يطفو على المشهد السياسي الفلسطيني المفعم بالضبابية بين الفترة والأخرى جملة من الأحداث المتسارعة، دون بصيص من الأمل قد يلوح في الأفق لإيجاد حل لها، لا سيما وأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بما يجري في المنطقة العربية والإقليمية.

ولعل من أبرز الملفات العالقة حتى هذه اللحظة هو حسم “الصراع” السياسي بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والقيادي المفصول عن حركة فتح سابقًا محمد دحلان، وسط جملة من التساؤلات حول مصير العلاقة في ظل تعثر جهود الإعمار في قطاع غزة، وتأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، وارتفاع وتيرة الخلاف بينهما.

ما أثار الخلاف خلال الأشهر القليلة الماضية بين عباس ودحلان هو احتمال تسلم الأخير إدارة القطاع كرد فعل على خلافاته مع عباس، حيث غادر غزة بعد أحداث الرابع عشر من حزيران/ يونيو 2007، حينما بسطت حركة حماس سيطرتها، ولاذ العديد من قيادات الصف الأول في فتح الهروب للخارج.

فضلاً عن ذلك، خطوة اللجنة المركزية في الحركة عام 2011 بفصل دحلان وإنهاء أي علاقة رسمية له بفتح، وإحالته إلى القضاء فيما يخص القضايا الجنائية، وفصل أيضًا كافة المقربين والمحسوبين عليه في الضفة وغزة، وتحجيم نفوذه بالكامل.

في التقرير التالي، نستعرض جوانب الخلاف بين عباس ودحلان، وإلى أين ستصل، واحتمالات إدارة دحلان لقطاع غزة، وتسلمه للسلطة بدلاً من عباس، إضافة إلى التعرف على طبيعة البرنامج لكلا الطرفين، وتأثيره على الحالة الفلسطينية الراهنة، مع التعقيب على دور الإمارات في الخلافات المتجذرة بينهما.

1- ما هي جذور الخلافات بين عباس ودحلان؟

القيادي المفصول عن حركة فتح محمد دحلان خلال الاحتفال بانطلاقة فتح قبل عامين

ما أن تحل ذكرى وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، وانطلاقة الحركة في الأول من الشهر الجاري، حتى يسترجع المتخاصمان السياسيان خلافاتهما من جديد، بلهجات من التهديد والوعيد، لما ستؤول إليه الأوضاع، حسب وجهة نظرهما.

مبادرات عدة طرحتها دول عربية مؤخرًا لرأب الصدع بين عباس ودحلان، وإعلان مصالحة بينهما، بيد أنها لم تر الأثر حتى هذه اللحظة، حيث ما يزال التراشق الإعلامي والحملات ضد بعضهما البعض سيدة الموقف.

الخلاف بينهما منذ سنوات، انعكس سلبًا على الهيكلية التنظيمية لأنصار الحركة في الداخل والخارج، حتى بدأت الانشقاقات تجري على قدم وساق، والتفجيرات التي طالت بعض القياديين في غزة مؤخرًا، دون معرفة تفاصيل ما حدث حتى الآن، رغم أن التحليلات أشارت إلى أنها تصفية حساب داخل القيادات الفتحاوية.

وكان من تبعات ذلك هو إبعاد عباس لدحلان عن حركة فتح وإقصاؤه، وتحريك ملفات فساد مالي
ضده، والضغط على قيادات فتحاوية للابتعاد عنه، وهم ما تم بالفعل، فانتقل دحلان إلى الإمارات العربية المتحدة، وعمل هناك مستشارًا أمنيًّا عند أحد الأمراء.

بالنسبة لقضايا الخلاف بينهما فهي ثلاثة: الأولى اتهام مساعدين لعباس دحلان بأنه وراء تحريض قيادات في فتح عليه، وسعيه لتعزيز نفوذه بالأجهزة الأمنية والوزارات في الضفة الغربية وهو ما أغضب السلطة، والتي تتهمه بأنه المسؤول المباشر عن سقوط غزة بيد حركة حماس.

وفيما كانت الثالثة هي تدخل دحلان بملف تشكيل حكومة سلام فياض قبل بضع سنوات، مما دفع عباس لإعطاء أوامر لفياض بإجراء نقل لمدراء عامين ووكلاء وزراء مقربين من دحلان في وزارتي الخارجية والداخلية إلى وزارات أخرى ليست ذات علاقة بالسياسة الخارجية أو بالأمن الداخلي.

وما فجر العلاقات بينهما هو اكتشاف عباس أن دحلان يجتمع سرًّا بقيادات فتحاوية في الضفة الغربية مؤخرًا، ويطرح عليها إسقاطه بحجة أنه ضعيف، وتوجيهه انتقادات شديدة لأبناء عباس واتهامهم باختلاس الأموال، وقيامه بتجنيد مجموعات شبابية في أكثر من منطقة في الضفة الغربية وبتسليحها.

ولكن الحادث الفارق أيضًا في تاريخ الخلافات التنظيمية للحركة، هي المسيرةُ التي نظمها أنصار دحلان في ساحة المجلس التشريعي منتصف ديسمبر، والتي ضمت المئات من مناصريه ويحملون لافتات كتب عليها “ترقبوا الحدث الكبير في 15/1/2014م”.

2- هل يخشى عباس دحلان؟

أنصار دحلان في مسيرة بغزة ضد عباس مؤخرًا


ما إن تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعربية وحتى الدولية، أخبار حول احتمال تحسن في العلاقة بين حماس ودحلان, حتى بدأت الخشية تتسرب إلى قلب عباس، فهو حسب متابعين يخشى أن يحظى دحلان بمزيد من الدعم السياسي الخارجي الذي يهدد شرعيته كرئيس للسلطة الفلسطينية, مع تمدد نفوذه على المستويين الإقليمي والمحلي.

وخشية عباس تنبع أيضًا من أن تكون المصالحة بين دحلان وحماس مصالحة حقيقية، وتنجح حماس في رفع الحصار عن غزة دون عودة حقيقية للسلطة الفلسطينية في القطاع وفرض نفوذها، حيث إن أخطر السيناريوهات التي تربك الرئاسة الفلسطينية هي عودة دحلان إلى قطاع غزة بالتوافق مع حركة حماس، وعقد تحالف سياسي معها للإطاحة بالرئيس في أي انتخابات رئاسية قادمة، كما يقرأ محللون.

ويخشى أيضًا عباس من تكرار سيناريو إسقاط ياسر عرفات أو اغتياله فلا يتقبل فكرة عودة دحلان، وقد عمل في الفترة الأخيرة على تحسين صورته سياسيًّا وإعلاميًّا وشعبيًّا، فرفض خطة كيري للتسوية، وتمسّك بصفقة إطلاق الأسرى، ووقع على 12 طلبًا للانضمام لاتفاقيات دولية.

النائب المفصول من حركة فتح له شعبية ودور في الشارع الفتحاوي في القطاع لا يمكن تجاهله، ولا يمكن إغفاله، وبسبب تعثر جهود المفاوضات يخشى الرئيس محمود عبّاس أن يلقى مصير عرفات، حيث إن البديل الأمريكي والإسرائيلي جاهز لديهم وهو النائب محمد دحلان، الذي يحظى بتأييد دولي وعربي واسع، خصوصًا نظام مصر الحالي، ويحظى بتأييد بعض قيادات السلطة والقاعدة التنظيمية في القطاع.

3-هل يتسلم دحلان إدارة المعابر والسلطة معًا؟


ثمة من يرى أن حماس التي تمتلك العديد من الأوراق للضغط على عباس، والتي من أهمها ورقة محمد دحلان، وهي تعتقد أن الفرصةَ الوحيدة لعودة دحلان للمشهد الفلسطيني هو صندوق الانتخابات، فإذا حظي دحلان بشرعية في الانتخابات كان له العودة وبقوة إلى الساحة الفلسطينية، خصوصًا أن عباس لم يعد حليفًا صالحًا لإسرائيل، ويحاول دائمًا “شيطنة” حركة حماس واتهامها بتعطيل الإعمار وتعطيل المصالحة.

وبدأ عباس يشعر أن الرمال تتحرك من تحته، بعدما عمل دحلان على استقطاب مئات الشباب من حركة فتح، وبعد أن استقبله المشير عبد الفتاح السيسي، وبعد أن قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن عباس “تقدّم في السن”. عندئذ صَعَّد عباس حربه على دحلان أمام وسائل الإعلام، واتهمه باغتيال ياسر عرفات والقائد في حركة حماس صلاح شحادة.

4- هل تتصالح حماس مع دحلان؟

محمد دحلان ولقائه بنائب المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية


كانت حركة حماس قد سمحت في ديسمبر الماضي لأنصار دحلان بتنظيم تظاهرة ضد الرئيس عباس بغزة، اتهموه خلالها بالعمل على “تدمير حركة فتح”، وعرقلة إعادة إعمار غزة، وهو ما اعتبره مراقبون تحالفًا غير معلن بين الجانبين.

وما إن سمحت حماس لأنصار دحلان بالمظاهرة حتى أخذت أوساط داخل فتح بالقول إن الأولى تناور وتحاول الضغط على الرئيس الفلسطيني محمود عباس من خلال دحلان، وإمكانية عودة العلاقات بينهما.

واستبعدت قيادة فتح عودة دحلان لقطاع غزة أو تسلمه إدارة المعابر بالاتفاق مع حركة حماس، فيما نفت حماس أن تكون قد تحالفت مع دحلان، بغرض العمل ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس.

وترى حماس أنه ليس هناك تحالف بين دحلان وحماس، حيث إن التحالف مع الرئيس عباس، يأتي في سياق الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين لتحقيق المصالحة، وما زالت تدعو لتحقيق هذه المسألة.

وبالتالي، هناك من يستبعد تحالف حركة حماس بشكل جدي مع دحلان، حيث قد تستخدم حماس هذه العلاقة في الإعلام من أجل الضغط على الرئيس محمود عباس لأمرين: الأول فيما يتعلق بالحصار على قطاع غزة والبدء الفعلي لتفاهمات اتفاق المصالحة.

أما الأمر الثاني هو البدء في توحيد مؤسسات السلطة واعتبار موظفي القطاع المدني في غزة هم جزء من القطاع المدني العام، وهذا سيخفف العبء عن حركة حماس.

ومن المحللين من رأى أن السلطة ودحلان يتعاونان مع إسرائيل، وبالتالي هذا سيعرض أمن غزة للخطر، والمفروض أن تكون المقاومة الفلسطينية حذرة وألا تسلم المعابر لا لجماعة دحلان ولا عباس، حسب رأيهم.

وبالتالي، فإنه في حال عادت العلاقات بين حماس ودحلان ستكون مؤقتة، لا سيما وأنه لا يوجد ثقة متبادلة بين الطرفين، فدحلان معني بتحسين العلاقات؛ لأنه يريد التحرك بحرية في غزة، وحماس معنية بدحلان نكاية بعباس وللضغط عليه، لذلك لا يوجد قضية مبدئية، وإنما المسألة انتهازية، فكل طرف يحاول أن يستغل الآخر، وفقًا لمتابعين.

5- ما هو مشروع دحلان؟

عاد دحلان منذ أشهر إلى العمل بقوة في الساحة الفلسطينية، ودخل في صراع أشدّ مع محمود عباس، حيث ترجع أسباب عودته إلى قيام بعض الأنظمة العربية بالاستفادة من خبراته وإمكاناته لمواجهة الإسلاميين، خاصة في الدول التي شهدت تغيرات سياسية وثورية واجتماعية، وأدّت إلى سقوط أنظمة مثل مصر وليبيا وتونس.

ويعتقد دحلان أن الوصول إلى رئاسة السلطة يجب أن يمر بحركة فتح، والوصول لرئاسة حركة فتح يجب أن يمر باللجنة المركزية، لذلك زاد نشاطه في لبنان والأردن وغزة وأنفق ملايين الدولارات عبر زوجته “جليلة”، تحت غطاء جمعية إماراتية ترأسها زوجة مسؤول إماراتي كبير، على مشاريع إنسانية واجتماعية.

وقد وسع دحلان حربه على عباس بهدف الوصول إلى السلطة، بعدما فشلت عدة وساطات عربية أهمها من مصر ودولة الإمارات في إقناع عباس بإعادة دحلان لمواقعه.

ويرى متابعون، أنه ليس من المتوقع أن يكف دحلان عن محاولاته الطموحة في التطلع إلى قيادة فتح والسلطة، خصوصًا مع توفر بيئة إقليمية داعمة، غير أن عباس ما زال يملك أوراق قوة أكثر داخل فتح وخارجها؛ كما أن البيئة الشعبية والفصائلية الفلسطينية ما زالت على الأغلب تنظر بشكل سلبي أو متحفظ لدحلان، وهو ما يُضعف حظوظه في الوصول إلى مواقع قيادية على مستوى الشعب الفلسطيني.

بغض النظر عن الاعتبارات الذاتية والمصالح الشخصية الضيقة في الصراع بين عباس ودحلان، فإن للصراع جوانب أخرى تتعلق بالسيطرة على حركة فتح التي لها موقع فلسطيني مهم، وهي قلب منظمة التحرير الفلسطينية، وقلب إدارة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولها انتشار في دول عدة أهمها سوريا والأردن ولبنان، حيث التواجد الفلسطيني الكثيف للاجئين الفلسطينيين.

وفي تقدير سياسي لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات مؤخرًا، فإنه يرى أن الصراع بين عباس ودحلان هو صراع على مواقع النفوذ وليس حول شأن سياسي أو دفاعًا عن حقوق الشعب الفلسطيني، أو على تعزيز مشروع الصمود الفلسطيني أمام الاحتلال. وهذا يلحق ضررًا بحركة فتح وبيئتها التنظيمية، وهو أحد تجليات أزمات فتح في البنية والقيادة والمسار السياسي.

وسيستمر دحلان على الأرجح في سعيه للسيطرة على مفاتيح القرار في حركة فتح، وسيحاول الاستفادة ما أمكن من البيئة العربية الحالية المتاحة لمزيد من المناورة وتوسيع النفوذ، غير أن عباس ما زال لديه القدرة على كبح تطلعات دحلان في ضوء نفوذه الأوسع داخل فتح، وفقًا للمركز.

6- ما أثر الصراع بين دحلان وعباس على أنصار الحركة؟

مما لا شك فيه أن الصراع الدائر حاليًا بين عباس ودحلان يعكس عمق الأزمة داخل حركة فتح بجوانبها التنظيمية والسياسية، ففي حين يحمل أنصار عباس مسؤولية ما جرى لدحلان، حيث يروا أنصار الأخير أن انحدار شعبية فتح وتراجع قوّتها إلى هذا المستوى جاء في عهد الأول.

وبالتالي، فإن الصراع بين عباس ودحلان يظهر أن حركة فتح تعيش أزمة عميقة تتجلى في أزمة القيادة بعد غياب عرفات، وأزمة ترهل البنية المؤسسية والتنظيمية، وأزمة تحديد المسارات الاستراتيجية، بسبب فشل التسوية وعدم قدرة الحركة على الرجوع لخيار المقاومة، وضعف أداء السلطة في الضفة الغربية واستمرار المشاكل الاقتصادية، وضعف أداء الجهاز الحكومي، كما يرى محللون.

ولعل التفجيرات الأخيرة، حسب مراقبين، والتي طالت منازل قيادات في حركة فتح في قطاع غزة، كانت دليلاً عن الانشقاقات الواسعة داخل الهيكل التنظيمي للحركة، مما أنتج انقسامًا واضحًا بين مؤيدي دحلان ومؤيدي عباس، والعكس كذلك.


المصادر

تحميل المزيد