شهدت الأيام القليلة الماضية في الولايات المتحدة سلسلة من قرارات العفو الرئاسي أصدرها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي يستعد لجمع حقائبه لمغادرة البيت الأبيض مطلع الأسبوع الثالث من شهر يناير (كانون الثاني) 2021.
وحتى ذلك الحين، يمارس ترامب سلطاته التنفيذية لأقصى حد، بما في ذلك قراره بالعفو الرئاسي عن مجموعة كبيرة من المقربين منه ممن قادوا حملته الانتخابية.
ولكن عفو ترامب لم يأت متأخرًا. فقائمة ترامب الطويلة من 80 شخصًا تشمل متهمين بجرائم قتل وإشعال حرائق متعمَّدة، من بينهم فرقة المتعاقدين الأمريكيين الشهيرة «بلاك ووتر Black Water»، التي ارتكبت مذبحةً بحق مدنيين عراقيين في العاصمة العراقية بغداد بعد الغزو الأمريكي للعراق.
في هذا التقرير نستعرض قصص هؤلاء الجنود المدانين، ولماذا يفرج ترامب عنهم؟
مذبحة النسور.. مدانون بالجرم وترامب يعفو عنهم
لا تكتفي الحكومة الأمريكية بإرسال جنودها رسميًّا للقتال في أرض المعركة، بل تسندهم بمحاربين متعاقدين يتلقون أجرًا على مشاركتهم في الأنشطة الأمنية أو القتالية، يأتون لأسباب معلنة منها «ضمان مستوى الحماية» للجنود والمسؤولين الحكوميين.
وبعض الأسباب غير معلن؛ لتنفيذ عمليات من الأفضل أن لا يرتكبها الجندي الأمريكي بشكل رسمي، أهمها: قتل المدنيين. وهذا ما حدث في مذبحة بغداد عام 2007.
مروحية محلَّقة في بغداد وعلى متنها مقاتلون تابعون لشركة «بلاك ووتر».
في ظهر يوم 20 سبتمبر (أيلول) 2007، احتلَّت سماء بغداد مروحيات لشركة «بلاك ووتر (Black Water)»، وهدفها تأمين موكب مسؤول حكومي أمريكي مهم، في زيارة رسمية لبغداد.
وفجأة أطلقت إحدى المروحيات النار، بشكل عشوائي ومكثف، على المدنيين في ميدان النسور في بغداد، واستُخدم في الهجوم مدفع رشاش لا يستخدم إلا في المواجهات الحربية المباشرة، بالإضافة لقنابل يدوية والقنص لمدنيين عزل بلا سلاح.
يقول مرتكبو الجريمة إن هؤلاء نصبوا «كمينًا» لمهاجمة الشخصية الأمريكية رفيعة المستوى، رغم أن موكبه سلك طريقًا لا يتقاطع في أي نقطة مع ميدان النسور.
راح ضحية هذه العملية 14 عراقيًّا، بينهم طفلان، في حادثة أشعلت الرأي العام العالمي تجاه توظيف الحكومة الأمريكية للمحاربين المأجورين في عملياتها العسكرية دون قيود قانونية أو أخلاقية على أفعالهم، التي قد تودي بحياة الأبرياء مثلما حدث في ميدان النسور.
في اليوم التالي للعملية أعلنت الحكومة الأمريكية إنهاء تعاقدها مع «بلاك ووتر» في العراق.
وبعد مساعٍ دولية، شاركت فيها الحكومة العراقية، وضعت القضية عام 2009 أمام محكمة فيدرالية أمريكية، وبعد سنوات من التحقيقات، في أبريل (نيسان) 2015، حكمت المحكمة الأمريكية على كلٍ من بول سلو، وإيفان ليبرتي، وداستن هيرد بالسجن 30 عامًا، وعلى نيكولاس سلاتن بالسجن مدى الحياة.
صور لبعض المدانين في مذبحة النسور.
أيَّدت إدارة باراك أوباما قرار المحكمة في تقييم الضحايا العراقيين بأنهم أبرياء ولم يشكلوا خطرًا، إلا أن قدوم ترامب للبيت الأبيض حوَّل موقفه، ولم يقتصر على تخفيف الأحكام وإنما العفو الشامل عن منفذي المذبحة الأربعة. وهذه المرة الثالثة التي يعفو فيها عن أمريكيين شاركوا في جرائم بالحرب في العراق أو أفغانستان.
لماذا أفرج ترامب عن رجال «بلاك ووتر»؟
رغم أن محاكمة المدانين الأربعة تطلَّبت جهدًا قضائيًّا استثنائيًّا، فإن عفو ترامب قوَّض المسار الديمقراطي بالكامل.
في هذه القضية، اضطرت وزارة العدل الأمريكية للعودة لمكان المذبحة للحصول على أدلة، وحاولت إقناع أقارب القتلى بالقدوم للولايات المتحدة، هم وبعض المصابين، وممن شهدوا المذبحة، لتقديم شهاداتهم عما حصل، ويضطروا للوقوف أمام المتهمين بالقتل.
ولعل علاقة ترامب بإريك برنس تفسِّر العفو عن رجال بلاك ووتر. فبرنس حليفٌ لترامب، ومتهمٌ بتسهيل اتصالات فريقه الانتخابي عام 2016 مع الروس.
برنس صاحب شهرة دولية لرعايته لجماعات المتعاقدين، ولتأسيسه «بلاك ووتر»، المتهمة بتجاوزات فادحة لحقوق الإنسان والقانون الدولي وقوانين الحرب، خاصةً في العراق وأفغانستان، حيث قضت الولايات المتحدة سنوات طويلة في حروب مفتوحة.
من الجدير بالذكر أن أخت برنس، هي بيستي ديفوز، وزيرة التعليم في إدارة ترامب منذ استلامه وحتى اليوم. ولعائلة برنس علاقة وثيقة بنائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، في فترة عمله نائبًا بالكونجرس. وقد تبرعت العائلة سابقًا لبنس وموَّلت حملاته، وبالمثل تبرعت لحملة ترامب للرئاسة.
وتربط إريك برنس علاقة جيدة مع ستيف بانون، مستشار الأمن القومي الأول لترامب، ووجه اليمين الشعبوي الأمريكي.
إريك برنس، حليفُ ترامب ومؤسس «بلاك ووتر».
مايكل بيهينا: قتل عراقيًّا بدون مبرر
في 2008 ألقت القوات الأمريكية القبض على العراقي علي منصور محمد، لاشتباه مشاركته في تفجير دورية أمريكية بعبوات ناسفة وضعت على الطريق، وأدت لمقتل بعض أفراد الدورية.
وعلى الرغم من أن المحقق الذي حقَّق مع منصور أمر بإطلاق سراحه لعدم وجود أدلة كافية لضلوعه في العملية، فإن القرار لم يرض قائد الدورية الأمريكية مايكل بيهينا.
وبعد أسابيع من إطلاق سراح علي منصور، أمر بيهينا بالقبض عليه مرة أخرى، ثم أجرى تحقيقًا منفردًا معه في غرفة مغلقة. وبعد بضع دقائق، سمع الجميع دوي إطلاق نار داخل الغرفة، واتجه نحوها من كانوا في الوحدة العسكرية ليجدوا المدني العراقي مستلقيًا على الأرض وعاريًا تلفُّ دماؤه جسده، بعد أن أطلق الضابط الأمريكي النار عليه أثناء التحقيق.
وصفت الحكومة الأمريكية الحادثة بأنها «قتل عمد» بدون دافع ضروري لتنفيذ العملية، على الرغم من احتجاج الضابط الأمريكي بأنه فعلها دفاعًا عن النفس، وأن علي منصور حاول الهجوم عليه ونزع سلاحه منه.
في عام 2009 قُدم بيهينا للمحكمة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 25 عامًا.
وفي عام 2014 حصل على إطلاق سراح مشروط. وبعد حملة سياسية ضخمة قام بها أعضاء كونجرس من الحزب الجمهوري، قرر ترامب في مايو (أيار) 2019 أن يمنح بيهينا عفوًا رئاسيًّا كاملًا، لتسقط عنه التهم الموجهة إليه ويصبح حرًّا طليقًا.
ثلاث حالات عفو أخرى رغم أنف وزير البحرية
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أعلن ترامب إقالة وزير البحرية الأمريكية ريتشارد سبنسر، بعد خلاف طويل بينهما بسبب تدخل دونالد ترامب في قضية جرائم الحرب التي ارتكبها بعض من ضباط البحرية الأمريكية، والتي تعرف إعلاميًّا بعنوان «SEAL War Crimes Trial».
ضمت القضية ثلاثة أحداث مختلفة، الأولى لضابط أمريكي يدعى كلينت لورانس، ارتكب جريمة حرب في أفغانستان بأمره لجنوده بإطلاق النار على مجموعة من المواطنين الأفغان للاشتباه في انتمائهم لتنظيم القاعدة، ووجهت له تهمة القتل العمد، وحُكم عليه بالسجن 19 عامًا، ليقرر ترامب منحه عفوًا شاملًا مع إسقاط التهم الموجهة إليه.
كلينت لورانس، مدان بجريمة حرب عفا عنه ترامب، الصور بعد الإفراج عنه وفي استضافة قناة «فوكس» له.
الحادثة الثانية تشبه مقتل المواطن العراقي البريء. حادثة أخرى حدثت في أفغانستان تحت أعين القوات الأمريكية، حين أطلق ماثيو جلستين النار على شخص أفغاني عام 2010، بعد اشتباهه في أن يكون هذا الأفغاني ممن يصنعون القنابل المتفجرة لتنظيم القاعدة.
وقعت الحادثة بعد أيام قليلة من الإفراج عن الأفغاني لعدم وجود أدلة كافية تثبت التهمة عليه، ولكن محاكمة جلستين لم تتقدَّم؛ إذ بادرها ترامب بالعفو عن المتهم.
ماثيو جلستين، ضابط أمريكي متهم بقتل أفغاني مدني، يظهر مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد العفو عنه بفترة وجيزة.
الحادثة الثالثة، والتي تدخل فيها ترامب بشكل شخصي مجهضًا القضية في مهدها. المتهم فيها الرئيس السابق للعمليات الخاصة بالقوات البحرية، إدوارد جالاجر، الذي وجهت له 10 تهم شملت القتل العمد والتعذيب، وإهانة المعتقلين بالتصوُّر معهم بعد تعريتهم بالكامل.
إدوارد جالاجر، ضابط البحرية الأمريكية يحتفل بتبرئته من تهمة القتل العمد مع زوجته.
أحدثت القضية خلافًا بين ترامب ووزير البحرية، وقال الأخير إن ترامب تدخَّل مباشرة لعرقلة القضية لصالح الضابط الأمريكي المتهم، وطلب من بعض الجنرالات أن لا يدلوا بشهاداتهم في القضية.
وفي يوليو (تموز) 2019 أصدرت محكمة عسكرية قرارًا بتبرئة إدوارد جالاجر من تهم القتل والتعذيب، بإستثناء تهمة تصويره لأحد المعتقلين عاريًا، وتضمن الحكم حبس جالاجر ثلاثة أشهر وخفض رتبته العسكرية، إلا أن هذا الحكم أُلغي بأمر مباشر من دونالد ترامب.
هل يعطي تدخل ترامب ضوءًا أخضر للجنود المدانين بجرائم حرب؟ وما الرسالة التي يبعثها للجنود الأمريكيين المنتشرين حول العالم، وفي دول مختلفة بالشرق الأوسط، وفي أفغانستان؟