الحكومة تنادي بشد الحزام

في أغسطس الماضي، جمدت الحكومة الجزائرية كل مشاريع التجهيز التي لم يتم الانطلاق في إنجازها بعد، وعبر مراسلة رسمية لديوان الوزير الأول، دعا عبد المالك سلال وزير المالية إلى اتخاذ التدابير اللازمة والرامية إلى تعزيز التوازنات الداخلية والخارجية للبلاد، وألزم سلال كافة وزرائه بالحكومة تأجيل عملية اقتناء السيارات إلى السنة المالية 2016، وألزم الجميع بضرورة الموافقة المسبقة للسيد الوزير الأول بخصوص المشاريع التي لم ينطلق إنجازها بعد.

كما ركز سلال في اجتماعه مع ولاة الجمهورية (ولاة المحافظات) على ضرورة تجسيد إجراءات سياسة التقشف، وتشجيع الاستثمار المحلي ومحاولة رفع العراقيل عن رجال الأعمال والتجار لتجسيد مشاريعهم، وهذا محاولة منه في تدارك النقص على مستوى القطاع العام، وجلب رؤوس أموال إلى الخزينة من أموال الجزائريين. ومعروف لدى الجزائريين عدم ثقتهم الكبيرة في المؤسسات المالية الجزائرية وعدم اعتمادهم على البنوك والمصارف، بالنظر إلى ملف الخليفة الذي ذهب ضحيته كل من أودع أمواله بالبنك وحتى الآن لم يتم تعويضهم.

وباشرت الحكومة إجراءات تقليص أو إلغاء الدعم لعدد من أنشطة الرعاية الاجتماعية والصحية والزيادة في الفواتير كما جاء به قانون المالية التكميلي لسنة 2016، بالرغم أن الأزمة في الجزائر لم تبلغ بعد هذه الدرجة من الحدة على اعتبار أن مستوى الدين الخارجي لا يزال صفريًّا واحتياطات العملية الصعبة، إلا أن النزول والانهيار الكبير لأسعار النفط في السوق الدولية من 145 دولار إلى أقل من 40 دولار في ظرف أشهر قليلة صدمت السلطة بالجزائر ودفعتها إلى اتخاذ هذه الإجراءات التقشفية تحضيرًا للمرحلة الصعبة التي قد تسود البلاد في المستقبل القريب.

 

ما هو التقشف ؟

Government employees and civil servants take part in a demonstration against the Spanish government's latest austerity measures, in the center of Madrid, on November 16, 2012. Spain announced on November 15, 2012 it has moved into a second year of a job-killing recession, a day after millions joined anti-austerity strikes and vast protests. AFP PHOTO/DOMINIQUE FAGET (Photo credit should read DOMINIQUE FAGET/AFP/Getty Images)

يقصد بالتقشف برنامج حكومي ذو طابع اقتصادي مالي، تقوم الدولة ومؤسساتها باتباع سياسات مالية تهدف إلى إحداث قدر من التوازن بين الإنفاق العام للدولة وإيراداتها العامة باتخاذ إجراءات معينة في هذا الاتجاه مثل رفع الضرائب بكافة أشكالها أو زيادة الرسوم التي تحصلها الدولة على ما تقدمه من سلع وخدمات.

كما يعني التقشف كذلك خفض الإنفاق العام على المشاريع العامة المصنفة ضمن البنى التحتية ورفع الدعم على المواد الأساسية بالنسبة للدول التي توزع الريع مثل مؤسسات دعم تشغيل الشباب عبر قروض إنشاء المشاريع الصغيرة والمتوسطة ودعم المواد الأساسية للأسر والخدمات المجانية كالصحة والتعليم.

ويشير “مارك بليث” Mark blyth من جامعة “براون” أن التقشف هو نتاج أزمة عنيفة وإجراء تقوم به الدولة حتى تتمكن من التعايش المالي في حدود إمكانياتها وبدون اللجوء إلى مزيد من الاقتراض الخارجي، ويعرف التقشف على أنه شد للحزام.

 

بن بيتور: بالأرقام هكذا بدأ التقشف في الجزائر

 

وفي مداخلة له بمقر الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان بالعاصمة، أفاد رئيس الحكومة الأسبق احمد بن بيتور، أن “كل جزائري من حقه إدراك حقيقة التهديدات التي تلوح في الأفق، عليه وعلى أبنائه، فقد أطلقت تحذيرات منذ سنوات حول مستقبل الجزائر لفت المواطنين والسلطات المعنية للفت الانتباه، لكنها للأسف لم تؤخذ بعين الاعتبار”.

ويرى بن بيتور حسب المداخلة التي نقلتها جريدة الخبر، بأن الصادرات سجلت انخفاضًا بنسبة 25.6 بالمائة بين 2006 و2011 وانخفاضًا آخر بنسبة 10 بالمائة سنة 2012 مقارنة بـ 2011 واستمرت في الانخفاض من وقتها، فيما سُجل ارتفاع معتبر لنفقات الميزانية المتعلقة بالجباية البترولية، وفعليًّا ارتفع سعر موازنة الميزانية من 34 دولار سنة 2005 إلى 115 دولار في 2011 و130 دولار في 2012.

وتُعطي هذه الأرقام حقيقة مطلقة، وفقا لبن بيتور، بأنه “انطلاقا من سنة 2002 تم إخفاء الأزمة الاقتصادية ببحبوحة مالية ظرفية، استنادًا إلى سعر البترول المرتفع آنذاك، لكن كل الظروف لهذه الأزمة كانت حاضرة، وكان واجبًا إطلاق جرس الإنذار، لكنه واقع قابله ظهور لفساد وانتشار الرداءة وعدم الكفاءة”.

وبالعودة إلى حقيقة الاقتصاد الجزائري الذي يعتمد على 98 بالمائة من مداخيله بالعملة الصعبة، يعتبر بن بيتور أن الحكومة الجزائرية تعيش في أصعب فترة بعد انهيارات سعر برميل النفط، وهذه الحال تنعكس حسب بن بيتور دومًا “على جيوب المواطنين الغلابة”.

ما هي انعكاسات هذا التقشف؟

وكثر الحديث في القطاع العام عن مراسلات إدارية من الوزير الأول ووزيره بالمالية، تجاه الدوائر الوزارية والمؤسسات والمديريات عبر التراب الوطني والمحلي من أجل تجسيد الكثير من الإجراءات التي تحد من المصاريف العمومية وإلغاء كافة النفقات غير الضرورية والهدايا والهبات، وتجميد المشاريع المبرمجة والتي لم تنطلق بعد، أو المشاريع التي لم تتجاوز نسبة الإنجاز بها 50% إلا بترخيص من الوزير الأول.

وحذر خبراء اقتصاديون من انعكاسات التقشف على الجزائريين ابتداءً من نهاية 2015، ولعل أبرز الانعكاسات هو ارتفاع أسعار السلع والتجهيزات وتنامي مستوى البطالة بسبب تقليص نسبة التوظيف وهي السياسة التي اعتمدتها منذ أشهر قليلة مديرية الوظيف العمومي (المؤسسة التي توظف الجزائريين بالقطاع العمومي) في الكثير القطاعات أهمها التربية والتعليم والصحة.

وأكد الخبير المالي “كمال رزيق” أن ارتفاع أسعار المواد غير المدعمة وارتفاع سعر السيارات والتجهيزات الكهرومنزلية وتناقص نسبة استيرادها واختفاء السلع الكمالية من السوق، على غرار الفواكه والحلوى والعصائر والملابس وتضاؤل عملية التوظيف في العديد من القطاعات الحيوية. كما شدد الخبير على أن التقشف سيمس وبدرجة كبيرة – حسبه – المسؤولين الساميين بالدولة على غرار الوزراء والسفراء وإطارات الدولة وأصحاب المناصب العليا من خلال ترشيد النفقات العمومية.

كما يؤكد الخبير الاقتصادي “فارس مسدور” أن الجزائريين يواجهون تكرارًا لسيناريو نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، حين عرفت الجزائر أزمة مالية خانقة عصفت بأمن الجزائر على اثر خروج الشعب إلى الشارع ودعوته لإسقاط النظام ورحيل الرئيس الشادلي، وأرجع “مسدور” في حديثه لجريدة الشروق هذا السيناريو إلى اعتماد الحكومة الجزائرية لتمويل المشاريع الشعبوية على غرار السكنات والطرقات بميزانيات مضاعفة وخيالية (الطريق السيار 26 مليار دولار)، على حساب المشاريع الاقتصادية المنتجة.

وطالب المتحدث السلطات بضرورة الابتعاد عن اقتصاد الريع وسياسة شراء السلم الاجتماعي، والاعتماد على الاقتصاد المعرفي والإنتاجي في المرحلة المقبلة، وتسهيل إجراءات الاستثمارات الأجنبية في الجزائر، مختتمًا كلامه بأن “سيدنا يوسف عليه السّلام خطط لـ 15 سنة وحكومة الجزائر لم تخطط لشهر واحد بعد انهيار البترول..”

الشارع الجزائري في حيرة

99b0cbdd6200d076b65ad6976a0decc6_XL

يعيش الشارع الجزائري حالة من القلق والتوتر هذه الأيام، بعد مصارحة الحكومة الجزائرية لهم بالإعلان عن إجراءات التقشف وعن ولوج مرحلة صعبة جدا على مستوى الدخل المالي على اثر انهيار أسعار البترول عالميًّا، وما صدم الجزائريين وخاصة خريجي الجامعات والتكوين المهني هو إعلان الوزير الأول توقيف التوظيف بالقطاع العام سنة 2015.

كما يتخوف الجزائريون من استحداث ضرائب جديدة والزيادة في تسعيرات الماء والكهرباء والبنزين، وهذا ما قامت به الحكومة في بداية التسعينات لمواجهة الأزمة المالية التي كانت تتخبط فيها الجزائر والتي عكستها المديونية الكبيرة مع صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى رفع الدعم عن المواد واسعة الاستهلاك كالخبز والحليب والزيت والسكر.

ويقوم جزء كبير من المواطنين بتحويل أموالهم من الدينار الجزائري إلى العملة الصعبة باليورو أو الدولار، أو من خلال شراء الذهب للمحافظة على قيمة أموالهم وتثبيتها في السوق. وعرف الدينار الجزائري منذ سنة تقريبًا انهيارًا كبيرًا في السوق الدولية مقارنة بالدولار الأمريكي، وتحاول الأسر الجزائرية الخروج من الأزمة بأقل الأضرار، وصاحب هذا الانهيار حملات أمنية جوارية لتطهير تجار السوق السوداء للعملة الصعبة واعتقال الكثيرين، مع العلم أن الجزائر لا تتوفر على مكاتب أو بنوك تقوم بشراء أو بيع العملة الصعبة من وإلى الدينار الجزائري سوى من يحمل تذكرة سفر إلى خارج البلاد ويسمح بالتحويل مرة في العام فقط. وهذا ما يطرح أكثر من تساؤل حول هذا الإجراء!

الحكومة تلجأ للاستدانة والمعارضة تحذر

 

وفي اعتراف صريح، طالب رئيس البلاد عبد العزيز بوتفليقة حكومة سلال بشرح الأزمة المالية للمواطن، وإشراكه في سياسة “شد الحزام” التي ستنتهجها الحكومة، رغم نداءات الاطمئنان التي أطلقها الوزير الأول سابقًا وعدد كبير من وزرائه عبر المنابر الإعلامية، وتدرك الحكومة جيدًا انعكاسات التقشف على الطبقة الاجتماعية، ولذلك سارعت الحكومة عبر وزيرة التربية بن غبريط إلى قبول كل مطالبات النقابات المستقلة لقطاع التربية والتعليم على أمل تهدئة جبهة واسعة من العمال الجزائريين وهم المعلمون والأساتذة وعمال المؤسسات التربوية.

كما تعمل الحكومة حاليًا على دراسة احتمال الاستدانة من الصين، وشرعت المصالح المختصة في دراسة هذا الملف، لتجاوز الأزمة الحالية وهو ما يجعل عبد العزيز بوتفليقة أمام رهان صعب بعدما وعد الجزائريين عام 1999 بتحقيق ثلاث مطالب أساسية وهي إنهاء المديونية للجزائر بالمؤسسات المالية الدولية، واستعادة كرامة الجزائري بالخارج وإنعاش الاقتصاد الجزائري وهو ما يتبخر الآن مع الاستدانة مع الصين، وحادثة الإهانة التي تعرض لها وزير الاتصال “قرين” بباريس، والأزمة المالية التي يعيشها الاقتصاد الجزائري على التوالي.

وحذرت أغلب قوى المعارضة الجزائرية من احتمال الاستدانة الذي تطمح إليه الحكومة، بعدما طرحت منذ سنوات مشكل الريع الذي يحقق للسلطة أطماعًا سياسية، ورفضت كتل المعارضة بالبرلمان الجزائري قانون التكميلية لسنة 2016، كما تحاول الاستثمار في الصعوبة المالية التي تعيشها البلاد لكسب تعاطف سياسي لخدمة تموقعها ودفع السلطة للتنازل وتحقيق مطالب الانتقال الديمقراطي.

المصادر

تحميل المزيد