في الساعات الأولى من صباح أول أمس السبت؛ سجلت وكالة الفضاء الصينية سطرًا جديدة في تاريخ الاستكشاف البشري للفضاء الخارجي، وذلك عندما نجح العلماء الصينيون في إنزال المركبة الفضائية الصينية «زورونج (Zhurong)» على سطح كوكب المريخ؛ لتصبح الصين بذلك ثاني دولة تنجح في الهبوط بنجاح على الكوكب الأحمر بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
فيديو يوثق اللحظات الأولى للمركبة على الكوكب الأحمر:
المركبة زورونج التي تحمل اسم إله النار في الثقافة الصينية؛ هي مركبة أو كبسولة فضائية متجولة، وجزء من مهمة الفضاء الصينية «تيانوين 1 (Tianwen-1)» التي انطلقت في يوليو (تموز) عام 2020 الماضي. واستغرقت المهمة الدوران حول كوكب المريخ لمدة ثلاثة أشهر منذ فبراير (شباط) الماضي، لكن مهمة الإنزال على الكوكب استغرقت سبع دقائق فقط، بعدها دخلت الصين التاريخ.
نجاح بعد فشل
هبوط زورونج على المريخ لم يكن المحاولة الأولى للصين؛ ففي عام 2011 تعاونت الوكالة الصينية مع نظيرتها الروسية وأطلقت مركبة الفضاء «Yinghou-1» على الصاروخ الروسي «Phobos-Grunt Spacecraft»، لكن الرحلة فشلت حتى في مغادرة الغلاف الخارجي للكرة الأرضية وسقط الصاروخ في المحيط الهادي.
في عام 2016 بدأ التجهيز للرحلة التي باتت اليوم ناجحة «Tianwen-1» والتي تعني باللغة العربية «أسئلة عن النعيم»، وقد سُميت على اسم إحدى قصائد الشعر الصينية القديمة. وأجرى العلماء الصينيون العديد من الاختبارات التقييمية للرحلة الأولى كي يتجنبوا الأخطاء في الرحلة الناجحة.
قبل إطلاق الرحلة في فبراير عام 2020، أقامت الوكالة الصينية تجربة محاكاة للهبوط على المريخ في مقاطعة هوايلي الصينية. اعتمدت تلك التجربة على تكرار جاذبية الكوكب واختبرت التحليق والهبوط على سطحه وكللت بالنجاح مثلها مثل ما حدث منذ يومين بالفعل على الكوكب الأحمر.
تجربة المحاكاة للهبوط على المريخ:
ومحاولات فاشلة قبل الصين
أول محاولات الهبوط على سطح المريخ كانت من نصيب الاتحاد السوفيتي عام 1970، عندما هبطت المركبة الفضائية السوفيتية (Mars 2)، لكن الهبوط لم يكن ناجحًا بسبب حدوث عاصفة رملية عصفت بالمركبة بعيدًا إلى مكان لا يزال مجهولًا حتى هذه اللحظة.
المركبة «مريخ 2» لم تُطلق إلى الكوكب الأحمر وحدها؛ بل كان يصاحبها المركبة (Mars 3) التي أطلقت بعدها بشهور في عام 1971، وبالفعل سجلت هبوطًا ناجحًا على سطح الكوكب؛ لكنه استمر لمدة 20 ثانية فقط، ثم انقطع الاتصال بعد أول صورة أرسلتها المركبة إلى المحطة السوفيتية، ولم تنجح المحطة في إعادة الاتصال لتسجل ثاني محاولة فاشلة للاتحاد السوفيتي في الهبوط على الكوكب الأحمر.
في 25 ديسمبر (كانون الأول) عام 2003، كانت وكالة الفضاء البريطانية تجهز هدية في يوم عيد الميلاد (الكريسماس) عندما اقتربت مركبتها الفضائية «بيجل 2 (Beagle 2)» من غلاف كوكب المريخ ومعها تحمل آمال الشعب البريطاني والقارة الأوروبية بأكملها لتسجيل أول هبوط ناجح للإنسان على هذا الكوكب. وعند الهبوط كان من المفترض أن تُفتح الوسادات الهوائية لكي تقلل احتكاك المركبة عند الهبوط؛ لكن هذا لم يحدث وتحطمت المركبة عند الهبوط مباشرة.
البريطانيون والسوفيت لم يكونوا فقط وحدهم من فشلوا في الهبوط؛ بل أيضًا وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) عام 1999، وذلك عندما فشلت في وضع مسبار قطب المريخ (Mars Polar Lander) على القطب الجنوبي للكوكب بسبب حدوث خطأ في هندسة المركبة. ثم جرى إعادة بناء هذا المسبار من جديد مع تفادي الأخطاء الهندسية في مسبار جديد أطلق عليه اسم «فينكس (Phoenix)»، وحينها نجحت وكالة ناسا في إنزاله على المريخ عام 2008، تحديدًا في شهر مايو (أيار).
وجدير بالذكر أن أول محاولة ناجحة للهبوط على المريخ سُجلت باسم وكالة ناسا الأمريكية في 26 يوليو (تموز) عام 1976، عندما نجحت المركبة «فايكنج1 (Viking)» المُسماه على اسم المحاربين الإسكندنافيين القدامى في الهبوط بنجاح على الرغم من ثِقل وزنها الذي كان يزن 576 كيلو جرام أي أكثر من نصف طن تقريبًا.
بعد نجاح هبوط «فايكنج1» توالت نجاحات هبوط المركبات الأمريكية على المريخ في عام 1997 و2004 و2012 و2016 و2018، والآن في عام 2021 تصبح الصين ثاني دولة في العالم، تهبط على المريخ.
لكن.. لماذا خاطرت الصين بملايين الدولارات للهبوط على المريخ؟
نجاحات وكالة ناسا الأمريكية وحديثها المستمر عن الحلم باستعمار الإنسان لكوكب المريخ في المستقبل؛ جعل من الهبوط على المريخ هدفًا ساميًا لكل برامج الفضاء في العالم، ونجاح إحدى الدول للوصول إلى المريخ يشير بكل تأكيد إلى قوة وفاعلية ونجاح برنامجها الفضائي.
المسئولون عن البرنامج الفضائي الصيني كانوا واضحين منذ البداية في أهدافهم لإنشاء مُستعمرات بحثية مُستقبلية على القمر والمريخ كما صرح وو ويرين رئيس برنامج الاستكشاف القمري في وكالة الفضاء الصينية في إحدى المقابلات الصحفية مع شبكة «بي بي سي» (BBC) البريطانية عام 2016.
وعلى الرغم من أن حديثه يدل على أن اهتمام الوكالة كان مُنصبًّا على إستكشاف القمر واستغلال المساحة بين الأرض والقمر في إنشاء الأقمار الصناعية؛ فإنه على ما يبدو أن الوكالة الصينية أدركت أهمية الهبوط على المريخ لمنح برنامجها الفضائي سمة قوية وسط الدول الأخرى.
على الصعيد الفني سوف يعزز الهبوط على المريخ قدرات أدوات البرنامج الفضائي الصيني؛ إذ تطلب عملية الهبوط على المريخ أو على أي سطح آخر في الفضاء ثلاثة أجزاء وهي المدار (Orbiter) الذي يحمل المركبة في مرحلة الدوران حول الكوكب، والمسبار (Lander) الذي يهبط على السطح في المرحلة الثانية، والمركبة الفضائية المتجولة التي تتولى عملية الاستكشاف على سطح الكوكب (Rover) في المرحلة الثالثة.
وبسبب نجاح الوصول سوف تتمكن الصين من تطوير كافة الأجزاء الثلاثة في رحلاتها القادمة، وبالمثل على نطاق برامج الاتصالات التي سوف تتطور بسبب اختلاف أشكال الاتصال كونها أكثر تعقيدًا عن مثليتها مع الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض، أو على سطح القمر.
لكن الهدف الأسمى من نجاح هذه العملية بالنسبة للجانب الصيني هو التأكد من قوة البنية التحتية وقدرات البرنامج الفضائي الصيني، الذي يعمل على نجاح الخطة التي تضعها الحكومة الصينية لبناء أول مستعمرة لها على كوكب المريخ بحلول عام 2049.
تأمل الصين في السنوات القادمة في تطوير إحدى تقنيات النقل الفضائي، والتي يمكن أن تغير قواعد اللعبة؛ وهي إنشاء أول مركبة فضائية تعمل بالطاقة النووية وهذا سوف يمكن البرنامج الفضائي الصيني من إتمام رحلات أسرع وأبعد في الفضاء الخارجي، وقد نرى البرنامج الفضائي الصيني يسيطر على مجال الفضاء العالمي بدلًا من وكالة ناسا الأمريكية، التي باركت الصين بشكل رسمي على إتمام رحلتها الثانية للمريخ بالنجاح.
وعلى الصعيد السياسي هل سيحدث تغير في شكل التعاملات في الملف الفضائي بين الدول بعد نجاح الصين التي تضع خططًا لكي تتفوق في المجال؟ الإجابة عن هذا السؤال لا نعرفها بعد؛ ولكن ستظهره الأيام القادمة.