لا يختلف اثنان بالجزائر على دور المؤسسة العسكرية في حكم البلاد، فإذا كان المتفق عليه بأنّ مجمل دول العالم أنشأت جيوشًا لها بُعيد استقلالها، فإنّ الاستثناء بالجزائر يقول إن «جيش التحرير الوطني هو من أنشأ الدولة حتى قبل أن تنال الجزائر استقلالها». وعلى مدار 58 سنة – هي عدد الأعوام التي عاشتها الجزائر في كنف الاستقلال – تداول على حكم البلاد شخصيات عسكرية ومدنية، واتهم الجيش الجزائري طيلة تلك المدّة بأنه صانع الرؤساء والماسك بزمام الحكم بالجزائر من وراء الستار.
ساعد على ظهور تلك الصورة المثيرة للجيش الجزائري – حسب الكثير من المتابعين – مجموعة من الضباط والجنرالات الذين حكموا البلاد بيدٍ من حديد، مستغلين خلفيتهم الثورية تارةً وتكوينهم العسكري ضمن مدرسة أشبال الثورة، التي أسّسها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين بعد الاستقلال، قصد إمداد الجيش الجزائري بقيادات شابة وتتمتع بالكفاءة العسكرية العالية، تارة أخرى.
واليوم وبعد بداية أفول الجيل الثوري من القيادات العسكرية الجزائرية تدريجيًا؛ تتجه الأنظار إلى مدرسة أشبال الأمة التي تمثّل خزّان الجيش الجزائري من الضباط، فإذا كانت «المدرسة الوطنية للإدارة» معقل صنّاع القرار المدني، فإنّ الكثير من الجزائريين يعتبرون «مدرسة أشبال الأمة» – التابعة للجيش الجزائري – مصنع القرار العسكري بالجزائر.
في هذا التقرير نسلط الضوء على مدرسة أشبال الأمة الجزائرية، المدرسة التي ستخّرج من سيحكم الجزائر بعد سنة 2030.
«ليحمي الثورة أبناء أبطالها».. من هنا كانت البداية
في سنة 1963، وبعد سنةٍ واحدةٍ من نيلها الاستقلال عن فرنسا؛ وجد الجيش الجزائري نفسه منهكًا من الحرب التي أجبر على خوضها على جبهاتٍ عدّة من أجل بسط الاستقرار والحفاظ على سيادة ووحدة التراب الوطني، ممّا جعل قائد الأركان آنذاك، العقيد هواري بومدين، يفكر في إنشاء مدرسةٍ لأبناء مقاتلي جيش التحرير إضافةً إلى آلاف الأيتام الذين خلّفتهم ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، تكون وسيلةً للحفاظ عليهم، وإنشائهم نشأةً وطنية.
في 26 من مايو (أيّار) عام 1963، دشّن العقيد هواري بومدين المدرسة الوطنية لأشبال الأمة بالقليعة جنوبي العاصمة الجزائر في المنشأة العسكرية نفسها التي كانت تتخذها السلطات الاستعمارية الفرنسية معسكرًا لتدريب الأطفال الفرنسيين قبل التحاقهم بالخدمة؛ وانضمّ إلى صفوف الدفعة الأولى بمدرسة أشبال الثورة، حوالي 400 شبلٍ من المقاتلين في صفوف جيش التحرير على الحدود التونسية والطلّاب الجزائريين الذين كان سنّهم أقلّ من 17 سنة، كما انضمّ إلى صفوف المدرسة؛ قادة الثورة الجزائرية بصفتهم أساتذة ومدربين لجيلٍ جديدٍ يحمل لواء الثورة الجزائرية.
هواري بومدين في زيارة لمدرسة أشبال الثورة – مواقع التواصل الاجتماعي
كان هواري بومدين يرى في طلبة مدرسة «أشبال الثورة» التي قام بتأسيسها؛ قادة وحكام الجزائر المستقبلين الذين يحملون مشعل الثورة بعد نهاية عهده، وفي هذا الشأن يبرز العقيد المتقاعد محمد معزوزي – أحد طلبة المدرسة في السبعينيات – أنّ هواري بومدين كان ينظر لطلبة المدرسة باعتبارهم «ولاة المستقبل؛ من سيكونون وزراء، ورؤساء الدوائر، وهم من سيكونون قادة الجيش والنواحي العسكرية».
اعتمدت المدرسة منذ تأسيسها على المنهج الدراسي الخاص بوزارة التربية الجزائرية، إضافةً إلى تمارين اللياقة البدنية والانضباط العسكري، فكانت مدرسة شبه عسكرية؛ وفي هذا الصدد يقول الرائد المتقاعد محمد براضي، الذي كان من طلبة الدفعة الأولى في مدرسة أشبال الثورة، في حديثه مع «ساسة بوست»؛ أنّ التكوين الذي تحصل عليه أشبال الثورة كان تكوينًا نمودجيًا مزج بين التكوين العلمي الثقافي والتكوين العسكري الرياضي، ويضيف براضي أنّ «جلّ الذين أشرفوا على تكوين دفعات مدرسة أشبال الثورة كانوا من قادة ورجال جيش التحرير، وذوي أخلاق وكفاءة عالية، وأنّ خطة المدرسة كانت تهدف إلى أن يصير طلبتها هم من يخلفون قادة جيش التحرير في سبعينيات القرن الماضي».
وفي البدء كانت مدرسة واحدة بالقليعة، وسرعان ما عمّم الرئيس الراحل هواري بومدين تجربة مدرسة أشبال الثورة عبر الوطن، مستنسخًا 10 مدارس جديدة في مختلف أنحاء الجزائر، وتضاعف خريجو مدرسة أشبال الثورة؛ حتى ناهزوا 4 آلاف ضابط سنة 1989 بحسب أرقام رسمية، الأمر الذي خلق قلقًا في الدوائر العسكرية الجزائرية القريبة من فرنسا.
لنقم بغلقهم جميعًا.. «ضباط فرنسا» ينهون «مشروع الثورة» الجزائرية
في 16 يونيو (حزيران) 1987؛ عُيّن الجنرال خالد نزّار نائبًا لرئيس أركان الجيش الجزائري حينها، الشاذلي بن جديد؛ ومن وقتها شرع الجنرال خالد نزار المحسوب على تيار ضباط فرنسا – المقاتلون الذين تكونوا في الجيش الفرنسي وكانوا أعضاءً في صفوفه قبل أن يتمردوا عليه ويلتحقوا بالثورة التحريرية ابتداءً من عام 1958- في بسط سيطرته على الحكم بالجزائر، وبدأ حينها العهد الذهبي لضباط فرنسا، وذلك من خلال سيطرتهم على القرار بالجزائر.
كان من بين الملفات التي رسمت الصراع بين ضباط فرنسا، والضباط الوطنيين بالجيش الجزائري؛ ملف مدرسة أشبال الثورة، التي كان يرى فيها الجنرال خالد نزار امتدادًا لروح الثورة الجزائرية، وأنّ أبرز – إن لم يكن كلّ – المناصب القيادية في الجيش الجزائري والمؤسسات الجزائرية الحساسة، ستصبح تحت أيدي خريجي هذه المدرسة، فانتهز فرصة – حسب المراقبين – لإنهائها.

الجنرال خالد نزار المتهم بغلق مدارس أشبال الثورة
يقول الجنرال خالد نزار في شهادته على أسباب غلق المدرسة «كانت هناك مدرسة واحدة لأشبال الثورة، لكنّهم – في إشارة إلى التيار الوطني في المؤسسة العسكرية – قاموا بإنشاء 10 مدارس لتخريج الضباط، فقلت لنغلقهم جميعًا إذًا». وبعد إغلاق المدرسة من طرف الجنرال خالد نزار، أُحيل آلاف الضباط من خريجي المدرسة إلى التقاعد في سنٍّ مبكرة، فهناك من أحيل إلى التقاعد في سنّ 45 سنة فقط.
ومع دخول الجزائر في أتون الحرب الأهلية مطلع التسعينيات؛ برز عددٌ من القيادات العسكرية التي تلقت تكوينها داخل مدرسة أشبال الثورة، وذلك عبر رفضها الانصياع لأوامر قادة الجيش بالمشاركة في الانقلاب على الشرعية سنة 1992؛ ومن بين تلك القيادات النقيب أحمد شوشان والنقيب أحمد بن زمرلي، إضافة إلى خلية حكيم التي كان يشرف عليها قاصدي مرباح مدير المخابرات في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، بينما اختار بقية ضباط مدرسة أشبال الثورة الانخراط في عملية مكافحة العمليات المسلحة، من أجل الحفاظ على الدولة الجزائرية.
«الحنين إلى الماضي».. بوتفليقة يعيد الحياة لفكرة بومدين
مضت رياح العشرية السوداء العاتية على الجزائريين، وجيء بالذراع الأيمن لهواري بومدين إلى حكم الجزائر سنة 1999، وتغيّرت الكثير من الأمور طيلة العهدتين الأوليين لبوتفليقة في حكم الجزائر، ومن ذلك بسط سيطرته على المؤسسة العسكرية، وتخلصه من ضباط فرنسا الذي كانوا يتقاسمون الحكم معه.
وبعد 19 سنة من غلقها؛ أصدر الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة مرسومًا رئاسيًا يحمل رقم 341-08 ومؤرخ يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2008؛ يقضي بموجبه بإنشاء «مدرسة لأشبال الأمة» بالناحية العسكرية الأولى أسوةً بمدرسة أشبال الثورة التي أسسها رفيقه الراحل هواري بومدين. وبحسب موقع وزارة الدفاع الجزائرية، «تم إحداث مدارس أشبال الأمة بهدف تأسيس قطب امتياز لتكوين إطارات المستقبل لفائدة الجيش الوطني الشعبي».
ويلتحق التلاميد الذين يبلغون 12 عامًا وأكثر بمدارس أشبال الأمة السبعة الخاصة بالطور المتوسط (الإعدادي) بينما يلتحق الطلبة الذين يبلغون سن 16 عامًا بمدارس أشبال الأمة الثلاثة الخاصة بالطور الثانوي، وذلك من خلال استيفائهم لشروط مشددة حددتها القوانين المنظمة لهذه المدارس، مثل نيل معدلات مرتفعة والتمتع باللياقة البدنية.
ويتمتّع طلبة المدارس العشرة بنظامٍ دراسيٍّ خاص يمزج ما بين المنهج التعليمي الرسمي في الجزائر وبين التدريب العسكري للطلبة، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة يجتاز التلاميذ امتحان البكالوريا – الثانوية العامة – الذي يسمح لهم في حال اجتيازه الالتحاق بالأكاديمية العسكرية المتخصصة في تكوين ضباط الجيش والقوات الجوية والبحرية الجزائرية.
واستقبلت مدرسة الطيران بوهران في عام 2009، 160 طالبًا دفعة أولى لمدرسة أشبال الأمة، وسرعان ما بدأ عدد الملتحقين بالمدرسة يرتفع سنويًا، وأحصى «ساسة بوست» خلال إعداد هذا التقرير أزيد من 4898 طالبًا التحقوا بصفوف مدارس أشبال الأمة على مدار السنوات العشر الماضية، حققوا نسبة نجاحٍ تقدّر بحوالي 99% في شهادة الباكالوريا.
ويرى الأستاذ السابق في مدرسة أشبال الأمة ببشار (مبروك . ب) في حديثه مع «ساسة بوست» أنّ «تجربة المدرسة فريدة من نوعها، والتكوين عالٍ جدًا، بحيث يجد الأستاذ صعوبةً في مسايرة القدرات العلمية والبدنية التي يتمتع بها أشبال الأمة» ويضيف محدثنا أنّ «المؤسسة العسكرية الجزائرية ستكون بخير ما دام بها هذا النوع من التكوين والنظرة للمستقبل، خصوصًا أنّ أشبال الأمة سيكونون في المستقبل القريب هم من يحملون لواء حماية الوطن» على حد تعبيره.
تطور التحاق الطلبة بمدارس أشبال الأمة في الفترة ما بين 2009 – 2019
من جهته يرى الشاب إسحاق البالغ من العمر 16 سنة؛ والذي ينوي الالتحاق بدفعة 2020، أنّ «الدراسة بمدارس أشبال الأمة باتت حلمًا يراود كلّ تلاميد الجزائر نظرًا للتحصيل العلمي الذي يمتاز به التلاميذ هناك».
وكان الفريق الراحل أحمد قايد صالح الذي عمل على إدارة مدارس أشبال الأمة وتطويرها قد صرّح خلال تدشينه لآخر مدرسة من المدارس العشر في منطقة تمنراست جنوبي الجزائر، إن الهدف المتوخّى يتعلق بـ«تخريج قيادات شابة للجيش في المستقبل، وتكوين جيل من القيادات التي ترسّخ انتماؤها إلى المؤسسة العسكرية».
جدير بالذكر أن وزارة الدفاع الجزائرية قد أعلنت منتصف الشهر الجاري عن فتح التسجيلات للموسم الدراسي الجديد بمدارس أشبال الأمة.
لماذا أقلقت مدرسة أشبال الأمة بالجزائر الأمم المتحدة؟
في منتصف مايو 2018، أثارت لجنة تابعة للأمم المتحدة معنية بالطفل، نقاشًا مثيرًا حول مدارس أشبال الأمة بالجزائر، مطالبةً السلطات الجزائرية بالإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بشبهة تجنيد الجيش الجزائري للأطفال.
وطالب مقررا الفريق الأممي في مجال حماية الطفولة، آهو أسوما وبرنار غاستو، البعثة الجزائرية لدى الأمم المتحدة بتوضيح مدى تطابق وضع هذه المدارس شبه العسكرية، مع القوانين والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية الأطفال ومنع تجنيد القصر.
وكان ردّ السلطات الجزائرية على هذه الاتهامات من خلال مندوب الجزائر لدى الأمم المتحدة في جنيف، توفيق جوامع، الذي أكّد إن «مدارس أشبال الأمة، مؤسسات حكومية تابعة لوزارة الدفاع، يتم استقبال التلاميذ فيها بموافقة واقتراح من أولياء أمورهم».
وأشار إلى أنّ الأطفال المنتسبين «لا يخضعون للنظام العسكري أو الالتزامات العسكرية، وتتم مراعاة متطلبات طفولتهم»، وأضاف المندوب الجزائري أن القوانين الجزائرية «تمنع وتجرّم تجنيد القصر، وهي متطابقة مع الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، كما أنها تمنع أي تجنيد عسكري لأي شخص قبل بلوغه سن 18 عامًا»، مشيرًا إلى أن «هذه المدارس متاحة للبنات كما للذكور، الذين أتموا 12 عامًا، ليحصلوا على تكوين عسكري وبشهادة بكالوريا، ويتم السماح لهم بالالتحاق بالجامعات».
وفي وقتٍ سابقٍ أكّد مدير مدارس أشبال الأمة دائرة الاستعمال والتحضير، اللواء ملياني بوعبد الله أن «مدارس أشبال الأمة أضحت مثالًا يحتذى به لدى العديد من الدول، وبذلك تحظى مدارس أشبال الأمة بصيت عالمي بعد أن تحولت إلى أنموذج للنجاح والتكوين والحزم». وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النظام التعليمي شبه العسكري في المرحلة ما قبل الجامعية، معتمدٌ بعدة دول عبر العالم أبرزها المغرب ومصر وتركيا وروسيا.
علامات
الجزائر, الجيش الجزائري, القايد صالح, بوتفليقة, تبون, ضباط فرنسا, مدارس أشبال الأمة, هواري بومدين