مرة أخرى يعود بحر الصين الجنوبي لمركز الاهتمام الدولي بعدما مرت حاملة صواريخ أمريكية على بعد 12 ميلًا بحريًّا من شواطئ الصين وحلقت طائرات فوق المياه المتنازع عليها، الحدث ليس مفاجئًا تمامًا بعد تهديدات أمريكية مسبقة باختيار الوقت المناسب لاستخدام العنف، والآن جاء الدور على الصين للرد.
قبل الدخول إلى تفاصيل هناك معلومات هامة لتعرفها: فبحر الصين الجنوبي يربط الشرق الأوسط بمنطقة القارة الهندية بشمال شرق آسيا وتمر به ثلث الشحنات البحرية العالمية بقيمة 7 تريليون دولار، أي 15 ضعف قناة بنما وثلاثة أضعاف قناة السويس، ويحتوى على 7 مليار برميل نفط كاحتياطي محتمل، و900 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي؛ ما قد يجعل منه خليجًا عربيًّا جديدًا، بالنسبة للمعلومة الأخيرة فالأمر لا يتعلق بها مبدئيًّا، فالغرض من الصراع سياسي بحت.
من يزعم ماذا؟

موقع الدول الست المتنازعة من الجزر
تدعي الصين ملكيتها لجزء كبير من المنطقة يصل لمئات الكيلومترات، وتقول إن حقها يعود إلى عدة قرون عندما كانت سلسلتا جزر باراسيل وسبراتلي جزءًا من الأمة الصينية، وفي عام 1947 نشرت الصين خريطة تفصل حدودها وبينت مجموعتي الجزر وهما تقعان كليًّا داخل أراضيها.
تشكك فيتنام بحدة في سرد الصين التاريخي قائلة إن الصين لم تدع السيادة على الجزر من قبل 1940 وأنها – فيتنام- تفرض سيطرتها على باراسيل وسبراتلي منذ القرن الـ 17، ولديها من الوثائق ما يثبت ذلك.
يأتي دور المشاركين الثانويين، فالفلبين تحتج لقربها الجغرافي من جزر سبراتلي وتطالب بالتعويض عن تأثر سيادتها وملاحتها حيث تبعد عن منطقة النزاع 100 ميل، مقابل 500 ميل من الصين.
ماليزيا وبروناي أيضًا انضمتا للنزاع بحجة أن بحر الصين الجنوبي يقع ضمن مناطق حظر اقتصادية كما حددت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ولم تدع بروناي امتلاكها أي من الجزر المتنازع عليها ولكن ماليزيا فعلت مع عدد من جزر سبراتلي.
لماذا اندلعت أزمة تقسيم الحدود ثانية؟

المشاركة العسكرية لكل دولة جوار في بحر الصين الجنوبي
الفلبين اتهمت الصين بتعزيز وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي؛ ما صعد من جديد المشكلة الأكثر خطورة في العقود الأخيرة بين الدولتين، ففي عام 1974 احتل الصينيون جزر باراسيل وانتزعوها من فيتنام وقتلوا أكثر من 70 جنديًّا فيتناميًّا، الأمر تكرر حين اشتبك الجانبان في جزر سبراتلي عام 1988 وفقدت فيتنام نحو 60 بحارًا، وفي أوائل عام 2012 تورطت الصين والفلبين في مواجهة بحرية طويلة واتهم الاثنان بعضهما باختراق منطقة سكاربورو شوال المتنازع عليها بين الطرفين.
بدأت الصين ضرباتها القوية من أواخر 2012 حين خربت عمليتي استكشاف فيتنامية ما أدى لاحتجاجات كبيرة مناهضة للصين في شوارع فيتنام، وفي 2013 رفعت الفلبين القضية إلى محكمة الأمم المتحدة بموجب اتفاقيتها لقوانين البحار للطعن في مزاعم الصين –والتي لن تتقيد الصين بقرارها- فالصين لم تتراجع وأنشأت مهبطًا للطائرات على الأراضي المستصلحة في جزر سبراتلي، كما أظهرته صور الأقمار الصناعية في أبريل 2015.
وفي أكتوبر 2015، وقع ما لم تتمناه الصين حيث أبحرت مدمرة صواريخ موجهة أمريكية على بعد 12 ميلًا بحريًّا من الجزر للمرة الأولى في سلسلة من الإجراءات لتأكيد حرية الملاحة في المنطقة لتطلق الصين تحذيرها: “لا تتصرفوا بشكل أعمى أو تخلقوا المشاكل من لا شيء”.
ما أسباب تمسك الولايات المتحدة بالأمر لدرجة التلويح باستخدامها القوة؟
تباين وجهات النظر بين الصين وأمريكا على الساحة العالمية متجذر فيما يخص الهيمنة الإقليمية، فالصين تصور نزاع بحر الصين الجنوبي كمسألة سيادة، وأمريكا تحل به مخاوفها المتقدمة بشأن حريتها في الملاحة، فمنذ نهاية الحرب الباردة كانت أمريكا هي القوة الأكبر في المحيط الهادئ بمساعدة من حلفائها وأبرزهم اليابان وكوريا الجنوبية، في الوقت الذي كانت فيه الصين تصعد كقوة إقليمية محتملة تحاول سد نقاط ضعفها الحدودية، وأصبح بحر الصين الجنوبي منطقة توتر.
أحد الأسباب غير المعلنة لتمسك أمريكا بموقفها هو الحفاظ على تفوقها العالمي وسيطرتها على البحار لتكون قادرة على ضمان حركة آمنة للبضائع الأمريكية، ونشر قوة عسكرية في جميع أنحاء العالم، ما يحفظ نشاطها الاقتصادي العالمي ويغذي الاقتصاد المحلي بالطبع، ويضمن معالجة أي تهديد للأمن القومي الأمريكي خارج حدود الوطن من قبل بحرية أمريكية قوية، فالبحر أساس لعديد من الإستراتيجيات السياسية الوطنية كالحق في القيام بدوريات وبناء قواعد وتنظيم التجارة عبر الممرات المائية، ما يعني تأمين الموارد الحيوية للحفاظ على النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي.
الجزر الاصطناعية دعمت موقف الصين “للحظات قليلة فقط”
بسرعة أنشأت الصين سبع جزر صغيرة في مياه بحر الصين الجنوبي لتجهد الوضع الجيوسياسي -المجهد بالفعل- من حولها، فقد أعلنت الصين يونيو 2015، عن بدأ العمل الذي سيتم الانتهاء منه قريبًا، ومنذ ذلك الحين شيدت مرافق الميناء والمباني العسكرية ومهبطًا للطائرات بالجزر. سرعة وحجم إنشاء الجزر أثار مخاوف الدول التي لها مصالح بالمنطقة فالمنشآت تعزز موطئ قدم الصين بجزر سبراتلي وتعتدي على الشعاب المرجانية والجزر في بحر الصين الجنوبي لأبعد من 500 ميل من البر الصيني.
تسمح الجزر الجديدة للصين بتسخير جزء من بحر الصين الجنوبي لاستخدامها الخاص، وبسبب وجود مصائد أسماك هامة واحتياطات النفط والغاز المحتملة فإن الصين لا تألو جهدًا لتحقيق مطالبها الإقليمية، وإن كانت الجزر صغيرة جدًّا لدعم وحدات عسكرية كبيرة فإنها على الأقل ستمكن الدوريات الجوية والبحرية الصينية من التواجد دومًا بالمنطقة.
تقول الولايات المتحدة بأن الجزر الصناعية قد تركت رواسب البناء تنجرف على الشعاب المرجانية، ما قد يهدد البيئة البحرية المحيطة. لكن بناء الصين لهذه الجزر أثار أمريكا حقًّا لكونها تهدد نحو 1.2 تريليون دولار قيمة التجارة التي تمر ببحر الصين الجنوبي كل عام، وهددت بأن “الولايات المتحدة ستطير وترفع الشراع وتعمل في أي مكان يسمح به القانون الدولي كما نفعل في جميع أنحاء العالم“، وهو ما أكدت عليه بإرسال مدمرة صواريخ قرب شواطئ الصين.
هل ستحارب أمريكا الصين أم ستدفع ببديل عنها؟
الضرورات الإستراتيجية لتدخل أمريكا في المحيط الهادئ لا تتغير لكن أساليبها ستتغير، فالولايات المتحدة ستنتقل تدريجيًّا في السنوات المقبلة نحو فرض سلطتها بطرق غير مباشرة وأقل تكلفة، وهذا يعني إسناد المسؤولية إلى الحلفاء الإقليميين مثل الفلبين وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان.
اليوم لا تخشى الصين سوى إقحام اليابان نفسها في النزاع القائم، فلفترة طويلة ظل دور اليابان سلبيًّا في المحيط الهادئ، لكنها اليوم تعكف على إعادة تأكيد وجودها الإقليمي؛ إذ قررت اليابان أن تصبح أكثر انخراطًا في أمور بحر الصين الجنوبي.
بدأ الخوف منذ أجرت اليابان مؤخرًا تدريبات على البحث والإنقاذ مع الفلبين، فضلًا عن غيرها من التدريبات مع دول جنوب شرق آسيا، وتتفاوض اليابان اليوم على السماح لطائرات وسفن عسكرية يابانية باستخدام قواعد بالفلبين لإعادة التزود بالوقود والإمدادات كي تتمكن من توسيع نطاق دوريات طائراتها لفترة أطول وتغطي مسافة أكبر في بحر الصين الجنوبي
وبشكل دوري على غرار ما تفعله الولايات المتحدة حاليًا.
الحق أن طوكيو تشعر بالقلق من مشروعات صينية لاستصلاح أراضٍ في البحر
الجنوبي، فاليابان كدولة تتكون من عدة جزر بموارد طبيعية قليلة لا يضمن لها حياة اقتصادية مستقرة سوى البحار، وقد أعلنت اليابان في وقت سابق إذا كان هناك تغير حقيقي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ فإن اليابان ستتجه لتأمين مصالحها لترد الصين بأن ألمحت إلى أنها قد تقبل الدوريات الأمريكية المستمرة لكنها قطعًا لن تقبل بأي دور لليابان في بحر الصين الجنوبي بحجة أن اليابان ليس لها أي مصالح فيه.
أي حرب صينية يابانية سوف تكون غير متكافئة، ليس من ناحية امتلاك الصين للأسلحة النووية فحسب، وقد تعهدت الصين بأنها لن تستخدم الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية. هذا يضع –مؤقتًا- الصراع بينهما في خانة الحرب الباردة. هذا قد يفسر أيضًا انضمام الصين لحزب الرافضين نشر أمريكا أنظمة صواريخ دفاعية مضادة للصواريخ الباليستية في كوريا الجنوبية، والذي كان من شأنه منح أمريكا حق الدفاع الصاروخي على أرض القارة الآسيوية ويضعف من قدرة الصين في الرد النووي بمرور الوقت.
سيكون من المؤسف اندلاع حرب أو حتى اشتباكات قصيرة بتلك المنطقة، وتسعى الصين الآن لدفع هذه النهاية إذ تحاول عبر قنوات عديدة أن توضح لأمريكا مقامرة اليابان على مصالحها الخاصة ضد مصالح أمريكا، ربما لن ينجح الأمر. قامت اليابان مؤخرًا بإرسال مساعدات للفلبين ما سيشجع الأخيرة على الدخول في اشتباك حاد قريب مع الصين على الجزر المتنازع عليها بينهما بتسليح من اليابان، واعتمادًا على تدخل واشنطن إذا تصاعدت الأمور.