كان الصليب سلاحه، فلم يحمل طيلة حياته أي سلاح، كان رجلًا عظيمًا عاش من أجل قناعاته على الرغم من الضغوط النفسية والجسدية الكبيرة التي تعرض لها على يد الإسرائيليين. *قرينة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تصف المطران كابوتشي
كان دعمه للقضية الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي واضحًا لا لبس فيه، ألقى المحاضرات والدروس والعظات عن ضرورة تحقيق العدالة للفلسطينيين، وعما تمارسه سلطات الاحتلال من وحشية وانتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطيني، ولما اندلعت الثورة الفلسطينية عام 1965 سابق للوقوف في موقف المدافع، وصار صديقًا للرئيس الراحل ياسر عرفات، وهي الصداقة التي دامت حتى وفاة عرفات.
في 8 أغسطس (آب) عام 1974 ألقت الشرطة الإسرائيلية القبض عليه لتهريبه أسلحة إلى الضفة الغربية، إذ عثرت السلطات بحوزته على قنابل يدوية، وبنادق، ومتفجرات كان يخطط لتسليمها إلى منظمة التحرير الفلسطينية. هذا هو الأب هيلاريون كابوتشي، شهيد القدس وبطل القضية الفلسطينية.
المطران هيلاريون كابوتشي مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
تشكلت الهوية الوطنية الفلسطينية في سياق تاريخي صاحب حالة الاحتلال، بدايةً من الاستعمار البريطاني ومن بعده الاستيطان الصهيوني، تجاوزت هذه الهوية مشتركات الدين، واللغة، والتاريخ، والعادات، والثقافة، والبقعة الجغرافية إلى الإحساس الجمعي بمرارة اللجوء، وروح التضحية والمقاومة والسعي لنيل الحق في تقرير المصير، ومن بين مظاهر هذه الهوية أن عجت المقاومة بنماذج غير إسلامية، مسجلةً أيقونة النضال المسيحي على هذه البقعة الغالية من الأرض العربية، يعرض التقرير نماذج لمقاومين مسيحيين كان لهم تاريخ من النضال في وجه المحتل الإسرائيلي.
الأب كابوتشي بين العمل المسلح وأساطيل الحرية
وُلد هيلاريون كابوتشي عام 1922 في مدينة حلب السورية، إبان حكم الاحتلال الفرنسي، تولى منصب الكاهن الكاثوليكي للرهبانية الباسيلية الحلبية في صيف عام 1947، وبعدها بتسعة أعوام أصبح رئيسًا للأساقفة، وفي عام 1965 أصبح وكيل البطريرك في القدس.
بدأ نضاله الفلسطيني ستينيات القرن الماضي، ولم يعجزه السجن والتعذيب الذي تعرض له في سجون الاحتلال الإسرائيلي عن مواصلة النضال، بل وجد في منفاه حرية الحركة، فحضر اجتماعات المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية في دمشق عام 1979، وشكّل حلقة الوصل بين الفاتيكان وأمين سر حركة فتح فاروق القدومي.
وعُرف المطران كابوتشي بنشاطه في خلايا حركة فتح، وكان مسؤولًا عن نقل الأسلحة للمقاومين في عربته الخاصة، وبعد عدة عمليات نوعية نفذها تنامى إلى علم المخابرات الإسرائيلية نشاطاته، فراقبته وتتبعت حركته حتى أوقفت سيارته في 8 أغسطس (آب) عام 1974، وكان كابوتشي نفسه ومساعده يستقلانها.
نُقلت السيارة ومن فيها إلى مركزٍ للشرطة في معتقل المسكوبية بالقدس، حيث جرى تفكيكها وتفتيشها، وكانت المفاجأة أن ضُبطت كميات كبيرة من الأسلحة، منها أربعة رشاشات كلاشينكوف ومسدسان، وعدد من الطرود تحوي متفجرات بلاستيكية، وصواعق كهربية، وقنابل يدوية، وآلاف الأعيرة النارية.
خلال التحقيق مع المطران كابوتشي أنكر في البداية ضلوعه في عملية التهريب، وقال إن الوسائل القتالية نُقلت إلى سيارته دون علمه، غير أن مغلفًا عثر عليه لدى تفتيش أمتعته كتب عليه بخطّه رقم المسؤول الفتحاوي -يدعى أبو فراس في لبنان- وهو ما أثبت بالدليل ضلوعه في هذا المخطط، وعندها اعترف كابوتشي بأنه تلقى في أبريل (نيسان) 1974 من أبي فراس حقيبتين نقلهما بسيارته إلى الضفة الغربية، حيث أخفاهما داخل مدرسة الكنيسة اليونانية الكاثوليكية في بيت حنينا بالقدس المحتلة، وروى كابوتشي أيضًا أنه طُلب منه في شهر يوليو (تموز) من العام نفسه نقل وسائل قتالية أخرى أُخفيت في أماكن مختلفة داخل سيارته، لكن ضُبطت داخل السيارة عند اعتقاله.
حكم عليه بالسجن 12 عامًا، قضى منها أربعة أعوام قبل أن يتدخل الفاتيكان ودولٌ أوروبية للإفراج عنه، ولم يتوقف نضال كابوتشي عند هذا الحد؛ ففي أوائل الألفية الجديد، ظهر كابوتشي مجددًا لينتقد الحرب الأمريكية على العراق، ويؤيد الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وفي عام 2009، كان على متن السفينة اللبنانية المتجهة إلى غزة لمحاولة فك الحصار عنها، والتي استولت عليها القوات الإسرائيلية وأعادتها ومن عليها مرة أخرى إلى لبنان، وبعد عام عاد ليشارك في أسطول الحرية، وكان على متن السفينة التركية «إم في ما في مرمرة» التي استولت عليها إسرائيل وقتلت من مستقليها تسعة أشخاص، وأُلقي القبض على كابوتشي للمرة الثانية، واحتجز في سجن بئر سبع، وجرى ترحيله لاحقًا وسط استنكار دولي.
ونُفي كابوتشي إلى روما حتى توفي فيها مطلع العام الماضي عن عمر يناهز 94 سنة، قضاها جميعها في خدمة القضية الفلسطينية، وفي وداعه قالت الشاعرة والصحفية الفلسطينية ريموندا الطويل: «في وداعه، لا يسعنا إلا أن نقول إنه كان رجلًا قويًا وحازمًا وثابتًا، مثله مثل قلعة حلب التي أحبها بشدة».
«الحكيم» جورج حبش
جورج نقولا رزق حبش، الابن لأسرة فلسطينية من الروم الأرثوذكس، ولد في أغسطس (آب) عام 1925، شق طريقًا طويلًا في المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي بعدما درس الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، ومن أبرز الحركات التي أسسها حركة القوميين العرب التي تأسست عقب نكبة 1948، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد نكسة 1967.
الدكتور جورج حبش (الحكيم)
تأسست حركة القوميين العرب عام 1952، وعُقد مؤتمرها الأول سرًّا في عمّان عام 1956، وشدد المؤتمر على أهمية النضال المسلح، وعدم التنازل عن حق العودة لمئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، لكن سرعان ما أتت أحداث سبتمبر (أيلول) الأسود وخرج الفدائيون من الأردن إلى سوريا، ساعدهم على ذلك تنامي المشروع الناصري القومي والوحدة بين مصر وسوريا، فكانت إقامة حبش أكثرها في سوريا، حتى فشلت الوحدة العربية، وجاء البعثيون إلى رأس السلطة في سوريا، ونكّلوا بالقوميين أيُّما تنكيل، فكان حبش أحد ضحايا هذا التنكيل، إلا أنه تمكّن من الاختباء والفرار إلى لبنان مع زوجته وابنة عمه وطفلته ميساء.
إبان النكسة، وبينما كان جورج حبش نزيلًا في الأراضي الأردنية انصرف إيمان الرجل من عبد الناصر إلى الشعوب، ورأى ضرورة أن يرتكز الكفاح على الشعوب لا القادة، وأن يكون الشعب الفلسطيني محور المقاومة وذروة سنامها، فتواصل مع جبهة التحرير الفلسطينية حديثة التأسيس، وعدد من فصائل الكفاح المسلح، وخرجت للنور الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ديسمبر (كانون الأول) 1967.
رأي جورج في الانضواء تحت ظل الجامعة العربية ونزوع الرئيس عرفات إلى الأمل الدبلوماسي انحرافًا عن القضية المقدسة للثورة، ورأى أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، ولذا سحبت الجبهة الشعبية ممثلها من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 1974، احتجاجًا على سياسات عرفات.
جورج حبش إلى جوار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
حاول الاحتلال الإسرائيلي اصطياده أكثر من مرة، كانت أبرز المحاولات عملية اختطاف طائرة مدنية لبنانية بهدف اعتقاله، لكنه كان قد تلقى أخبارًا تحذيرية وغادر المطار قُبيل استقلال الطائرة، تبعت هذه العملية الفاشلة عملية اغتيال الأديب الفلسطيني الثوري غسان كنفاني.
غاب الحكيم عن قيادة الجبهة عام 2000 بعدما تعرض لعدة وعكات صحية، ليتسلمها رفيقه مصطفى الزبري الذي اغتالته إسرائيل قبل مرور عام على رئاسته، ويرحل الحكيم عن دنيا البشر في يناير (كانون الثاني) من عام 2008.
وديع حداد.. «الثعلب» الذي أرّق أعداءه طويلًا
رفيق الدراسة والنضال لجورج حبش، درس معه الطب في الجامعة الأمريكية بلبنان، وأسس معه حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، آمن بالمبادئ الثورية ذاتها، وطبقها على أرض الواقع في سلسلة من العمليات العابرة للحدود هزت صورة إسرائيل لسنوات.
خضع وديع للسجن في الأردن ثلاث سنوات، قبل أن يخرج ويتولى القيادة العسكرية لحركة القوميين العرب، ومن بعدها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن المفارقات في مسيرته أنه قاد عملية اختطاف الحكيم جورج حبش رفيق نضاله من أحد السجون العسكرية في سوريا، حيث كان مقررًا إعدامه. ومثل وديع كمثل صاحبه لما ضاقت عليهم عمّان بما رحبت، وسعتهم سوريا، ثم ضاقت فوسعتهم لبنان.
فيلم قصير عن «الثعلب» الفلسطيني
اللحظة الفارقة بين الثعلب والحكيم كانت برفض الأول قرار الجبهة الشعبية بوقف العمليات الخارجية، كاختطاف الطائرات وتفجير المطارات، إذ رأت الجبهة أن القضية الفلسطينية صارت معروفة للجميع في مختلف أقطار العالم، وأن هذا النوع من العمليات بات يضر القضية أكثر مما يفيدها، مما أودى بفصله هو ومن معه من التنظيم العسكري للحركة.
لكن ذلك لم يمنع الحكيم من نعيه والأسف على وفاته متسممًا في العراق عام 1978، بتدبير من الموساد الإسرائيلي باستخدام شيكولاتة بلجيكية، وكان الموساد قد عرف نقطة الضعف هذه عند وديع، ولهه بالشيكولاتة البلجيكية، التي لم تكن موجودة في العراق، لكنهم سعوا من خلال عميل فلسطيني كان يرافق وديع على إدخالها وتقديمها للرجل رقم واحد على لائحة المستهدفين لدى الموساد والمخابرات الغربية.
الأب مانويل مسلم ونضاله المستميت
إذا منع الاحتلال الأذان في مساجد القدس، ارفعوا الأذان فوق أجراس كنائسنا. *الأب مانويل مسلم
عُرف الأب مانويل مسلم بنضاله المستميت في سبيل قضيته الفلسطينية، وعُرف عنه أيضًا قربه من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إذ تقاعد من عمله كاهنًا للرعية الكاثوليكية في غزة عام 2009، ولم يتقاعد أو تهدأ ثورته بعد.
رسالة الأب مانويل لمقاتلي حركة حماس
وُلد مانويل حنا شحادة مسلّم يوم 16 أبريل (نيسان) 1938، في بيرزيت بفلسطين، نال تعليمه الأساسي مكان ولادته، ثم التحق بالمعهد الإكليريكي في بيت جالا عام 1951، ودرس علم اللاهوت والفلسفة وتخرج عام 1963.
تولى الأب مانويل عضوية ورئاسة العديد من المنظمات النضالية على المستوى المحلي داخل أراضي فلسطين المحتلة، فهو عضو في الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، ورئيس للهيئة الفلسطينية المستقلة لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وعضو في هيئة العمل الوطني غزة، وعضو مؤسس بيت الحكمة في غزة، وعضو مؤسس في لجنة كسر الحصار المفروض على غزة، وعضو ناشط أيضًا في لجان مهتمة بالمصالحة الوطنية الفلسطينية.
انتقد الأب مانويل التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال، ودعا مرارًا للعصيان المدني وإسقاط الاحتلال، كما أن له جهودًا دعا فيها لرأب الصدع الفلسطيني وهي خطوة ضرورية وأولية لعملية مقاومة الاحتلال وهزيمته.
لطالما كانت القضية الفلسطينية قِبلة القوميين العرب والإسلاميين السياسيين، ولطالما كانت كذلك الأمل لإحياء المشروعين العربي والإسلامي، فلم تغلق فلسطين باب الكفاح على تيارٍ دون تيار، أو طائفة على حساب أخرى، وكان النضال المسيحي في القلب من الثورة الفلسطينية وتاريخ كفاحها المسلح على المستويين الداخلي والخارج.
وخلافًا لمن سبق ذكرهم من الفاعلين على الأرض عجت فلسطين بالمنظرين من أمثال الدكتور منير شفيق، وهو مسيحي ماركسي تحول إلى الإسلام، وما تزال كتاباته في الماركسية إلى اليوم مرجعًا لأحزاب اليسار العربي على قلتها. كذلك عزمي بشارة عضو الكنيست السابق، وصاحب المخزون الوافر من التنظيرات العروبية كان أبرزها كتابيه «في المسألة العربية» و«أن تكون عربيًا في أيامنا».