في يناير (كانون الثاني) عام 2010، أصبح اللواء عبد الفتاح السيسي مديرًا للمخابرات الحربية؛ وكان على رأس المخابرات العامة في ذلك الوقت اللواء عمر سليمان الذي مكث في منصبة 18 عامًا، وكان قبلها مديرًا للمخابرات الحربية، وتبدو مفارقة السن والخبرة والمنصب، إضافة لطبيعة المهام التي أُسندت لكل جهاز ليست في صالح السيسي، إذا ما قُورنتْ بنفوذ الجنرال المُقرب من مبارك، لذا اقتصرت وظيفة اللواء السيسي وقتها على التأكد من ولاء الضباط للمؤسسة العسكرية فقط.
على جانب آخر، سليمان الذي أسند إليه النظام مهامًا دبلوماسية وأدوارًا سياسية داخلية، كان يُمثل جهازًا سياديًا بامتياز، فلم يكن يتبع أية سُلطة تنفيذية، بعكس إدارة المخابرات الحربية التابعة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وجهاز أمن الدولة التابع لوزارة الداخلية، وكانت تقارير المخابرات العامة قادرة على الإطاحة بأي شخص، حتى أولئك العاملين في السفارات المصرية بالخارج، بحسب ما جاء في مذكرات أحمد أبو الغيط، آخر وزير خارجية في عهد مبارك. ويبدو أنه لم يكن أحدًا ليجرؤ حتى على منافسة الرجل الذي أصبح نائبًا لمبارك فيما بعد.
هذا التقرير يحاول أن يقدم لك جانبًا آخر من قصة الصراع الحالي بين الأجهزة السيادية في مصر الذي بدأ مع الثورة المصرية عام 2011، وانتهى بإقالة اللواء خالد فوزي قبل أيام، وتعيين نجل السيسي في مكتب مدير المخابرات العامة، بحسب ما سرّبته جريدة «الأخبار» اللبنانية.
اقرأ أيضًا: «السيد كل شيء».. ماذا تعرف عن «عباس كامل» ظل السيسي وكاتم أسراره؟
المخابرات العامة والحربية والأمن الوطني.. كيف بدأ الصراع؟
قبل جمعة الغضب بأسبوع، في 18 يناير 2011، كان رئيس جهاز أمن الدولة السابق، اللواء حسن عبد الرحمن، قد قدّم للواء حبيب العادلي وزير الداخلية وقتها تقريرًا مكوّنًا من 12 صفحة يتضمن تحليلًا للأحداث التي دفعت إلى نجاح الثورة التونسية، وبحسب شهادته في تحقيقات قضية قتل المتظاهرين، فقد صرح رئيس جهاز أمن الدولة السابق بأنه حذر وزير الداخلية من شرارة ثورةٍ قد تنتقل إلى الداخل بسبب حالة الاحتقان. المعلومة الأكثر أهمية أنّه أعلن عن وجود تبادل معلومات مع إدارة المخابرات الحربية قائلًا: «يوم الجمعة 28 يناير كنت أنسق مع مدير المخابرات الحربية، وأخطرته بالمعلومات التي تتوافر لدى الجهاز عن المخاطر التي تتعرض لها المنشآت الشرطية، خاصة السجون».
الشهادة التي قدّمها رئيس جهاز أمن الدولة السابق تتفق فيما نشرته صحيفة «الجارديان البريطانية»؛ فقبل جمعة الغضب بيومين كانت الشرطة المصرية قد اعتقلت عددًا من رؤوس المعارضة، وسلمتهم إلى المخابرات العسكرية التي تولت التحقيق، ويحكي أحد المعتقلين واصفًا مدير المخابرات الحربية: «غضب بشدة عندما سمع أحدهم يقول: مبارك فاسد، وعليه الرحيل»، فأجاب السيسي غاضبًا: «يجب أن تحترموا الرئيس، وترحلوا فورًا من الميدان»، وبينما كانت الشرطة تنهار ، كانت المخابرات الحربية قد تولت أولى مهامها الميدانية، وتجدر الإشارة إلى أنّ النيابة العامة لم توّجه اتهامات للسيسي باعتباره مديرًا للمخابرات الحربية توّرط مع رئيس جهاز أمن الدولة في جمع معلومات خاطئة في قضية قتل المتظاهرين بنص اعترافات اللواء حسن عبد الرحمن.
المثير أنّ المخابرات الحربية متورطة أيضًا في قضية فرم مستندات أمن الدولة، وبحسب شهادات السيسي أمام محكمة الجنايات في القضية، فإن «دور الجيش اقتصر على التأمين الخارجي، ولا علاقة لنا بالداخل»، إلا أنّ تلك الشهادة تبدو متناقضة إلى حدّ بعيد مع شهادة اللواء حسن عبد الرحمن الذي حصل على البراءة في تلك القضية، ثم أعلن بعدها أن جهازًا هو من تحمّل إخفاء المستندات، وكان ذلك آخر فترات التعاون بين الجيش وجهاز أمن الدولة الذي تم حلّه، ثم عاد مُجددًا تحت اسم «الأمن الوطني»، لكنه هذه المرة كان بلا صلاحيات مقارنة بما كان عليه في عهد مبارك، فالمعركة بين جهاز أمن الدولة والمخابرات الحربية بعد الثورة لم تكن متكافئة؛ فالمجلس العسكري مثّل نظامًا جديدًا استبدل معه كافة الأدوار والمهام، فبات يعتمد أكثر على المخابرات الحربية، وربما كان ذلك أحد أسباب الغضب التي تسببت في مجزرة الواحات، وسيأتي ذكرها لاحقًا.
بعد جمعة الغضب بيومين من انهيار الشرطة، وفرض الجيش حظر التجول، تعرض اللواء عمر سليمان الذي أصبح نائبًا للرئيس لمحاولة اغتيال فاشلة؛ يقول وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط عنها: إنّ «سليمان أبلغه بأن النظام لم يُجر تحقيقًا دقيقًا في محاولة اغتياله»، وفي السطور اتهامات غير مُعلنة للمجلس العسكري الذي وضع خطته مُسبقًا للتخلص من مبارك بدون علم مدير المخابرات العامة،بحسب شهادات مدير مكتب اللواء عمر سليمان لجريدة «الأهرام» القومية.
ويجب التوضح أنّه بعدما أصبح سليمان نائبًا لرئيس الجمهورية، تم الدفع باللواء مراد موافي الذي كان مديرًا للمخابرات الحربية ست سنوات كاملة، وهو الذي تسلم السيسي منه المخابرات الحربية عام 2010، والقصة لها دلالة واضحة بأن المجلس العسكري دفع برجل من خارج الجهاز يكون ولاؤه الأكبر للجيش، وليس للجنرال عمر سليمان، الذي أراد الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2012، إلا أن اللجنة العليا للانتخابات قررت استبعاده بدعوى أنه ينقصه 31 توكيلًا فقط لكي يستوفي الإجراءات، ولم يعد خافيًا أن المخابرات العامة بكوادرها القديمة باتت في معركتها الخاصة ضد مراكز القوى في النظام الجديد.
اقرأ أيضًا: عشرة مديرين للمخابرات الحربية منذ عهد مبارك.. أين هم الآن؟
المخابرات الحربية والعامة.. «المعركة إلى العلن»
قبل يومين أعلن التلفزيون الرسمي المصري قرار السيسي إقالة اللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة، وتكليف مدير مكتب السيسي، اللواء عباس كامل، لتسيير أعمال الجهاز إلى حين اختيار رئيس جديد بشكل رسمي، وكانت أول التساؤلات التي أثارها الخبر: لماذا جاء قرار الإقالة قبل البحث عن البديل، خاصة أنها تزامنت مع التسريبات التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» والتي أظهرت أن ضابطًا بالمخابرات الحربية يتهم جهاز المخابرات العامة بوجود انتماءات لرموز النظام القديم، لكنّ معركة تطهير الجهاز كانت بدأت قبل ذلك التاريخ بخمس سنوات.
اللواء عباس كامل مصدر الصورة : جريدة الشرق الاوسط
قبل استقالة السيسي من منصب وزير الدفاع للترشح لانتخابات الرئاسة، أصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور قرارًا جمهوريًا ينصُّ على إحالة 9 من وكلاء المخابرات العامة للمعاش بناءً على طلبهم، وهو رقمٌ كبير أوحى للبعض بأنّ الإطاحة جاءت للتخلُّص من الولاءات القديمة، خاصة وأن تقارير صحافية مصرية تحدثت عن وجود أجهزة سيادية تؤيد الفريق أحمد شفيق، والفريق سامي عنان، وكان أول من تمت الإطاحة به عقب عزل الرئيس مرسي، هو رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء محمد رأفت شحاتة، الذي تمّ عزله بعد يومين فقط من أحداث 3 يوليو (تموز) 2013.
ويبدو أنّ النظام تأثر بالمداخلة الهاتفية التي أجراها الدكتور يحيي حامد وزير الاستثمار في عهد مرسي، مع قناه «الجزيرة» القطرية، والتي جاء فيها أن المخابرات العامة المصرية تواصلت مع جماعه الإخوان من أجل عقد مصالحة مع الدولة المصريه، ولم تمض 48 ساعة على التصريحات المثيرة للجدل حتى صدر قرار جمهوري للرئيس عبد الفتاح السيسي بإحالة 11 من وكلاء المخابرات العامة إلى المعاش، وبلغ عدد الذين تم استبعادهم حتى الآن نحو 113، معظمهم من الصف الأول، وهو ما يؤكد أنّ القرار جاء تطهيريًا للداعمين لنظام مبارك، خاصة بعد دخول الفريق أحمد شفيق على الخط، ومحاولة السيسي الهجوم على مبارك وقطع الطريق على عودة رموز دولته.
جدير بالذكر أنّ أول من تحدَّث عن وجود توتر بين الجهازين هو موقع «إنتليجنس أونلاين» التابع للاستخبارات الفرنسية، الذي نشر تقريرًا حول الوضع في سيناء، مشيرًا إلى أنّ التوتر يتصاعد بين أجهزة الاستخبارات العامة والعسكرية في مصر بسبب تداخل السلطات القضائية في مكافحة الإرهاب في شمال سيناء، ورجَّحت المجلة أن السيسي يُحبذ وكالة الاستخبارات العسكرية التي تولَّى رئاستها عامين، بينما لا يبدو لديه ثقة كبيرة في الجهاز العام، الذي يخالفه في عدد من القضايا المحورية، ويدخل في تلك الأزمة جهاز الأمن الوطني الذي يحاول البقاء في الصورة السياسية.
تقول التسريبات: «إن معلومات لجهاز الأمن الوطني أفادت بوجود ضابط الصاعقة المفصول هشام عشماوي، في منطقة الواحات، وبالرغم من أنّ المنطقة تقع تحت سيطرة القوات المسلحة، إلا أن الجهاز فضّل القيام بتلك العملية، دون تنسيق مع الجيش، خوفًا من أن يُنسب له الفضل في النهاية في القبض على العشماوي»، وانتهت القصة بموت أكثر من 53 شرطيًا في أحداث الواحات الأخيرة، الغريب أن الحكومة المصرية لم تعلن الحداد الرسمي على القتلى، في حين اكتفى الرئيس السيسي بتعزية عابرة قبل توجهه إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي.
موقع «العربي الجديد» نقل عن مصادر خاصة أن الحادث أدى لوقوع خلافات بين المؤسسة الأمنية والعسكرية؛ أدت لتدخل مدير المخابرات العامة السابق، اللواء خالد فوزي، والخلافات لم تكن على مستوى القيادات فقط، فحوادث اعتداء الشرطة العسكرية على الأقسام ورجال الشرطة باتت متكررة، وكان أشهرها واقعة محاصرة المئات من ضباط وعناصر الشرطة العسكرية لقسم شرطة القاهرة الجديدة مرددين هتافات ضد الشرطة إثر احتجاز أحد الضباط بعد مشادة، قبل أن يتطور الأمر إلى اشتباكات لم تهدأ إلا بعد وصول مدير أمن القاهرة، وقائد المنطقة المركزية العسكرية إلى موقع الأحداث، والأمر نفسه تكرر أمام قسم إمبابة حين أطلقت قوات الجيش قنابل الغاز على قوات الشرطة التي هتفت «يسقط يسقط حكم العسكر».
اقرأ أيضًا: المخابرات المصرية.. أذرع السيسي الناجحة في 5 دول عربية
ملفات تشعل الأزمة بين الأجهزة السيادية
بعد إقالة مدير المخابرات، وتعيين اللواء عباس كامل الذي يوصف بأنه الرجل الثاني في الدولة لتسيير أعمال جهاز المخابرات، من المتوقع أن يكون الاسم الجديد قادمًا من المخابرات الحربية، وهو ما يعني أن المعركة ستزداد حدتها، خاصة بعدما باتت هناك خمسة ملفات بين الجهازين تمثل اختلافات جوهرية.

(مدير المخابرات العامة يصافح إسماعيل هنية)
نشرت صحيفة «التايمز» الأمريكية مقالًا حول مقتل الباحث الإيطالي «جوليو ريجيني»، حيث أرجعت الصحيفة مقتله إلى الصراع بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المصرية، وتقول مصادر الصحيفة: إن ريجيني وُضع تحت المراقبة من قبل المخابرات العامة فور دخوله مصر، وبعدما اعتبر الشخص المسئول عن مراقبته أن أعماله مُعادية للحكومة؛ اعتُبر جاسوسًا، ثم نُقل ملف ريجيني إلى المخابرات العسكرية، وأدى ذلك إلى إثارة غضب وزير الداخلية المصري الذي أبدى احتجاجه للسيسي بأن نقل ملف ريجيني للمخابرات العسكرية إهانة للمخابرات العامة، ويجب التوضيح أن الشرطة تنفي أنها قبضت على ريجيني، أو أن لها علاقة بمقتله، بالرغم من الاتهامات، وبعدما قُتل الشاب الإيطالي نتيجة التعذيب، اعتبرت المخابرات العامة أن المخابرات الحربية تتحمل المسئولية كاملة لفشلها في ذلك الملف، والقضية التي أثارت أزمة بين البلدين لم تنتهِ حتى الآن.
أظهرت التسريبات الصوتية الأخيرة لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية بشأن توجيه ضابط مخابرات مصري سبابًا وألفاظًا نابية لضباط في جهاز المخابرات العامة؛بسبب دعمهم ترشيح الفريق أحمد شفيق للانتخابات الرئاسية المقبلة، وبالرغم من أنّ الفريق شفيق أعلن انسحابه في ظروف غامضة عن خوض الانتخابات، إلا أن الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش السابق، أعلن خوضه الانتخابات القادمة، وترجع خطورة الرجل إلى أنه مُفضل لدى الإدارة الأمريكية، كما أنه يحظى بعلاقات جيدة مع السعودية والإمارات، والأخطر من ذلك أنه أحد رموز النظام القديم المُقرب من المخابرات العامة، وتقول التسريبات: إن «السيسي سيحسم أزمة الولاء في الجهاز قبل الانتخابات الرئاسية».
أحد أبرز قضايا الخلاف بين الجهازين، هو الوضع الأمني في سيناء، وتشير تقارير استخباراتية إلى أن المخابرات العامة تتهم جهاز المخابرات الحربية بالتسبب في تفاقم الأزمة في سيناء، مثلما تتهمه أيضًا في عرقلة ملف المصالحة مع «حماس»؛ فعقب تحرُّك الجيش في 3 يوليو (تموز) عام 2013، تم تعيين اللواء محمد فريد التهامي مديرًا للمخابرات العامة الذي يُوصف بأنه مُعلم السيسي منذ كان مدير ًا للمخابرات الحربية، وهو أحد المحسوبين على معسكر «الصقور» داخل المؤسسة العسكرية الذي يؤمن بضرورة قطع العلاقات مع حركة حماس، لذا شهدت تلك الفترة اتهامات الحركة بالضلوع في العمليات الإرهابية بسيناء، كما أصدرت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حُكمًا يقضي بحظر أنشطة حماس في مصر، والتحفُّظ على جميع مقرَّاتها، ثم أصدرت حكمًا آخر يعتبر الحركة إرهابية، وكانت آخر الاتهامات التي وُجهت لها هي الاتهام في عملية اغتيال النائب العام، لكن بعد إقالة التهامي وتعيين اللواء خالد فوزي أصبحت هناك انفراجة ملحوظة؛ فاللواء الذي خدم في جهاز المخابرات العامة منذ كان برتبة نقيب ينتهج نفس خطوات والمبادئ التي أرساها اللواء عمر سليمان بضرورة التعاون مع الحركة.
وفي الوقت الذي كانت المخابرات المصرية تدعو الحركة للقاء في القاهرة، كانت المخابرات الحربية تقوم باختطاف أحد عناصر «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة حماس، في محاولة لإفساد المصالحة، لكنّ الذي حدث بعد ذلك هو أن حماس زودت أجهزة الأمن المصرية بتفاصيل اتصالات بين عناصر إرهابية في سيناء وقطاع غزة تضمنت معلومات عن أنشطة الإرهابيين في سيناء، وكانت تلك ضربة من المخابرات العامة إلى جهاز المخابرات الحربية.
ولا تتوافر معلومات عن طبيعة الصراع بين الجهازين في القضايا الخارجية المتمثلة في موقف مصر من اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل بحسب تسريبات «نيويورك تايمز»، إضافة للدور العسكري لجهاز المخابرات الحربية في سوريا وليبيا، وحتى مدّ معارضي دارفور لمعدات عسكرية مصرية، لكنّ المعلومات الواضحة أنّ الحرب الحالية بين تيار الصقور والحرس القديم ستتضح ملامحها بمجرد الإعلان عن اسم مدير المخابرات الجديد.
اقرأ أيضًا: «الرابحُ يبقى وحيدًا».. كيف تخلَّص النظام المصري من كل الذين ساعدوه؟