منذ بداية نشأة فن السينما مع نهاية القرن التاسع عشر وأصبح الاعتماد الأكبر عليها كسحر متعلق بالصورة والحركة، وإدخال البهجة والدهشة على المشاهدين. ليتطور الأمر قليلًا في كل من فرنسا والولايات المتحدة بالانتقال من عرض أفلام المونولوج والقصص الخفيفة إلى فن مناقشة حياة البشر وأحلامهم. كذلك هو الحال في مصر وما آلت إليه تطورات السينما مع بدايات القرن العشرين وحتى اليوم.
تميزت السينما المصرية في بداية عهدها بكل سمات المجتمع المصري حينئذ؛ فقد غلب عليها الطابع الرومانسي والهادئ الذي يناقش المشكلات العاطفية والعلاقات بين طبقات المجتمع المصري.
ظهر قانون الرقابة الفنية لأول مرة في مصر عام 1947 على غرار القانون الأمريكي الصادر عام 1946 وكان يتبع إدارة الدعاية والإرشاد بوزارة الشؤون الاجتماعية. وقد كان يمثل أكبر صور لوصاية الدولة على الإنتاج الثقافي باسم 4 عناصر رئيسية وهي؛ الأمن والنظام العام، الجريمة، الجنس، الدين.
في هذا التقرير سوف نستعرض تاريخ القفزات التي مرت بها السينما في محاولة للخروج عن المعتاد وكيف قوبلت هذه المحاولات.
1- سينما الملك فاروق: الدولة «المثالية» والبشر منبع الشرور
السينما تستعرض المجتمع كما هو، تسلط الضوء على قصص ترى فيها حياة الجيران والأهل، المجتمع المتصالح مع تكوينه الطبقي والمطامع تدفع الأفراد لارتكاب الشرور. صورة رجل الشرطة المثالي الذي يأتي دومًا لحسم الموقف في النهاية بحزم وقوة، فالشر ربما يأخد مجاله لبعض الوقت ولكن النهاية دومًا مضمونة للخير. العلاقات العاطفية والأسرية هي سيدة الموقف في سينما ما قبل ثورة يوليو؛ فنذكرمنها على سبيل المقال فيلم بابا أمين، لعبة الست ، أبو حلموس، السوق السوداء وغيرها.
ولكن بدأت في الظهور بعض النماذج التي حاولت التمرد على القاعدة وتجاوز الخطوط وهي:
1- فيلم لاشين 1938
بدأت السياسة في الدخول إلى السينما المصرية على يد فيلم لاشين، والذي يعتبره البعض البشائر الأولى للثورة. حيث يتعرض الفيلم لقصة حاكم متعدد العلاقات النسائية وينشغل عن إدارة شؤون الرعية موليًا الأمر لرئيس وزراء فاسد وعندما يتعرض لاشين – قائد الجيش – لرئيس الوزراء محاولًا أن ينبهه لخطورة ما يفعل يتم إيداع لاشين في السجن. ليصبح العدل مرهونًا بخروجه. تم منع الفيلم من العرض في السينمات حيث اعتبر الملك فاروق الفيلم يلمح إلى شخصه. الفيلم من إخراج الألماني فريتز كرامب وبطولة الشاب حسن عزت الذي تعلم التمثيل في فرنسا ولم يقف أمام الكاميرا إلا في هذا الفيلم.
2- فيلم مسمار جحا 1952
جحا خطيب مفوه في الكوفة يخطب في الناس ويحثهم على رفض الاحتلال ورفض الظلم والجور الواقع عليهم من حكامهم كما يحض دينهم، فترى السلطات خطورة جحا وتأمر بإيداعه السجن إلا أنه يرفض الصمت والإذعان. الفيلم من قصة علي أحمد باكثير وبطولة عباس فارس وإسماعيل يس وقد تم منع الفيلم من العرض لأن الرقابة رأت فيه تعرضًا للملك وقد تم رفع الحظر عنه بعد الثورة.
3- ليلى بنت الصحراء 1937
ربما يخرج هذا الفيلم قليلًا عن سياق حديثنا ولكنه من الأفلام التي تم منعها أيضا لأسباب سياسية حتى وإن اختلفت عن الفيلمين السابقين، وهنا أن الفيلم يتحدث عن ظلم كسرى ملك الفرس ومحاولته لخطف فتاة من حبيبها وتطور الأحداث إلى اقتحام قصر كسرى وقتله. وقد تم منع الفيلم حينها لسبب زواج الملكة فوزية أخت الملك فاروق من شاه إيران وهذا يتعرض للعلاقات الدبلوماسية وربما يرى البعض فيه رفضًا لفكرة جرأة العامة على الملك والانقضاض على حكمه والخلاص منه.
بعد ثورة يوليو وفي عام 1954 تم تعديل قانون الرقابة ليتم منع الأحداث تحت سن الـ 16 عام من دخول دور السينما ومثيلاتها. ثم أصدرت وزارة الإرشاد القومي قانونًا كتبه الدكتور عبد الرازق السنهوري عام 1955 ليحل محل قانون الرقابة لعام 1947 واقتصر القانون على تنظيم العوامل الإجرائية للعمل الثقافي والفني دون التطرق للمحتوى قيميًا وأخلاقيًا ولكن صدرت معه مذكرة توضيحية لتوضح الغرض من الرقابة وهي حماية الأمن والنظام العام والآداب العامة ومصالح الدولة العليا.
2- سينما عبد الناصر: الناطق الرسمي باسم الثورة
كان الانتقال الأكبر في تاريخ السينما هي فترة ما بعد ثورة يوليو والتحول الكبير في نظام الحكم، فتحولت السينما إلى آلة دعائية كبيرة للترويج ضد النظام الملكي وإبراز الجوانب السلبية لهذه الفترة في مقابل تحقيق حلم الثورة والتحول الكبير في حياة المصريين وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا ما برز في سلاسل أفلام إسماعيل ياسين في الجيش، وفي البحرية، وفي الطيران إلى جانب أفلام انتقاد النظام الملكي كأفلام القاهرة 30، رد قلبي، الأيدي الناعمة، شروق وغروب، الأرض. وأفلام مناهضة الاحتلال وتواطؤ النظام الملكي عليه مثل في بيتنا رجل، ولا وقت للحب. ويذكر أن جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي طلب من الفنان فريد شوقي عمل فيلم عن العدوان فتم إنتاج فيلم بورسعيد. وقد رأى بعض النقاد أن فيلم الناصر صلاح الدين (بكل ما يحمله من أخطاء تاريخية) جاء ليؤكد فكرة البطل المنتظر المتمثل في صلاح الدين وإسقاطه على شخص عبد الناصر.
كذلك صدر قرار جمهوري في 1957 ينص على إنشاء مؤسسة دعم السينما، للارتقاء بالإنتاج السينمائي وتقديم الدعم المادي من خلال المساهمة في عرض الأفلام في الخارج. كما تم إنشاء معهد السينما عام 1959. وكانت مهمة الثقافة مدمجة تحت وزارة الإرشاد. كما عملت الحكومة على تأميم صناعة السينما وذلك بتأميم أكبر شركات الإنتاج ولم يتبق إلا بعض الدور القليلة جدًا التي تنتج أفلامًا لحسابها الخاص وهذا ما دفع بعض المخرجين الكبار إلى مغادرة مصر إلى بيروت مثل يوسف شاهين وفريد شوقي وعاطف سالم. وهناك قدموا أفلامهم ولكنها كانت ضعيفة للغاية.
ومن أبرز الأفلام التي عارضت النظام وتم منعها من العرض خلال هذه الفترة:
1- شيء من الخوف 1969
عتريس المستبد الذي يلقى حتفه على يد من وقع عليهم الظلم والاستعباد. لاقى فيلم شيء من الخوف الكثير من الانتقاد وقت عرضه وتم حظره نظرًا لما لمحت فيه الرقابة من تلميح لشخص جمال عبد الناصر. إلا أن جمال عبد الناصر قام بمشاهدته أكثر من مرة قبل أن يجيز عرضه وقال عنه: “لا يمكن أن يكون الفيلم يقصدني فلو كنت بهذه البشاعة حق الناس يقتلوني“.
2- المتمردون 1968
يذهب دكتور عزيز للعلاج في أحد المصحات في المناطق النائية ليجد المصحة منقسمة إلى قسمين؛ قسم لأصحاب المال والنفوذ والآخر للفقراء والطبقة الغالبة من الأهالي. يتمرد الأهالي على الأوضاع ويستولون على المصحة إلا أن القوات تقضي على التمرد ولكن الأمل في القضاء على الظلم يزال في النفوس. الفيلم بطولة شكري سرحان وتم منعه من العرض لتصويره المجتمع المصري في عصر عبد الناصر باعتباره مجتمعًا طبقيًا وأنه يسيء إلى سمعة مصر.
اقرأ أيضًا: أهم ظواهر السينما المصرية .. عهد عبد الناصر
جاء قرار 220 لسنة 1976م الذي أصدره د. جمال العطيفي، وزير الثقافة والإعلام حينها، ليعيد أغلب بنود قانون 1947 بالتفصيل.
3- سينما السادات: جرائم النظام السابق تطفو على السطح
على نهج سينما عبد الناصر، تحول تناول السياسة من خلال السينما إلى مهاجمة للنظام السابق من خلال إبراز الجوانب السيئة والتركيز عليها دون غيرها. فمع تركيز السينما في عهد عبد الناصر على جوانب الظلم في عهد الملك في مقابل الجوانب الإيجابية في عهد عبد الناصر للتأكيد على مدى الحرية والعدالة التي تم تحقيقها، عمدت السينما في عهد السادات إلى التركيز على كشف خفايا الاستبداد السياسي والقمع الأمني في عهد عبد الناصر في مقابل الحريات المتاحة في عهد السادات. ونرى في هذه الفترة بزوغ أفلام قوية للغاية تركت أثرًا كبيرًا في قلوب المشاهدين مثل الكرنك، إحنا بتوع الأتوبيس.
المرحلة الثانية من عهد السادات هي مرحلة حرب أكتوبر حيث توجهت السينما ككل أيقونات الوطن إلى الالتفاف حول الوطن في انتصاراته على العدو الإسرائيلي. فكان إنتاج أكبر عدد من الأفلام التي صورت رحلة معاناة الجيش المصري في رحلة الانتصار ومنها: الرصاصة لا تزال في جيبي، العمر لحظة، أبناء الصمت.
ثم تأتي المرحلة الثالثة والمتمثلة في سينما المقاولات التي انتشرت مع بداية الانفتاح الاقتصادي التي مرت بمصر وأثرت على المستويات كافة.
ولكن خلال هذه الفترة برزت بعض الأفلام التي خرجت عن الإطار لتقف في صفوف المعارضة وهي:
1- العصفور 1974
يناقش الفيلم بعض صور الفساد في المجتمع المصري قبيل هزيمة 1967 متمثلة في السرقات التي تقع في القطاع العام. والفيلم بطولة محمود المليجي ومحسنة توفيق وإخراج يوسف شاهين. لم يعرض الفيلم حتى مرور عامين من الانتهاء منه. فقد رأت الرقابة الفنية أنه يهاجم ثورة يوليو. وتم عرضه بعد حرب أكتوبر.
2- زائر الفجر 1975
تحقيقات في مقتل امرأة تٌعرف بالنشاط السياسي والثورية، تكشف التحقيقات عن فساد سياسي كبير في أنظمة الدولة. الفيلم بطولة ماجدة الخطيب وعزت العلايلي. وتم منع الفيلم من العرض لتعرضه بشكل مباشر إلى فساد الدولة واستخدام توصيفات جريئة عن المناخ الفاسد. وتم تغيير جزء من النهاية عندما تم الموافقة على عرضه. أدى حظر الفيلم إلى إصابة المخرج باكتئاب شديد أدى إلى وفاته بمرور الوقت وإحباط شديد للفنانة ماجدة الخطيب التي كانت منتجته أيضًا.
اقرأ أيضًا: أهم ظواهر السينما المصرية.. عهد السادات
جاء قانون 38 لسنة 1992م، الصادر عن وزارة الثقافة، معدّلًا لقانون 1955م، في النواحي الإجرائية فقط، كالتركيز على “تنظيم الإعلانات التجارية” دون التطرّق للمحتوى الفنّي قيميًا وأخلاقيًا.
4- سينما مبارك: السينما تناطح السلطة
استمر عصر مبارك ما يزيد عن 30 عام وهو بالتأكيد يشمل تغيرات أكبر بكثير من سابقيه ومرت خلاله الحياة بتطورات كبيرة ومنها السينما بكل تأكيد، والتي اكتسبت طابعًا جديدًا إلى جانب انتقاد النظم السابقة وهو النزوح إلى الواقعية ومناقشة حياة الناس بشكل أعمق وقدرة أكبر على التعبير. فنجد الأفلام التي تناقش حياة المواطن البسيط في عصر ما بعد الانفتاح ومشكلاته وتغير بيئة المجتمع المصري كفيلم انتبهوا أيها السادة، البيه البواب. كذلك انتشار الأفلام التي تناقش مشكلات المجتمع الجديدة وكيف تتعامل معها السلطة كفيلم الباطنية، الإرهاب، كراكون في الشارع، الإرهاب والكباب. هذا إلى جانب استمرار الأفلام الوطنية للتأكيد على الهوية المصرية والانتماء الوطني مثل إعدام ميت، 48 ساعة في إسرائيل، مهمة في تل أبيب، بئر الخيانة، فتاة من إسرائيل وغيرها.
لا أحد ينكر الجرأة والمباشرة في حالات كثيرة والتي عرضت بها السينما قضايا المجتمع، وفي أحيان أخرى كان التعرض غير المباشر دون المساس برأس الدولة والاكتفاء بالتلميح لفساد المسؤولين وفقط. إلا أن سينما المعارضة اتخذت مسارًا آخر قادرًا على التنفيس عن مشاعر المجتمع وآلامه. ومن هذه الأمثلة:
1- الغول 1983
ابن رجل الأعمال الكبير يقتل رجلًا مسنًّا ويتسبب في إعاقة لفتاة رفضت أن تشاركه نزواته. السلطة والنفوذ قادرة على حماية القاتل ومعاقبة كل من يفكر في قول الحقيقة. الفيلم بطولة عادل إمام وفريد شوقي. وقد اعترضت الرقابة الفنية على الفيلم لاتهامه السلطة بالتواطؤ مع رجال الأعمال حتى تقرر في النهاية عرضه بعد موافقة وزير الثقافة.
2- البريء 1986
https://youtu.be/ctle1lSQCXw
الفيلم الأشهر على الإطلاق الذي تناول قضية السجن السياسي في مصر وكيف يتم استغلال جهل الشباب الملتحق بالجيش في تعذيب الخصوم. اشتهر الفيلم نتيجة ما ارتبط به من انتفاضة الأمن المركزي الشهيرة. بعد عرض الفيلم بأيام قليلة تم حظره وحذف أجزاء تصل إلى 6 دقائق من نهايته ولم يتم عرض النهاية الأصلية إلا بعد 19 عامًا.
2- ضد الحكومة 1992
المحامي الذي قرر أن يقف في المحكمة أمام وزير التعليم والنقل ورئيس هيئة السكك الحديد، وكيف تستغل الحكومة سلطتها في تدمير المحامي الباحث عن حقوقه. الفيلم يوضح مدى تفشي الفساد وغياب العدالة والحقوق. الفيلم بطولة أحمد زكي وإخراج عاطف الطيب الذي تميز في أفلامه بالجرأة والصدق في مناقشة قضايا الإنسان المصري.
3- كتيبة الإعدام 1989
مجموعة من الفدائيين يحاربون العدو الإسرائيلي في حرب السويس ويجمعون الأموال من المواطنين البسطاء لتوفير السلاح، الخائن الوحيد الذي يسرق الأموال ويرشد العدو على مخبأ الفدائيين يصبح بعد مرور عدد من السنوات ذا منصب ونفوذ في الدولة حتى يقرر أحد الفدائيين البحث عنه والانتقام منه. يقدم الفيلم إسقاطًا لكيفية وصول الناس إلى السلطة في مصر. الفيلم بطولة نور الشريف وإخراج عاطف الطيب.
إلى جانب هذه الأفلام نجد عددًا من الأفلام التي ناقشت الفساد السياسي في الدولة بشكل مباشر وكيفية استغلال النفوذ كفيلم الحقونا الذي ينهيه نور الشريف بحديث مباشر لصورة الرئيس حسني مبارك يعاتبه على سكوته عن الفاسدين.
فيلم المواطن مصري الذي يناقش قضية تأدية الخدمة العسكرية وكيف يتم استغلال الفقر والحاجة في مقابل النفوذ للتهرب من الجيش باستبدال العمدة ابنه بابن أحد المزارعين الفقراء.
فيلم المصير الذي تعرض لفكرة الحاكم والمحكوم بشكل غير مباشر ليؤكد في نهايته أن الأفكار لا يمكن قتلها فهي تمتلك أجنحة لتطير بها.
فيلم النوم في العسل؛ وتحدث كاتبه وحيد حامد حول تعرض الفيلم لفكرة العجز السياسي بشكله المطلق في صورة العجز الجنسي ليسمح بمساحة أكبر من الحرية في استيعاب الفكرة من المشاهدين.
اقرأ أيضًا: أهم ظواهر السينما المصرية .. عهد مبارك
علامات
reports_unit, أفلام, أفلام سياسية, أفلام ممنوعة من العرض, السادات, السينما المصرية, الملك, سينما, عبد الناصر, مبارك, معارضة