اليوم 18 مايو (آيار) عام 1944م، والساعة بالكاد قاربت الثالثة فجرًا، وبينما تغظ القرية الوادعة في نومٍ عميق يتناسب مع هدوئها الفريد، انشقت حلكة الليل بفجرٍ مُطلٍّ كالحريق، حين داهم الجنود السوفييت، وضباط المخابرات السوفييتية، القرية، وأفزعوا المئات من أهلها، وقصفوا آذانهم بالقرار الصادم. «أمامكم أقل من نصف ساعة لتجمعوا أطفالكم ومتعلقاتكم من أجل الرحيل عقابًا على خيانتكم للشعب السوفييتي ودعمكم للنازيين». 

خلال ساعاتٍ قليلة، كان أكثر من 230 ألفًا من تتار القرم، جُلُّهُم من النساء والأطفال والعجزة، قد جُمّعوا في الشاحنات أكداسًا فوق بعضهم البعض، وشحنوا إلى نقاط تجمع محددة، ومنها إلى قطارات البضائع التي حملتهم في ظروف بالغة القساوة إلى المنافي، حيث وصل أكثر من 150 ألفًا من الناجين إلى أوزباكستان في آسيا الوسطى، بينما نُقل الباقون إلى طاجكستان وكازاخستان ومناطق روسية متفرقة.

أما الآلاف من رجال تتار القرم المُجنَّدين إجباريًا في القوات السوفييتية على مختلف جبهات الحرب العالمية الثانية؛ فلم يكن مصيرُهم أفضل كثيرًا، فقد شُحنوا من المواقع القتالية إلى معسكرات الأشغال الشاقة في سيبيريا والمناطق الجبلية، وظلّوا يقاسون آلام النفي والمرض والعمل في ظروفٍ غير آدمية حتى مات الطاغية السوفييتي الشهير جوزيف ستالين صاحب قرار النفي، ليُسمَح لهؤلاء الجنود المأسورين عام 1953م بالعودة إلى عائلاتهم – أو من نجا منها – في المنفى.

هكذا باختصار شديد الإخلال، كانت قصة المأساة الأشهر في تاريخ شعب تتار شبه جزيرة القرم. مأساة الترحيل من أرضهم، التي جنى عليها وعلى سكانها على مدار القرون موقعُها الإستراتيجي الفريد في شمال البحر الأسود الذي يُمَكِّن من يُسيطر عليها من التحكم في خطوط الملاحة والتجارة في ذلك البحر الحيوي، مما جعلها هدفًا لصراعاتٍ وصداماتٍ تاريخية بين الإمبراطوريات والكيانات السياسية القوية التي أحاطت بها، لا سيَِما الإمبراطوريتيْن الروسية والعثمانية، ومملكة بولندا، والقوى الاستعمارية العالمية كإنجلترا وفرنسا، ثم ابتلعها في العصر الحديث الزحف الأحمر للاتحاد السوفييتي، ثم في السنوات الأخيرة وريثتُه في الطموح الجيوسياسي، روسيا الاتحادية.

هل يعيد التاريخ نفسه؟

كانت طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا تدقُّ منذ مطلع العام الجاري 2022م، حتى بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا فجر الخميس 24 يناير (كانون الثاني)، وفي الوقت الذي ترتكز عيون العالم على هذه البقعة المشتعلة من العالم، ونسمع أصوات الخائفين من اندلاع حربٍ عالمية ثالثة، في كوكب يمتلك آلافًا من الرؤوس النووية، وفائضًا وافرًا من تكنولوجيا القتل والتدمير؛ نجدُ أنَّ كتبَ التاريخ تنادينا لنبحثَ في أعماقِها عن الجذور التاريخية لمثل تلك الأحداث الملتهبة.

ومنذ تصاعد التوتر الروسي- الأوكراني، عادت قضية شعب تتار القرم إلى الواجهة مجددًا، بعد أن طفت من سنوات على السطح مطلع عام 2014، عندما غضبت روسيا من ثورة الميدان التي وقعت في فبراير (شباط) 2014 وأطاحت الرئيس الأوكراني الموالي لها يانوكوفيتش، لتحلَّ محلَّه حكومة موالية للغرب، فاحتلَّت روسيا شبه جزيرة القرم، التي كانت فيدرالية تابعة لأوكرانيا، ثم ثبَّتت احتلالَها باستفتاء مشكوك في مصداقيته لتقرير المصير، عُقِد على عجل. 

لم تعترف أوكرانيا والغرب بنتيجة الاستفتاء التي ظهرت في 18 مارس (آذار) 2014، والتي أكدتْ ضم الإقليم إلى روسيا، ومنذ ذلك الحين تعرَّض تتار القرم لقمع السلطات الروسية بسبب اعتراضهم على الاستفتاء والضم، وتتابعت تحذيرات منظمات حقوق الإنسان من القمع الروسي لسكان القرم من غير ذوي الأصول الروسية، والذين تبلغ نسبتهم حوالي 40% من السكان، لا سيَّما تتار القرم (حوالي 13%) على وجه الخصوص، لأنهم الأعلى صوتًا في الاعتراض على الضم الروسي، لقسوة ما تحمله ذاكرتهم التاريخية مع الروس خلال أكثر من قرنيْن.

وخلال الأعوام الستة الأولى (2014-2020) بعد هذا الضم غير القانوني، شجعت السلطات الروسية استيطان أكثر من 250 ألف في شبه الجزيرة، بينما رحل من القبضة الروسية الخانقة أكثر من 130 ألفًا من تتار القرم والأوكرانيين، إلى جانب تعزيز التواجد العسكري الروسي في شبه الجزيرة بمختلف أفرع الجيش الروسي. بل صرَّح زعيم تتار القرم والنائب في البرلمان الأوكراني مصطفى عبد الجميل لوكالة الأناضول التركية في مارس 2021، أن عدد الروس الذين وُطِّنوا في القرم منذ ضمها قد تجاوز نصف مليون نسمة، وهو عدد يقلب الموازين الديموغرافية في شبه الجزيرة رأسًا على عقب.

والآن نعود بضعة قرونٍ إلى الوراء لنتتبع كيف وصلنا إلى هذا المشهد الحالي في القرم، وكيف صار تتار القرم ضحايا النيران المتبادلة بين جيرانٍ أقوياء متحفزين.

خانية القرم وقرونها الثلاث

لا يمكن فهم ظهور خانيّة القِرم عام 1443م، الكيان السياسي التاريخي الأبرز لتتار القرم، والذي استمر على مسرح الأحداث الملتهب ما يقارب ثلاثة قرونٍ ونصف، دون العروج أولًا على الدولة الأم التي انبثقت منها خانية القرم، وهي دولة القبيلة الذهبية.

ظهر التتار أصحاب الجذور التركية، بقوة في صفحة التاريخ بعد أن وحّدَهم ملكهم الأعظم جنكيز خان في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، عندما قاد عشرات الآلاف من الفرسان، لاجتياح معظم أجزاء القارة الآسيوية لا سيما الوسطى والغربية في غزواتٍ بالغة التدمير، ساحقًا العديد من الممالك القائمة في تلك المناطق، ومن أشهرها مملكة خوارزم المسلمة القوية.

ثم أكمل أبناؤه وأحفاده هذا التوسع في اتجاهات أخرى، فاجتاحوا أجزاءً واسعة من روسيا وأوكرانيا الحاليتيْن بين عامي 1236 و1240، شاملةً مدينتيْ موسكو وكييف، وشبه جزيرة القرم، ثم ما لبثت تلك المناطق أن عادت للازدهار تدريجيًا في السنوات والعقود التالية تحت حكم التتار، مع الالتزام بدفع الجزية.

توفي جنكيز خان عام 1227م، وقد خلَّف لأبنائه وأحفاده أكبر إمبراطورية في تاريخ العصور الوسطي، تمتد من كوريا شرقًا إلى بحر قزوين غربًا، وقسِّمت مناطق تلك الإمبراطورية بينَ أبنائه، على أن يدينَ الجميع بالولاء للخان الأعظم أوغطاي خان بن جنكيزخان.

لكن تدريجيًا بدأت الأجزاء الغربية من إمبراطورية التتار، والتي كان يحكمها القائد الطموح باطو خان حفيد جنكيز خان في التمايز، لتشكل كيانًا مستقلًّا عن باقي الإمبراطورية، لا سيَّما بعد وفاة أوغطاي خان عام 1241م، والذي سيُعرَف تاريخيًّا باسم القبيلة الذهبية، والتي سيطرت على أجزاءٍ مؤثرة من شرقي أوروبا لعقودٍ طويلة.

سيتمثل التحول الأبرز في تاريخ القبيلة الذهبية في اعتناق قائدها بركة خان – أخي باطو خان – الإسلام، وتحالفه مع سلطان دولة المماليك الظاهر بيبرس، ومعاداته لباقي التتار، لا سيَّما العدو المشترك، الدولة الإيلخانية. وستتعزَّز الثقافة الإسلامية في عهد أوزبك خان (1313م-1341م)، والذي ستصل الدولة في عهده وعهد خليفته جاني بك إلى قمة قوتها، لكنها لن تلبث أن تضعف تدريجيًا بعدهما، وتتفشى داخلها الصراعات السياسية، وتبدأ الدويلات المحلية مثل دوقية موسكو الكبرى في التضخم على حساب الحكومة المركزية، لتكون لاحقًا نواة دولة روسيا القيصرية الإمبراطورية.

 ثم جاءت غزوة تيمورلنك المدمرة عام 1395م لتُضَعضع القبيلة الذهبية أكثر فأكثر، لتبدأ في التفسخ في القرن التالي إلى دويلات عُرفَت بالخانيات، مثل خانيتيْ أستراخان وقازان، واللتيْن ابتلعها الروس في عهد إيفان الرهيب عاميْ 1552 و1556م، وخانية القرم التي نشأت عام 1443م، لكنها نجحت في الصمود طويلًا أمام الروس حتى عام 1783م، وكان كلمة السر في ذلك: الدولة العثمانية.

يذكر المؤرخ د. محمد سهيل طقوش في كتابه: «تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة» أن خانية القرم في بدايتها قد ورثت ما اعترى دولة القبيلة الذهبية الأم من ضعف وصراعات أهلية سياسية، حتى أن جمهورية جنوة الإيطالية نجحت في الاستيلاء على موانئ1 القرم التجارية على ساحل البحر الأسود، وأبرزها مينائيْ أزوف وكافا لأكثر من قرنٍ، وهيمنت على التجارة المربحة عبرها. لكن بعد الفتح العثماني للقسطنطينية عام 1453م، وتحكم العثمانيين بشكلٍ كامل في مضيقيْ البوسفور والدردنيل، أصبحت التجارة الجنوية تحت رحمة الضرائب العثمانية، وكذلك المضايقات المتكررة من الأسطول العثماني.

تاريخ

منذ 3 سنوات
نَهْب موسكو 1382.. خدعة الشعوب التركية التي لم ينسَها الروس أبدًا

ويكمل د. طقوش في السياق نفسه، أنه عام 1475م، ومع تصاعد النزاعات السياسية في خانية القرم، قرَّر محمد الفاتح حسم ملف الوجود الجنوي في البحر الأسود، فأرسل أسطولًا عثمانيًا ضخمًا مكونًا من أكثر من 470 سفينة، استولى على كافة موانئ القرم، واتخذ من ميناء كافا قاعدة عثمانية، ثم أُعلنت الحماية العثمانية على خانية القرم بموجب اتفاقٍ عُقد في العام نفسه مع خان القرم منكلي كيراي خان الأول، يقضي بأن يُنصِّب السلطان العثماني خان القرم من نسل جنكيز خان، وأن يُدعى له في خطبة الجمعة بعد السلطان مباشرة، وأن يُنقش اسمه على العملة بجوار السلطان. 

يذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الدولة العثمانية» أن خانية القرم تحت النفوذ العثماني قد مرَّت بأطوارٍ من القوة والتمدد وصلت مساحة نفوذها فيها إلى مليون كم2، حيث ضمت أجزاءً واسعة من أراضي أوكرانيا الحالية، وبعض أجزاء الحوض الشرقي لنهر الفولجا حيث بقايا مناطق القبيلة الذهبية، وكانت قادرة في بعض المراحل على حشد جيشٍ ضخم يصل تعداده إلى 200 ألف مقاتل.

وفي الكتاب نفسه يسجل أوزتونا بعض الزيجات التاريخية التي عزَّزت علاقات خان القرم بالعثمانيين، فقد زوًّج منكلي ابنتيْه من أميريْن عثمانييْن، أشهرها سليم ياوز، الذي سيصبح عام 1512م السلطان العثماني الشهير سليم الأول، وسيعاصره منكلي سلطانًا لعاميْن، حتى وفاة هذا الخان البارز عام 1514م.

وعلى مدار القرون الثلاثة التالية، استفاد تتار القرم من الحماية العثمانية أمام الطموحات الروسية والبولندية الجارفة، وأفاد العثمانيون من فرسانهم الأقوياء ودعمهم العسكري في ساحات حروبها المختلفة، ونجح الطرفان لقرونٍ ثلاثة في فرض سيطرة شبه كاملة على البحر الأسود. وظلت العلاقات في المجمل ودية بين الطرفين، وإن تقلَّبت وفق موازين القوة بينهما بين الخضوع التام من خانية القرم للدولة العثمانية، أو درجاتٍ متباينة من الاستقلالية عنها والتنافس الخفي على النفوذ شماليْ البحر الأسود.

خلال القرنيْن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وقعت صدامات عسكرية عديدة بين خانية القرم والكيانات المنافسة لها، لا سيَّما روسيا القيصرية، وإمبراطورية بولندا-ليتوانيا، وكذلك بعض الدويلات المستقلة على ضفاف الدانوب، وحققت الخانية انتصاراتٍ كبيرة في العديد من تلك الحروب، وتمكنت من أسر آلافٍ مؤلفة من أعدائها، فنشطت تجارة الرقيق – التي ورثها القرميون عن تجار جنوة الذين اشتهروا بها – وأسهمت إلى جانب التجارة المزدهرة في البحر الأسود، في تعزيز اقتصاد الخانية لوقتٍ طويل.

وشهد الصدام العسكري مع الروس فصولًا بارزة على مدار قرون الخانية الثلاثة، أبرزها الباحث بريان ويليامز في كتابه «Sultan’s raiders» مثل غزوة عام 1569م المشتركة مع العثمانيين لاستعادة ميناء أستراخان القوقازي الذي استولى عليه إيفان الرهيب، لكن عجز المهاجمون عن اقتحام التحصينات الروسية، ومُنوا بالهزيمة. وانتقم تتار القرم من الروس فيما عُرف بغزوة عام 1571م الكبرى، التي توغلت فيها جيوش خانية القرم لمئات الأميال في أعماق الأقاليم الروسية، حتى حاصروا العاصمة موسكو، وأحدثوا بها دمارًا واسعًا رغم عجزهم عن السيطرة عليها، وعاد التتار وفي حوزتهم عشرات الآلاف من الأسرى الروس. 

انشغل تتار القرم كثيرًا في القرن السابع عشر الميلادي بالصدام مع فرسان قبائل القوزاق التي تمركزت في مناطق عديدة من أوكرانيا الحالية، ومثلوا خطرًا كبيرًا على المصالح العثمانية والتترية في منطقة أوكرانيا والبحر الأسود. وشنَّ القيصر الروسي الشهير بطرس الأكبر، حملتيْن عسكريَّتيْن كبرييْن لغزو قلب خانية القرم والاستيلاء عليها، لكنه فشل في المرتيْن نتيجة طول خطوط الإمداد، والخسائر الكبيرة التي تكبدها جيشه جراء مقاومة التتار، والتي بلغت في الحملة الأولى أكثر من 45 ألف قتيل وجريح، لكنه عاد ونجح في الاستيلاء على قلعة آزوف الإستراتيجية عام 1697م.

ورغم الضعف التدريجي الذي سرى في أوصال خانية القرم وحليفتها الدولة العثمانية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، فإن جيش الخانية عام 1769م نجح في شنّ إغارة قوية ضد الروس عاد منها بأكثر من 20 ألف أسير روسي.

نكبة تتار القرم.. من الاحتلال الروسي إلى الترحيل

في كتابه «تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة» يذكر د. سهيل طقوش أن الطموح الروسي الجارف للوصول إلى المياه الدافئة جنوبًا، جعل الاستيلاء على خانية القرم هدفًا إستراتيجيًا للقياصرة الروس الأقوياء، وقد قطع بطرس الأكبر بعض الأشواط في هذا الطريق، عندما فرض توقيع اتفاقية أدرنة عام 1713م، التي أسقطت الجزية التي كان يدفعها الروس لخانية القرم، وفرض تعهداتٍ على الأخير بعدم مهاجمة المصالح الروسية، لكن جهود الإمبراطورة الشهيرة كاثرين الثانية (1762م- 1796م) كانت هي الحاسمة في ملف خانية القرم.

أدت هزيمة العثمانيين في الحرب الروسية العثمانية 1768-1774م، إلى فرض كاثرين الثانية توقيع معاهدة قينارجي عام 1774م، والتي اشترطت فيها منح العثمانيين الاستقلالية التامة لخانية القرم، وفرض حرية الملاحة والتجارة للروس في البحر الأسود وعبر المضائق التركية. ثم في عام 1783م، أرسلت كاثرين حملةً عسكرية احتلَّت خانية القرم، وأنهت أكثر من خمسة قرونٍ ونصف من تاريخ تمدد تتار القبيلة الذهبية ونفوذها في شرقي أوروبا، وعجز العثمانيون عسكريًا وسياسيًا عن استعادة الخانية، أو حتى شبه جزيرة القرم.

على مدار القرن التاسع عشر الميلادي، تعرض تتار القرم لاضطهادٍ ديني طويل المدى، وقمع شديد من السلطات الروسية لأية فعاليات إسلامية جماعية في الإقليم، مما أدى إلى تناقص أعدادهم تدريجيًا، مقابل تضاعف أعداد الوافدين الروس وغيرهم، وقدرت بعض المصادر أنه قد رحل أكثر من نصف مليون من تتار القرم على مدار ذلك القرن، لا سيَّما في أعقاب حرب القرم الشهيرة التي اندلعت بين عامي 1853م و 1856م، وكانت أشبه بحربٍ عالمية مصغرة، تصاعدت بعدها أعمال اضطهاد وتهجير آلافٍ مؤلفة من تتار القرم على يد السلطات الروسية التي ساءها تحالف إنجلترا وفرنسا مع الدولة العثمانية ضدها.

ولا بد هنا أن نمر سريعًا على حرب القرم، والتي كان سببها المعلن إصرار الروس على فرض حمايتهم على الرعايا المسيحيين في الأقاليم العثمانية بالأخص من الأرثوذوكس، وكذلك كنائس فلسطين، ورفض فرنسا لذلك، لأنها كانت تطمح لأسباب سياسية أن تلعب هذا الدور الراعي، فشجعت هي وإنجلترا – المتضامنتيْن ضد التوسع الروسي الجيوسياسي والعسكري – الدولة العثمانية على رفض المطالب الروسية، ثم إعلان الحرب ضد روسيا في أكتوبر (تشرين الأول) 1853م، ومحاولة استعادة الأقاليم الرومانية وشبه جزيرة القرم من الروس.

تدخلت الأساطيل الفرنسية والإنجليزية ضد الأسطول الروسي في البحر الأسود عام 1854م، ثم حاصرت القوات المتحالفة ميناء سيفاستوبول الروسي الحصين الهام في القرم لمدة أكثر من عام، حتى سقط أواخر عام 1855م، وإزاء الخسائر الثقيلة للجانبيْن والتي قدرت بربع مليون جندي من كل طرف، وتفشي الأوبئة، والهزيمة النسبية للروس، بدأ التفاوض، وانتهى إلى معاهدة باريس عام 1856م، والتي فرضت فيها إنجلترا وفرنسا على روسيا الاعتراف بسيادة الدولة العثمانية على ما بقي من أراضيها، وحياد البحر الأسود ونهر الدانوب أمام ملاحة الجميع، واستعاد العثمانيون جزءًا من أراضيهم في رومانيا، وعادت الأمور في شبه جزيرة القرم إلى ما كان قبل الحرب.

تاريخ

منذ سنة واحدة
الحرب الروسية العثمانية.. حربٌ أنهت وجود المسلمين في البلقان بالمدافع والمذابح

تنفَّس تتار القرم الصعداء قليلًا عام 1905م بعد إصدار روسيا القيصرية قوانين أكثر تسامحًا في حرية العبادة، ومثَّل لهم اندلاع الثورة البلشفية عام 1917م – التي أدت في نهاية المطاف إلى تأسيس الاتحاد السوفييتي على مبادئ الشيوعية – وما صاحب هذا من تفكك روسيا القيصرية، فرصةً سانحة، فأعلنوا قيام جمهوريتهم الديموقراطية المستقلة، والتي منحت حق التصويت للنساء قبل ثلاثة أعوام من منحه للنساء الأمريكيات.

لكن بنهاية الحرب الأهلية الروسية عام 1920م، وانتصار الشيوعيين البلاشفة على خصومهم، أُلغيت جمهورية القرم المستقلة، وأعاد الشيوعيون تشكيلها بوصفها جمهورية شيوعية ذات حكم ذاتي تحت الإدارة السوفييتية، وتعرض تتار القرم لاضطهادٍ سياسي وديني من السلطات السوفييتية الشيوعية المتطرفة.

ثم شهد عاميْ 1932 و1933م، مأساة الهولودومور، وهي المجاعة الأوكرانية الكبرى التي راح ضحيتها ما يقارب 4 مليون أوكراني، من بينهم عشرات الآلاف من تتار القرم الذي هلكوا جوعًا، أو تعذيبًا من قبل السلطات السوفييتية وتكاد تجمع المصادر التاريخية على أن سبب تلك المجاعة الهائلة هو سياسة جوزيف ستالين في فرض الاقتصاد الشيوعي بشكلٍ سلطوي متسرع وغير مدروس، حيث صادر المزارع الصغيرة التي يملكها السكان، من أجل تحويل الزراعة إلى المزارع الجماعية الكبيرة التي تديرها الدولة، فانهار الإنتاج الغذائي بشكلٍ خطير ووقعت المجاعة.

عام 1941م، وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، استولت قوات ألمانيا النازية المتوغلة في أعماق الأراضي السوفييتية، على شبه جزيرة القرم، وبالفعل رحَّب بعض السكان من تتار القرم بالمحتلين الجدد بعد ما قاسوه من القمع السوفيتي، فاتهم الروس المتربصون شعب تتار القرم بكامله بالخيانة، وشرعوا في عقابهم جماعيًا بالتهجير الذي وصفنا بعض مشاهده في لداية التقرير ابتداءً من اليوم التالي لاستعادتهم القرم من النازيين في مايو 1944م.

ما بعد الترحيل.. عودة مأساوية وشبح المأساة يخيم على الأجواء

بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في عام 1946م، أصدر مجلس السوفيات الأعلى قراره بإلغاء الاستقلال الذاتي لجمهورية القرم، وذلك عقابًا على الخيانة المزعومة لشعب تتار القرم، وقاسى المنفيون أشد الظروف في الأماكن التي رُحَّلوا إليها، لكنهم حاولوا تجميع أنفسهم في المنفى، من أجل النضال للحفاظ على وجودهم وهويتهم وحلمهم بالعودة للوطن.

ورغم أنه في عام 1967م وبعد أكثر من 20 عامًا من التشريد، وفقدان مئات الآلاف من الأرواح، أصدر مجلس السوفييت قراره بتبرئة تتار القرم من تهمة الخيانة العظمى أثناء الحرب العالمية الثانية، فإن السلطات السوفيتية لم تسمح إلا لبضع مئاتٍ من الأسر المنفية أن تعود إلى القِرم من إجل إيهام العالم ظاهريًا بانتهاء أزمة تهجير القرم.

أما العودة الحقيقية إلى الوطن فلم تبدأ إلا بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991م، حين عاد أكثر من ربع مليون من تتار القرم في سنوات التسعينيات الأولى إلى شبه الجزيرة التي أصبحت الآن جزءًا من دولة أوكرانيا المستقلة حديثًا عن الاتحاد السوفييتي، لكنهم لم يجدوا أحضان الوطن الدافئة التي طالما حلموا بها، فقد سكن ديارهم ومنازلهم المستوطنون الروس وغيرهم، فعادوا إلى فقرٍ مدقع، وظروف معيشية بالغة الصعوبة، ونسبة بطالة مرتفعة للغاية.

تحسنَّت أحوال تتار القرم قليلًا بعد أن نصَّ الدستور الأوكراني عام 1996م على جعل شبه الجزيرة جمهورية ذات حكم ذاتي تحت السيادة الأوكرانية، ولها برلمانها الخاص، على أن توافق وتتماشى قوانين القرم مع القوانين الأوكرانية العامة. وشكلَّ تتار القرم لأنفسهم برلمانًا موازيًا يُعرف بالمجلس، ليدافع عن مصالحهم وحقوقهم، ثم جاء الضم الروسي عام 2014م، وتغير كل شيء، وعاد التهجير، لكن بشكلٍ طوعي.

ولا يبدو في القريب المنظور أن أوكرانيا تمتلك الأوراق العسكرية والسياسية والاقتصادية الكافية لتستعيد شبه جزيرة القرم، بل إنها الآن على وشك – إن لم تكن بالفعل قد خسرت – أن تخسر جزءًا جوهريًا من مناطقها الشرقية في إقليمي دونتسيك ولوجانسك لصالح روسيا، وبالتالي فسيظل من بقي من تتار القرم إلى أجل غير مسمى تحت طائلة الهيمنة والعنصرية الروسية، وهواجس ماضٍ مؤلم، وآلام مستقبلٍ مظلم الأفق تحاصره الهواجس.

تاريخ

منذ سنة واحدة
لولا صموده ربما احتَلُّوا إسطنبول! قصَّة صمود غازي عثمان باشا أمام الجحافل الروسية

المصادر

تحميل المزيد