حان الوقت للتوقف عن إفقار أفريقيا بسياساتٍ استعماريةٍ تتسبب بموجات هجرة نحو أوروبا، فتجد إيطاليا نفسها وحيدة في مواجهتها. * لويجي دي مايو، رئيس الوزراء ووزير العمل الايطالي يوم 8 يناير ( كانون الثاني) الماضي
كانت هذه هي الرسالة التي وجهها دي مايو إلى باريس متهمًا إيّاها بإفقار الفقراء، في تلميح لمخطط فرنسا في الاستحواذ على السوق الأفريقية، ولم يكن هذا هو الموقف الدولي الوحيد، فقد سبق وأن كرّرت بكين مطالبتها لفرنسا بإنهاء هيمنتها على الدول الأفريقية من خلال الاتفاقيات الموقعة أثناء احتلال فرنسا لعديد الدول الأفريقية، بعد أن أعطت الصين مهلةً من خمس سنوات للإدارة الفرنسية لإلغاء تلك الاتفاقيات، مهددةً باريس في حال عدم الاستجابة بفرض عقوبات اقتصادية كبيرة، في الأسطر التالية نضعك في صورة الصراع الفرنسي الصيني على القارة الأفريقية.
هل تحرّرت أفريقيا فعلًا من الاستعمار الفرنسي؟
في الوقت الذي كانت فيه الدول الأفريقية تطالب باستقلالها منتصف القرن الماضي، وجدت الإدارة الاستعمارية الفرنسية نفسها أمام موقفٍ لم تكن تحسب له الحساب: إمّا أن تخسر امتيازاتها في أفريقيا أو أن تعمل مع الحكام الجدد للدول الأفريقية على استمرار مصالحها وامتيازاتها في القارة الأكبر في العالم، وأمام تصاعد دعوات التحرر التي اجتاحت أفريقيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بدأت جحافل المستوطنين الفرنسيين في الدول الأفريقية في استباق مخططات الحكومة الفرنسية، بعمليات حرقٍ وتدميرٍ لكلّ ما له علاقة بالاحتلال الفرنسي في طريق عودتهم إلى بلادهم.
أرهبت تلك الممارسات الشعوب الأفريقية الطامحة للاستقلال عن فرنسا، ما عجّل بقادة التحرر الأفارقة إلى التفاوض مع فرنسا من أجل ضمان مصالحها كاملة بعد الاستقلال، أفرزت معظم تلك المفاوضات بين الدول الأفريقية وفرنسا اتفاقياتٍ حوّلت الدول الأفريقية إلى دول تابعة -عمليًا- لباريس.
ومنذ سنة 1961، حيث استقلت معظم الدول الأفريقية وحتى لحظة كتابة هذه السطور، هناك 14 دولة أفريقية، بموجب إحدى هذه الاتفاقيات ملزمة بوضع 85% من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي، ناهيك عن استمرارها في دفع ديون فترة الاستعمار الفرنسي لفرنسا.
ماكرون رفقة الرئيس الإيفواري
ساهمت الاتفاقيات التي وقّعتها فرنسا مع الدول الأفريقية إبّان فترة الاستعمار الفرنسي لأفريقيا في بسط النفوذ والهيمنة الفرنسية على القارة، وتقوية اقتصادها على ظهر الشعوب الأفريقية بناء على استشراف الرئيس الفرنسي الأسبق الذي قال في سنة 1957، «بدون أفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين».
وهو الأمر الذي حدا بالإدارة الفرنسية إلى عدم الاكتفاء بالاقتصاد في العلاقة مع مستعمراتها الأفريقية السابقة، بل امتد الأمر ليشمل دعم الانقلابات على الحكام الأفارقة المناهضين للاتفاقيات الاستعمارية الفرنسية، وهو ما حدث مع سيلفانوس أولمبيو، أول رئيس منتخب لجمهورية توغو والذي اغتيل سنة 1963 بسبب رفضه لتلك الاتفاقيات، كما دعّمت باريس الانقلاب على الرئيس المالي موديبو كايتا سنة 1962 لذات السبب.
دعمت فرنسا اتفاقياتها الاستعمارية ومصالحها في أفريقيا على حسب التطورات التي يشهدها العالم، فمع بروز النظام العالمي الجديد، اضطرت فرنسا إلى تحديث سياستها في التعاون العسكري مع الدول الأفريقية، فاعتمدت في سنة 1993 خطة حديثة تقوم على فكرة إنشاء قوة للتدخل السريع مهمتها التدخل العسكري و في وقت قصير في كل أنحاء القارة الأفريقية ومساعدة القوات الفرنسية الموجودة في القواعد الفرنسية بأفريقيا، كما أعدّت وزارة الخارجية الفرنسية سنة 1997 «مشروع أفريقيا»، الذي يعتبر خارطة الطريق للسياسة الفرنسية الجديدة في أفريقيا، حيث يشتمل على بنود عامة تنظم كيفية التعامل والتواصل مع النخب السياسية الشابة الأفريقية وسبل إعدادها في فرنسا لتصبح رابطًا أساسيًا بين فرنسا وبين مصالحها في أفريقيا.
وأمام هذا الوضع أضحت فرنسا المهيمن الأبرز على أفريقيا من خلال كونها أكبر مانحٍ للمعونات الاقتصادية للدول الأفريقية وصاحبة أكبر قدرٍ من الاستثمارات الأجنبية بالقارة الأفريقية معتمدةً في ذلك على روابطها اللغوية والثقافية بمستعمراتها السابقة، كما تعدّ فرنسا المستورد الأكبر للمواد الخام والمصدر الأكبر للسلع المصنعة لأكثر من 30 دولة أفريقية.
وبرز النشاط الفرنسي في السنوات الأخيرة، في المناطق التي تمثل دوائر مصالح كبرى لها، وهو ما تجلى في التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا سنة 2011، والتي تعدّ إحدى أكثر الدول التي تتواجد بها مصالح اقتصادية فرنسية، كما تدخلت القوات الفرنسية في كلٍ من مالي وأفريقيا الوسطى لحماية المصالح الفرنسية المهددة في البلدين.
المعاهدات الاستعمارية الجدار الصلب في وجه الصين
مع تصاعد غضب بعض القادة الأفارقة من استمرار الاتفاقيات والمعاهدات الاستعمارية الفرنسية، انضمت الصين في أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي إلى جانب الدول الأفريقية مطالبة بدورها فرنسا بإلغاء هذه المعاهدات التي تكبّل مشاريعها وتعيق تقدم مشروع «طريق الحرير» في القارة السمراء، وتوجهت بكين بطلبٍ إلى باريس لإلغاء الميثاق الاستعماري الذي يقيّد واردات الدول الأفريقية ويفرض عليها الاستيراد من فرنسا حصرًا، ناهيك عن استحواذ فرنسا على غالبية ميزانيات الدول الأفريقية، ووفقًا لهذه المواثيق، تجد الصين التي تملك 40% من إنتاج البترول الخام في الكونغو، نفسها مجبرةً على المرور عبر البنك المركزي الفرنسي قبل أن تدخل رؤوس الأموال إلى الكونغو، وهو أمر يستغرق وقتًا ويتسبب في انخفاض قيمة العملة الصينية.
الثقافة أحد دعائم الهيمنة الفرنسية على أفريقيا
ووفقًا تقريرٍ لموقع «أفريكا 24»، الناطق بالفرنسية، فإن مسؤولين صينين اجتمعوا مع الحكومة الفرنسية في أغسطس (آب) الماضي في العاصمة الفرنسية باريس لوضع حدٍ للميثاق الاستعماري الذي فرضته فرنسا على 14 دولةٍ أفريقية، وتحاول الحكومة الضغط لإلغاء هذا الاتفاق مع دول أفريقية تمتلك فيها بكين مصالح هامة من أصل 14 دولةً يشملها الميثاق، وتضم قائمة الدول المعنية، كلًا من الكونغو، بنين وبوركينا فاسو وغينيا بيساو وكوت ديفوار ومالي والنيجر والسنغال وتوغو والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو برازافيل وغينيا الاستوائية والغابون.
وكانت إيطاليا فتحت ملف الهيمنة الفرنسية على أفريقيا من خلال تصريحات نائب رئيس وزراء الإيطالي دي مايو التي انتقد فيها فرنسا محملًا إياها مسؤولية هجرة الشباب الأفريقي إلى أوروبا، ومتهمًا إياها بإفقار أفريقيا مطالبًا الاتحاد الأوروبي بأن يفرض عقوباتٍ على باريس لأنها تدفع الأفارقة إلى الفقر.
هل ستقضي الصين على الهيمنة الفرنسية على أفريقيا؟
خلال القمة الأفريقية الصينية التي انعقدت في بكين مطلع شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وعد الرئيس الصيني شي جينبينغ بتقديم حوالي 60 مليار دولار لتمويل مشاريع تنمية في أفريقيا في السنوات الثلاث المقبلة، لتصبح الصين أحد أكثر الفاعلين الاقتصاديين في الساحة الأفريقية، وتشير دراسة أجرتها «وكالة ماكنزي الأمريكية» أن أكثر من ألف شركةٍ صينيةٍ تعمل حاليًا في أفريقيا.
في ما تتحدث بعض المصادر عن 2500 شركة صينية تعمل على الأراضي الأفريقية، 90% منها شركات خاصة، وتتسم السوق الأفريقية بميزة الاتساع في استقبال المنتجات، إذ يبلغ حجمها 900 مليون نسمة، ما يجعلها هدفًا للصين الباحثة عن فرص التسويق الكبير لمنتجاتها غير أنّ احتكار فرنسا لهذه السوق جعل الصين تفكر بجديةٍ في إنهاء الهيمنة الفرنسية على الاقتصاد الأفريقي.
مساعدات بالمليارات من الصين للدول الأفريقية
ومنذ أكتوبر (تشرين الأول) 2000 بدأت الصين في مخططها لسحب البساط من فرنسا في الهيمنة على القارة الأفريقية حين بادرت الصين إلى إنشاء «منتدى التعاون الصيني-الأفريقي» لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والبلدان الأفريقية في القطاعين العمومي والخاص، وهو المنتدى الذي صار اليوم يضم في عضويته أكثر من 45 دولة أفريقية، وهو ما أسهم في ترسيخ النفوذ الصيني في أفريقيا، ووضع العلاقات الاقتصادية الصينية-الأفريقية في مسارٍ سريع ومتينٍ.
وسجلت التجارة الصينية مع أفريقيا نموًا سريعًا منذ عام 2000 وحتى عام 2017، حيث ارتفع إجمالي حجم التجارة بين البلدين نحو 17 مرة، لتصبح الصين بذلك أكبر شريك تجاري لأفريقيا لتسع سنوات متتالية، ومن المتوقع أن تبلغ حجم التجارة بين الصين وأفريقيا قرابة 400 مليار دولار بحلول عام 2020.
وأمام الهيمنة التاريخية لفرنسا على القارة الأفريقية، تجد الصين صعوبة في تسريع بسط نفوذها على القارة السمراء، وهو الأمر الذي دفع بالإدارة الصينية إلى توجيه إنذارٍنهائي للحكومة الفرنسية متمثلًا في مهلةٍ لمدة خمس سنوات لوضع حدٍ لاتفاقياتٍ تحول دون بسط الصين نفوذها الاقتصادي على أفريقيا.
القمة الصينة الأفريقية في بكين عام 2018
ويحتلّ مشروع «طريق الحرير» الذي أعلن عليه الرئيس الصيني شي جينبينغ سنة 2013 بوابة الصين للتوغل أكثر داخل أفريقيا، من خلال المشاريع المرافقة له، التي من المتوقع أن تحقق للقارة طرقًا سريعة بطول 30 ألف كيلومتر، وطاقة موانئ تبلغ 85 مليون طن كل عام، وخلق ما يقرب من 900 ألف وظيفة.
وتشير التوقعات أن قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من أفريقيا بحلول 2025 قد تصل إلى 440 مليار دولار،.فيما تعدّ كلٌ من جنوب أفريقيا وإثيوبيا مِن بين الدول التي تتصدر الطليعة فيما يتعلق بالاستثمارات الصينية، بينما تحتل زامبيا وأنجولا ذيل الترتيب.