بالرغم من التغيرات الكثيرة التي حدثت في الملف السوري مؤخرًا، إلا أن ملف مدن شرق الفرات التي يسيطر عليها الأكراد السوريون يبقى واحدًا من أكثر الملفات تعقيدًا، بسبب حرص جميع الأطراف المتنازعة في سوريا على إيجاد موطئ قدم لها في هذه المنطقة الاستراتيجية.
فقد تحركت أنقرة خلال الأيام القليلة الماضية عسكريًا في عملية واسعة لتحجيم نفوذ الأكراد السوريين الذين تدعمهم واشنطن في شرق الفرات، مما دفع بالأكراد بعد صمت الأخيرة؛ إلى الإعلان عن وقف عملياتهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتوجه نحو النظام السوري وحلفائه لمواجهة الرغبة التركية في محاربتهم.
تمسُكًا بـ«ميراث الأجداد».. تركيا تصعد عسكريًا
بمشيئة الله قريبًا وبدعم جنودنا الأبطال سندمر أوكار الإرهاب في شرق الفرات، نحن نشأنا على قراءة الملاحم التي سطرها علمنا الذي يرفرف في السماء. سنتمسك بميراث أجدادنا
هذا ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن خطته نحو الخلاص من «قوات سوريا الديموقراطية (قسد)» في مدن شرق الفرات السورية.
ولذلك يمكن اعتبار ضربات تركيا لشرق الفرات التي بدأت في 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تأتي ضمن خطة عسكرية قد تتوسع قريبًا ضد مواقع الأكراد السوريين المتمركزة على خط شرق الفرات الموازي للحدود التركية مع سوريا. إذ يعتقد الأتراك أنه: «بفضل هذه العملية سيتحقق أمن حدود محافظتي ماردين وأورفة من الهجمات القادمة من الجانب السوري، وستُحبط كافة الألاعيب والمكائد الرامية لتهديد وجود بلادنا»، كما ذكر موقع «ترك برس» التركي.
لكن مع إصرار تركيا على التحرك عسكريًا في شرق الفرات في ظل توافق أو صمت أمريكي تجاه تلك التحركات؛ اضطرت «قسد» في سبيل الضغط على واشنطن لإيجاد مخرج للأزمة المدفوعة تركيًا إلى إعلان إيقاف عملياتها العسكرية ضد تنظيم «داعش» بريف دير الزور الشرقي، وعقّبت في بيان خاص، قائلة: «هجمات الجيش التركي في الشمال أدت إلى إيقاف معركة دحر الإرهاب مؤقتًا، والتي كانت تخوضها قواتنا في آخر معاقل تنظيم «داعش»، استمرار هذه الهجمات سيتسبب في إيقاف طويل الأمد للحملة العسكرية ضد التنظيم».
وتسيطر الوحدات الكردية اليوم على معظم منطقة شرق الفرات التي تسمى بـ«سوريا المفيدة» لغناها بالثروات النفطية والزراعية، والتي يُعد جزء كبير منها في محافظة الرقة، وجزء كبير من ريف دير الزور، شمال نهر الفرات، ويسيطر الأكراد أيضًا على معظم أنحاء محافظة الحسكة في أقصى شمال شرق سوريا، وهي منطقة تشكل نحو ربع مساحة سوريا، وتتخذ «وحدات حماية الشعب (YPG)» من بلدة أبيض الواقعة شرقي نهر الفرات قاعدة ومركزًا رئيسيًّا لها، تنطلق من خلالها للانتشار على الخط الحدودي مع تركيا.
وحتى كتابة هذا التقرير لم تتوقف العمليات التركية بالكامل، رغم انخفاض وتيرتها من يوم لآخر، إذ يعمل «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن بين تركيا و«قسد» على تهدئة الأمور، إلا أن هذا الملف المُعقّد جدًا والمهم جدًا لجميع الأطراف المتنازعة في الأراضي السورية، من المتوقع أن يطول التفاوض فيه، حول من يسيطر عليه برضى جميع الأطراف.
لماذا تغيرت الوجهة التركية من منبج إلى شرق الفرات؟
في 18 يونيو (حزيران) 2018، اتفقت تركيا والولايات المتحدة على ما سمي بـ«خارطة طريق» حول منبج، ونص هذا الاتفاق على إخراج «حزب العمال الكردستاني (PKK)» و«وحدات حماية الشعب (YPG)» التي تسيطر على المدينة منذ عام 2016 حين تمكنت مع التحالف الدولي من طرد «داعش» منها، ونص الاتفاق أيضًا على تسيير دوريات أمريكية وتركية مستقلة على طول الخط الواقع بين منطقة «عملية درع الفرات» التي خاضها الأتراك لإبعاد المقاتلين الأكراد إلى شرق نهر الفرات، ومدينة منبج، وكذلك تشكيل مجلس محلي من أبناء منبج لإدارتها عقب خروج الأكراد منها.
لكن الولايات المتحدة التي وافقت على هذا الاتفاق، ضمن مساعيها لإرضاء تركيا بعد فترة طويلة من توتر العلاقات بشكل كبير بينهما، لم تحرك ساكنًا تجاه تنفيذ بنود الاتفاق، فقد مر الوقت من يونيو حتى الآن والأتراك يرون الأكراد يتنشرون على الضفة الغربية من نهر الفرات، مع استمرار وصول معدات أمريكية لهم من شمال العراق إلى شمال شرق سوريا، بل إن «البنتاجون» قدم أكثر من مرة أعذارًا لتبرير بقائه في المنطقة.
وماطلت واشنطن أيضًا في عملية تسيير الدوريات الحدودية، الأمر الذي اعُتبر تلاعبًا منها بعامل الوقت حتى إبرام حل سياسي ربما يمكنها من أن تحتفظ فيه هذه المليشيات الكردية بمواقعها، الأمر الذي دفع الأتراك للاعتقاد بأن واشنطن متمسكة بالمليشيات الكردية في منبج حتى لا تظهر بمظهر المتراجع عن أذرع نفوذها في سوريا، وتعتقد أنقرة أن واشنطن تخطط لدفع مسلحي «وحدات حماية الشعب (YPG)» إلى مغادرة مناطق رأس العين وتل أبيض وعين العرب والقامشلي المتاخمة للحدود التركية، والتمركز في المثلث الموجود بين الرقة ودير الزور والحسكة تحت ذريعة مكافحة تنظيم «داعش».
وقد قُرئت التحركات التركية بشرق الفرات في إطار الضغط التركي على واشنطن لتنفيذ بنود اتفاق منبج وسحب المليشيات من الضفة الشرقية لنهر الفرات التي تعدها واشنطن منطقة الفرات الحيوية.
«كعكة» شرق الفرات.. النظام وحلفاؤه يريدون حصتهم
إذا توافقت مصالحنا مع الأمريكيين فسنسير معهم، وإذا توافقت مع الروس فسنسير معهم، وإذا توافقت مع الأسد فسنسير معه. *الرئيس الرئيس السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، ردًا على الاتفاق التركي الأمريكي حول مدينة منبج السوريّة
سرعان ما هرول الأكراد للتفاوض مع النظام السوري دون شروط مسبقة بعد إطلاق خارطة طريق منبج التي زعزعت أيضًا ثقة العشائر العربية بواشنطن، إذ يشكل العرب حوالي 90% من سكان شرق الفرات، فقد أقدم الأكراد في يوليو (تموز) الماضي على التفاوض مع النظام لتسليمه بعض المناطق الواقعة شرق الفرات. ولم تتوقف الوفود التابعة للنظام عن زيارة مدن القامشلي والحسكة والرقة والطبقة والشدّادي والاجتماع مع بعض القيادات الكردية المسيطرة على شرق الفرات، وهي المفاوضات التي تركزت حول سيطرة النظام على المعابر الحدودية مع العراق وتركيا، مقابل حصول الأكراد على مكاسب إدارية وقومية.
كما كان النظام حريصًا في مفاوضاته على الحصول على نسبة كبيرة من إيرادات النفط في محافظة الحسكة، بل أنه ردًا على الهجمات التركية على مناطق شرق الفرات طالب الأكراد النظام السوري في مدينة القامشلي بالحسكة «بتحمل مسؤوليته» تجاه تلك الهجمات.
أعضاء المجلس العسكري الكردي لمنبج قبل بدء مؤتمر صحفي في يونيو (حزيران) 2018
وفيما يتعلق بإيران التي تدعم «حزب العمال الكردستاني» في حربه ضد تركيا، فليس من المستبعد أن تدفع التطورات المتلاحقة في شرق الفرات الأكراد السوريين للتعاون والتنسيق مع إيران، ولذلك قال مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي أن: «العشائر الكردية السورية تحارب الولايات المتحدة، وهي التي ستخرجها من شرق الفرات شمال شرقي سوريا، طهران واثقة من أنه في حال لم يتعقل الأمريكيون ويغادروا سوريا، فإن الأكراد سيطردونهم».
ولا يستبعد المحللون أن يقدم الأكراد ردًا على الهجوم التركي على معاقل «حزب العمال الكردستاني» في جبال قنديل الواقعة في إقليم كردستان شمالي العراق، تنازلات لإيران مما يقوي النظام وحلفاءه في مناطق شرق الفرات، فالنظام من السهل أن يعمل الآن على إحياء قاعدته الشعبية في هذا المناطق بعد استياء العشائر العربية في الرقة وريف دير الزور والحسكة من الاتفاق التركي الأمريكي في منبج كما أسلفنا، وهي تطورات متزامنة مع التقدم السياسي والعسكري في سوريا لصالح النظام.
لكن في المحصلة، يدرك الأكراد أن أي اتفاق لهم في مناطق شرق الفرات مع أي طرفٍ كان يستلزم موافقة أمريكية، فالنفوذ الأمريكي في هذه المناطق يستطيع إفشال أي اتفاق بين الأكراد والنظام وحلفائه.
الهروب الأمريكي من «المواجهة المكسيكية» في شرق الفرات
ظلت أنقرة تتهم واشنطن بانتهاج سياسة غير مسؤولة تجاه العديد من القضايا وأهمها دعم الجناح السوري لـ«حزب العمال الكردستاني» العدو اللدود لأنقرة، عسكريًا وسياسيًا. لكن من الملاحظ أن التوتر الذي نال من العلاقات الثنائية بين البلدين آخذ بالتراجع في الساحة السورية، فاسترضاءً لتركيا -التي أفرجت عن القس الأمريكي أندرو برانسون- وقعت واشنطن اتفاق منبج سابق الذكر.
ضابط أمريكي يتحدث مع عنصر من قوات سورية الديمقراطية في سوريا
لكن هذا التحرك الأمريكي لم يحل أزمة واشنطن في سوريا، فمن جهة أولى تدرك واشنطن خطورة تنسيق وتعاون «قسد» مع النظام وحلفائه وخاصة روسيا ردًا على التوافق التركي الأمريكي، إذ أن هذا التعاون يضعف النفوذ الأمريكي في سوريا، ولذلك هي بحاجة لإقناع الأكراد بالتأثير الإيجابي لخارطة الطريق في منبج على استقرار الأوضاع في شرق الفرات، فمن جهة تحركت نحو التوسط مع تركيا لوقف الهجوم على شرق الفرات، ومن جهة ثانية فإن واشنطن تعي أهمية الأوراق التركية التي دفعتها لتقديم تنازلات لها في الملف الكردي بمنبج، وقبولها بتحجيم المشروع الكردي وانكفائه إلى شرق الفرات، وفصله عن مشروع «حزب العمال الكردستاني»، كما تخشى واشنطن من أثر توجه أنقرة نحو التقارب مع موسكو وطهران في ملف الأكراد.
وتذكر الصحافية التركية عائشة كرات أن «حكومة الولايات المتحدة هي حكومة المعضلات، فهي من جهة تهدف إلى التأثير على التحول السياسي في سوريا، ووقف بناء الجسر البري الإيراني إلى البحر المتوسط. ولتحقيق هذه الأهداف، فإن الرافعة الفعالة الوحيدة التي تملكها في الوقت الحاضر هي وحدات حماية الشعب. لكن من ناحية أخرى، ومن دون الدعم النشط من تركيا، فإن الاستراتيجية الأمريكية لمناهضة إيران وروسيا تتعرض لخطر شديد».
وتضيف أيضًا في حديثها لموقع «المدن» اللبناني: «كذلك، يثير الخلاف بين تركيا والحكومة الأمريكية معضلة للإيرانيين والروس. فهم من جهة، يدلون بتصريحات تدعم تعهدات تركيا بالتخلص من هذا الهيكل في شمال شرق سوريا، على أمل أن تصارع تركيا الولايات المتحدة، وبالتالي تضعف (الناتو). ولكن من ناحية أخرى، فهم غير راغبين في قول (نعم) لتوسيع النشاط العسكري التركي، وسط مخاوف من أنه مع سيطرة الأتراك على هذه المنطقة، فقد لا يغادرون».
وتابعت القول: «في ظل هذه الظروف، قد تكون تركيا هي التي تريد سحب الزناد أولًا، خاصة إذا حصلت على دعم من طهران وموسكو على الرغم من الثمن الذي ستدفعه مقابل تأثر علاقاتها بالولايات المتحدة. أو حتى إذا حافظت أنقرة على صبرها، فإن شخصًا ما ولسبب ما قد يدفع تركيا لتضغط على الزناد ولكن، هناك شيء واحد واضح، إن الهروب من هذه المواجهة المكسيكية لن يكون سهلًا وغير مؤلم».