ربما لا يمكن لأحد التنبؤ بما سيكون عليه مستقبل جائحة كوفيد-19 بأي قدر من اليقين. ولكن بناء على تجارب الخبراء السابقة مع حالات العدوى الأخرى، فإنه لا يوجد أي سبب وجيه يجعلنا نعتقد أن فيروس كورونا (SARS-CoV-2) سيختفي قريبًا، حتى عندما تتوفر اللقاحات الخاصة به.
السيناريو الأكثر واقعية والترجيح الأكبر؛ هو أن مرض كوفيد-19، سيضاف اسمه إلى عائلة الأمراض المعدية الكبيرة والمتنامية التي تُعرف باسم «الأمراض المتوطنة» أو «endemic» في البشر. فما هي هذه النوعية من الأمراض؟ وكيف سيبدو شكل تفشي كورونا حال دخوله إلى هذه القائمة؟
لكن أولًا.. ما هي الأمراض المستوطنة؟
قبل التحدث عن كورونا ومستقبله المتوقع، سنحتاج لمعرفة ما هي الأمراض المستوطنة؟ وما طبيعتها؟ ولماذا سميت بهذا الاسم؟ وما خصائصها المشتركة التي جعلت العلماء يضعونها ضمن قائمة واحدة؟
في علم الأوبئة، يقال إن هذه العدوى مستوطنة في مجموعة سكانية، عندما يجري الحفاظ على هذه العدوى باستمرار عند مستوى معين من الانتشار في منطقة جغرافية بدون مدخلات خارجية.
على سبيل المثال، يعد جدري الماء مرضًا متوطنًا في المملكة المتحدة، لكن مرض الملاريا ليس كذلك. في كل عام، يتم الإبلاغ عن عدد قليل من حالات الملاريا في المملكة المتحدة، لكن هذه لا تؤدي إلى حالة انتقال مستمر بين السكان بسبب عدم وجود ناقل مناسب، ويقصد بالعائل هنا البعوض من جنس «Anopheles».
لكي تكون العدوى التي تعتمد على انتقالها من شخص لآخر متوطنة، يجب على كل شخص يصاب بالمرض أن ينقله إلى شخص آخر في المتوسط. نحن هنا نتحدث عما يسمى رقم التكاثر الأساسي (R0)، وهو الرقم الذي يوضح لنا مدى إمكانية أن ينقل شخص ما العدوى إلى أشخاص آخرين. فإذا كان هذا الرقم مساويًا للرقم اثنين مثلًا، فإن هذا يعني أن كل شخص مصاب يقوم بنقل العدوى إلى شخصين آخرين.
في حالة الأمراض المستوطنة، هذا يعني أن رقم التكاثر الأساسي (R0) للعدوى يجب أن يساوي واحدًا. وفي مجموعة سكانية بها بعض الأفراد عندهم مناعة ضد هذا المرض، يجب أن يكون حاصل ضرب عدد التكاثر الأساسي في نسبة الأفراد المعرضين للإصابة في المجموعة مساويًا للواحد الصحيح. لكن خلال تفشي وباء، يزداد انتشار المرض، ويكون رقم التكاثر الأساسي أكثر من واحد، وعندما يتناقص الانتشار من خلال تدابير المكافحة أو حصول السكان على مناعة، يكون الرقم أقل من واحد.
هل سيصبح مرض كوفيد-19 مرضًا مستوطنًا؟
مع تزايد انتشار وباء كورونا في جميع أنحاء العالم مرة أخرى، يبدو من غير المحتمل أن التدابير المتاحة حاليًا يمكن أن تفعل أكثر من السيطرة على هذا الانتشار، باستثناء البلدان التي يمكنها عزل نفسها بشكل فعال عن العالم الخارجي. الحقيقة أن الغالبية العظمى من الناس لا يزالون عرضة إلى حد ما، وهو ما يعني أن هناك ما يكفي من الوقود لإشعال النار لبعض الوقت.
سيكون هذا هو الحال حتى إذا وصلت بلدان محددة إلى ما يعرف بمناعة القطيع، رغم أنه ليس من الواضح مدى احتمالية حدوث ذلك. عندما يصبح هناك عدد كافٍ من الأشخاص محصنين ضد مرض ما، إما عن طريق التطعيم أو العدوى الطبيعية، يبدأ انتشاره في التباطؤ ويقل عدد الحالات تدريجيًا. لكن هذا لا يعني أنه سيختفي على الفور أو بشكل كامل، إذ لا يوجد مقياس للعزلة قوي لدرجة أنه سيوقف تمامًا التفاعل البشري بين المناطق، داخل البلدان وفيما بينها، أو عالميًا.
الترجيحات تقول إنه من الممكن أن يستقر انتشار العدوى في نهاية المطاف عند مستوى ثابت بحيث تصبح موجودة في المجتمعات في جميع الأوقات، لكن ربما بمعدل منخفض نسبيًا ويمكن التنبؤ به في بعض الأحيان. هذا ما نعنيه عندما نقول إن المرض تحول إلى «مرض مستوطن».
والوصول للقاح لا يعني انتهاء المرض!
القاعدة هنا أنه طالما يوجد عدد كاف من الأشخاص الذين لا يزالون عرضة للإصابة بالمرض مقابل كل شخص مصاب ينقله إليهم، فسوف يستمر المرض في الانتشار. في الأمراض التي تعطي مناعة مؤقتة بعد الإصابة بها، يفقد الناس تلك الحماية المناعية لاحقًا ليصبحوا عرضة للإصابة مرة أخرى. يمكن للفيروس أو البكتيريا أيضًا التهرب من الذاكرة المناعية عن طريق الطفرات بحيث يصبح الأشخاص الذين لديهم مناعة ضد سلالة أقدم عرضة للإصابة بالنسخة الجديدة من المرض. الإنفلونزا مثال واضح على هذا الأمر.
لا نعرف بعد إلى متى ستستمر المناعة بعد الإصابة بعدوى كوفيد-19؟ أو إلى أي مدى ستساهم اللقاحات في حماية الناس؟ لكن الفيروسات التاجية الأخرى المستوطنة في البشر، مثل تلك التي تسبب نزلات البرد، لا تمنح سوى مناعة مؤقتة لمدة عام تقريبًا. وهناك نقطة أخرى مهمة هي أن الأشخاص الذين لديهم مناعة، سواء من العدوى أو التطعيم، نادرًا ما يتوزعون بالتساوي في جميع أنحاء المجتمع أو البلد، ناهيك عن العالم.
بالتأكيد في حالة كوفيد-19، هناك مناطق انتشرت فيها العدوى بشكل مكثف ومناطق تم إنقاذها نسبيًا. لكن بدون التوزيع المتساوي، لا توجد مناعة سكانية واسعة حتى لو قام الأطباء بتطعيم عدد كاف من الناس لتلبية الحد الأدنى المتوقع الضروري. في هذه الحالات، يمكن أن يكون متوسط رقم التكاثر الأساسي منخفضًا بما يكفي للسيطرة على العدوى، ولكن في الجيوب غير المحمية سيكون أعلى بكثير من 1. هذا يؤدي إلى تفشي موضعي ويسمح للمرض بالبقاء مستوطنًا.
كيف علينا أن نتعامل مع كورونا؟
تعتمد كيفية تعاملنا مع فيروس كورونا بمجرد أن يُعلن أنه صار مستوطنًا على مدى جودة لقاحاتنا وعلاجاتنا. إذا تمكنت هذه العلاجات واللقاحات من حماية الناس من النتائج الأكثر خطورة، فسيصبح من الممكن السيطرة على العدوى. سيكون كوفيد-19 بعد ذلك مثل العديد من الأمراض الأخرى التي تعلمنا التعايش معها وسيختبرها الكثير من الناس خلال حياتهم.
اعتمادًا على ما إذا كانت المناعة – سواء من العدوى الطبيعية أو من التطعيم – دائمة أو مؤقتة، قد نحتاج إلى تحديثات سنوية للقاح لحمايتنا (مثل الإنفلونزا). أو يمكن السيطرة عليه عن طريق التطعيم في عمر مثالي (مثل العديد من أمراض التهابات الأطفال).
وإذا كانت اللقاحات لا تمنع المرض، بل تقلل بشدة من انتقال العدوى وتضفي مناعة طويلة الأمد، فيمكننا تصور سيناريوهات أخرى، مثل القضاء المحتمل على المرض. لكن من الناحية الواقعية، هذا غير مرجح. من المعروف أن استئصال مرض ما أمر صعب، حتى بالنسبة للأمراض التي لدينا لقاحات شبه كاملة ومناعة دائمة لها. وبالتالي فإن المرض المتوطن هو النتيجة الأكثر احتمالًا.
بعض الأمراض المتوطنة حول العالم
بعض أنواع العدوى موجودة وتنتشر بنشاط في كل مكان تقريبًا، مثل العديد من الأمراض المنقولة جنسيًا وبعض الأمراض المرتبطة بفترة الطفولة. هذه بعض الأمثلة:
1. الملاريا
الملاريا مرض متوطن ومنتشر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ينتقل هذا المرض عن طريق طفيلي من جنس «Plasmodium». يدمر هذا الطفيلي خلايا الدم الحمراء في الطحال والكبد. هذا يسبب فقر الدم لدى المرضى ويمكن أن يكون قاتلاً إذا ترك دون علاج. يعاني 200 إلى 500 مليون شخص من الملاريا كل عام، من بينهم 1.5 إلى 2.7 مليون لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة.
2. جدري الماء
جدري الماء هو عدوى يسببها فيروس «varicella-zoster». يسبب هذا المرض طفحًا جلديًّا مع حكة مع بثور صغيرة مملوءة بالسوائل. يعد جدري الماء شديد العدوى للأشخاص الذين لم يصابوا بالمرض أو لم يحصلوا على تطعيم ضده. يتوفر اليوم لقاح يقي الأطفال من جدري الماء. ينتشر هذا المرض باعتباره مرضًا متوطنًا خصوصًا بين الأفراد المعرضين للإصابة خلال الشتاء وأوائل الربيع.
3. فيروسات كورونا ونزلات البرد
هناك العديد من أنواع الفيروسات التاجية الأخرى المتوطنة في البشر ويمكن أن تسبب نزلات البرد والالتهاب الرئوي. ففي حين أن الفيروسات التاجية البشرية من نوع 229E وNL63 وOC43 وHKU1 هي أقل شهرة من بعض نظيراتها، فهي سبب مهم لأمراض الجهاز التنفسي في جميع أنحاء العالم خصوصًا في فصل الشتاء حيث إنها مسؤولة عن ما يقدر بنحو 15-30% من نزلات البرد.
4. الإيدز
رغم نقص انتشار فيروس «HIV» المسبب لمرض الإيدز حول العالم، تظل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء أكثر المناطق تضررًا. أصبحت عدوى فيروس الإيدز مستوطنة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والتي رغم أنها تضم 12% من سكان العالم، إلا أن ثلثي المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية يتواجدون هناك. يبلغ معدل انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين البالغين 5% ويتأثر به ما بين 21.6 مليون و24.1 مليون شخص.