو الأكثر وضوحًا، يتمثل في حاجة الصين لاحتضان المزيد من التحالفات، خاصة مع الاقتصادات الأكبر في العالم، كالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، بالإضافة إلى تعميق العلاقات الثنائية مع كثير من البلدان، وهذا الأمر يظهر بوضوح خلال الزيارات الخارجية للرئيس الصيني.
كما أن الصين تسعى لتحقيق الاعتماد على الذات من خلال تقليص الفجوة التكنولوجية مع العالم المتقدم، والذي يمكن تحقيقه بشكل أسرع عن طريق شراء تكنولوجيا الخارج، ومن شأن ذلك أن يدفع نشاط الاندماج والاستحواذ في الصين إلى مستوى جديد، على الأقل في القطاعات المستهدفة في الاستراتيجية الصناعية المتوسطة الأجل للصين، مثل «صنع في الصين 2025».
فالصين تهدف من خلال الخطة الصناعية 2025، إلى تحديث قطاع الصناعات التحويلية الصيني إلى منتجات أكثر تطورًا، بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات وأشباه الموصلات والطائرات، وهي قطاعات تتمتع فيها الولايات المتحدة بقدرات تنافسية كبيرة، وهو ما جعل وفدًا أمريكيًّا زار بكين منذ نحو عام لمطالبة الصين بوقف الدعم للتكنولوجيا المتطورة، التي ترتبط بخطة «صنع في الصين 2025»، وفق ما ذكرت مصادر لوكالة «رويترز».
وخلال يوليو (تموز) الماضي أصدرت شركة الاستشارات «ماكنزي»، تقريرًا تحدث عن أن الاستهلاك ساهم في أكثر من 60% من نمو الصين خلال 11 من أصل 16 ربعًا، وذلك منذ يناير (كانون الثاني) 2015 إلى ديسمبر (كانون الأول) 2018، ما يعني أن الاقتصاد الصيني قلل من اعتماده على التجارة مصدرًا للنمو، كما أوضح التقرير أن صافي تجارة الصين – قيمة إجمالي الصادرات مطروحًا منها قيمة الواردات- ساهم فعليًّا بشكل سلبي في النمو في العام الماضي.
هذه الأرقام توضح بشكل قاطع أن مساعي الصين لإنعاش التكنولوجيا يهدف لبناء الاقتصاد الجديد، بحيث يكون أكثر قوة وتنوعًا، بحسب ما يرى أوليفر تونبي، رئيس مجلس إدارة «ماكنزي» في آسيا، فقد خلص تقرير «ماكنزي» إلى أن «انفتاح الصين علي العالم من الناحية النسبية انخفض؛ لأن الدافع الرئيسي لنموها الاقتصادي لم يعد التجارة أو الاستثمار بل الاستهلاك المحلي».
ووفق تقرير «الشركة الاستشارية العالمية»، فقد تزايدت أهمية المستهلكين الصينيين في دعم النمو، والتي تعني أن المصنعين في البلاد يبيعون أكثر للمستهلكين المحليين، وأقل لمستهلكي العالم، فقد صدرت الصين 9% فقط من إنتاجها في عام 2017 بانخفاض 17% عن عام 2007.
24.2 مليار دولار تراجعًا بالاستثمارات.. القطاع التكنولوجي الصيني يترنح
من ناحية أخرى لا يمكن إهمال الأوضاع الصعبة التي يشهدها القطاع التكنولوجي بالصين، فيشير تقرير لمجلة «ذا ديبلومات» إلى أنه قبل عامين فقط، كان يبدو نهوض قطاع التقنية في الصين، الذي عادةً ما يطلق عليه «الاقتصاد الجديد» للصين، نهوضًا لا يمكن إيقافه. فقد شهدت الفترة بين عامي 2014 و2017، تضاعف أرباح عملاق الاتصالات الصيني شركة «هواوي»، وتصدُّر 34 شركة ناشئة في قطاع التقنية الصيني التقييمات بقيمة تتجاوز المليار دولار.
وكان هذا القطاع هو السبيل الرئيسي لتوفير ما يزيد على مليون فرصة عمل سنويًّا. لكن اليوم، يبدو كما لو أن القطاع الذي كان نموذجًا في يوم من الأيام، قد عكس مساره، وقد أخذت شركات قطاع التقنية الصيني، سواء أكانت شركات ناشئة أم مجموعات عملاقة، تترنّح في مكانها طوال العام الماضي.
فقد شهد الربع الأخير من عام 2018، انخفاضًا في صافي أرباح مالكة شركة «تينسنت» مالكة تطبيق «وي شات»، بمقدار الثلث، وخسارة عملاق التجارة الإلكترونية شركة «جي دي. كوم» مبلغ 700 مليون دولار. ولم تتوقف الخسائر على الشركات التقنية فقط، إذ تتوقع «علي بابا» انخفاض مبيعاتها هذا العام بأكثر من 20%. بالإضافة إلى تراجع في أرباح شركات التقنية والإعلام والاتصالات، بنسبة 140% عن عام 2017، وهو أكبر تدهور شهده أي قطاع صيني عن الفترة نفسها.
ووفق تقرير من شركة «بريكين» للأبحاث، فقد بلغت قيمة الصفقات الإجمالية في قطاع تكنولوجيا المعلومات الصينية في الربع الثاني من عام 2019 ما قيمته 2.2 مليار دولار، مقارنة بـ26.4 مليار دولار للفترة نفسها من العام السابق، وهو ما يمثل انتكاسة كبيرة بالقطاع.
لكن تبقى الآمال الصينية قائمة، خاصة بعد إطلاق «ستار ماركت»، وهو السوق التي ستسهم في وقف هذا التدهور، بالإضافة إلى المضي قدمًا في خطة «صنع في الصين 2025»، والتي تضع القطاع التكنولوجي أولوية رئيسية، إذ تشير دراسة أعدتها شركة «برايس ووترهاوس كوبرز» متعددة الجنسيات، إلى إن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سيرتفع بنحو 14% بسبب الذكاء الاصطناعي، خلال العقد المقبل، وهو ما يقارب من 15.7 تريليون دولار، بينما يتوقع أن تكون حصة الصين من تلك الزيادة 7 تريليونات دولار.
مترجم: هل صناعة التكنولوجيا في الصين في طريقها نحو الانهيار؟