« لقد علمتُ دائمًا أن بإمكاني العيش أكثر من حياة؛ فقد تربيت في عالمين مختلفين، وهو أمر إن استطعت أن تفعله، فستجد نفسك قادرًا على أن تحيا ست حيوات أو أكثر في ذات الوقت، فلماذا نضع حدًا إذًا؟»

هكذا بدأ دانييل داي لويس حديثه مع تليجراف عن الطريقة التي يستخدمها للاستعداد لأدواره، والتي تسمى « الأداء المنهجي» وتعني التحضير النفسي والبدني الخاص بالشخصية، فيعيش الممثل وكأنه هو الشخصية التي سيقوم بأدائها في حياته الطبيعية، طوال فترة التحضير والتصوير، فيقول عنها النقاد: «الأداء المنهجي يقوم به كل الممثلين عندما يجيدون القيام بأدوارهم»، فهو المنهج الذي صنع حقًا نجومية دانييل دي لويس، فقد كان لديه دائمًا هوس بالكمال؛ مما جعله لا يقدر على أن يعيش حياته هو، بل يعيش الشخصيات التي يقوم بأدائها، فيقول عنها: «كنتُ أشعر بالخواء بعد الانتهاء من التصوير، أتمسك بوجود الشخصية وكأنني لا أريد لها أن تموت بداخلي، فكان الخروج يتطلب مني أحيانًا شهورًا وسنوات».

بالأمس أعلن دانييل داي لويس أنه يعزم على اعتزال التمثيل بعد مسيرة فنية استمرت لأكثر من أربعين عامًا، قدم خلالها حوالي 20 عملًا سينمائيًا، وكأنه اعتزم أخيرًا أن يودع حيواته الثانوية، ويعيش في النهاية دانييل داي لويس وفقط.

يُصاب بشللٍ دماغي فيحصد جائزة الأوسكار الأولى!

بأداءٍ استثنائي للسيرة الذاتية للمؤلف والرسام كريستي براون استطاع دانييل داي لويس أن يحصد جائزة الأوسكار الأولى عن فيلمه «My Left Foot» بعد أن قضى فترة التحضير للفيلم، وطوال فترة التصوير على كرسي متحرك، فيقول داي لويس إنه أمضى ثمانية أسابيع بعيادة للشلل الدماغي في دبلن، قام خلالها بتعلم طريقة الكلام التي كان يتحدث بها كريستي، كما تعلم كيف يرسم ويكتب بقدمه اليسرى، وفي التصوير كان يتم نقل داي لويس بالكرسي المتحرك في أنحاء منطقة التصوير بواسطة فريق العمل، حتى أنهم كانوا يقومون بإطعامه في فمه في غير أوقات التصوير، لأن كريستي لم يكن قادرًا على إطعام نفسه بيديه؛ مما أدى إلى تعرض داي لويس لكسر ضلعين لأنه لم يتحرك من الكرسي المتحرك طوال فترة التصوير.

تقول كريستين شيردان ابنة مخرج الفيلم والتي أدت دور شارون بالفيلم: إنها اعتقدت أنه مجنون؛ ففي غير أوقات التصوير كان ينادي الناس بأسماء شخصياتهم في الفيلم، ولا يجيب إلا إذا قاموا بمناداته «كريستي»، وأنهم كانوا يضطرون لإطعامه بأنفسهم، ودفعه بكرسيه المتحرك في أنحاء أماكن التصوير، قائلة: «لم أره يتحرك على قدميه طوال مدة التصوير سوى مرة واحدة».

هكذا أدى دانييل داي لويس شخصية الجزار في فيلمه عصابات نيويورك

يقول دانييل داي لويس في حوارٍ له مع موقع Rolling Stone: «أمضيت من ستة إلى ثمانية شهور في التحضير لدور بيل الجزار، فعلى الرغم من أن الجزارة لن تكون هي اختياري الأول، لكنها بالنسبة إلي مثيرة للاهتمام وتحتاج إلى مهارات خاصة، فعندما ترى سكين الجزار الحاد، وطريقته في استخدامها، ستنظر إليها وكأنها قطعة فنية». ويستكمل حديثه: أعلم أن الناس يظنونني مجنونًا أو غريبًا؛ لأنني خارج أوقات التصوير لا أخرج من أدواري، ولكن هذا الوضع مناسب بالنسبة إلي.

ويشير لويس حينها إلى أنه تعلم الجزارة على يد جزارين حقيقيين قد أتوا من روما لتعليمه كيف يقوم باستخدام الأدوات الحادة كجزار، بل إنه قد عمل كجزار لفترة من الوقت حينذاك.

https://www.youtube.com/watch?v=tNPLKSbPPAU

يقول عنه المخرج مارتن سكورسيزي، مخرج فيلم « Gangs of New York»: «أدعوه للعشاء خارج أوقات التصوير؛ فيحضر مرتديًا ملابس حديثة، ولكنه يتصرف كبيل الجزار، أحدثه بالهاتف وبعد أن أغلق الخط أشعر وكأنني كنت أحدث بيل، وليس دانييل داي لويس». كل هذا قد جعل دانييل داي لويس واحدًا من أهم الممثلين على الساحة الفنية، فهو يخلص للعمل، وكأنه يخلص لنفسه، ويتعامل مع الشخصيات وكأنها هو، فشخصية الجزار هي شخصية لا تشعر بالحب، أو بالتعاطف، دموية من الدرجة الأولى، وتحمل بداخلها شرًا خالصًا، وهو الأمر الذي دفع داي لويس للشعور بالحزن فور انتهاء التصوير؛ لأن عليه أن يودعها، وكأنه على الرغم من سوداويتها، إلا أنها أصبحت جزءًا منه عليه أن يبتره الآن.

سيكون هناك دماء.. الوجه الآخر لدانييل داي لويس

بعد ابتعادٍ عن السينما لخمس سنوات، عمل خلالها دانييل داي لويس صانعًا للأحذية، مبررًا ذلك بأنه لم يجد دورًا يُلهمه لدرجة تقوده لصناعة فيلم، يعود داي لويس من جديد إلى الساحة السينمائية بفيلم «There will be blood»، ولكنها لم تكن أبدًا عودة سهلة بالنسبة إليه، وكأنه كان يستعد حينها نفسيًا للمغادرة المبكرة لعالم الشاشة الفضية؛ مما جعل مهمة المخرجين صعبة لإقناعه بالقيام بأي دور.
فعندما عرض عليه مخرج الفيلم بول توماس أندرسون القيام بدور رجل النفط دانييل الذي كان له بالغ الأثر في إقناع الكثيرين من الفقراء الأوروبيين في السفر إلى أرض الأحلام «الولايات المتحدة» لتحقيق الثروات، يقول داي لويس: إنه لا يعلم لماذا وافق على القيام بهذا الدور، ولكنه وجد نفسه يجيب على المخرج بالإيجاب على الفور، على الرغم من تردده فيما بعد.

دانييل داي لويس لا يقوم بعمل «بروفات» لأي فيلم؛ فهو يدخل الشخصية بروحه وكيانه الكاملين، وكأنه لا يحتاج للتدريب عليها لأنها هو، وعندما كان يقوم بالتحضير لفيلمه There will be blood  والذي يحكي عن جزء من التاريخ الحديث؛ تاريخ النفط الذي أصبح متحكمًا في حياتنا المعاصرة، والذي أدى فيه داي لويس دور الرجل الساعي نحو الثروة والسيطرة، يقول إنه استعان بالعديد من الشرائط الصوتية التي تعود لتلك الفترة الزمنية؛ ليختار طبقة الصوت المناسبة لأداء الشخصية، كما أنه اضطر لقراءة العديد من الرسائل التي كان يرسلها عمال المناجم الفقراء الذين اتجهوا للنفط في تلك الفترة الزمنية، ليصل إلى حقيقة تلك الشخصية التي يؤديها، بالإضافة إلى دراسته الشاملة لتاريخ تلك الفترة.

قال المخرج تارنتينو في تقييمه للفيلم: إنك إن رأيت دانييل داي لويس في تلك الفترة، ستشعر وكأنك أمام هذا الرجل القوي الذي لا يعنيه سوى جمع الثروات.

ولكن حتى بعد عودته إلى السينما بهذا الفيلم، وبعد أن عمل في فيلم لينكولن والذي جسد فيه شخصية إبراهام لينكولن الرئيس السابق للولايات المتحدة، والذي قاده للحصول على الأوسكار الثالثة، يبدو أن كل هذا لم يعد له شغفه الأول بالسينما الأمريكية التي سحرته منذ أن رأي فيلم Taxi Driver للمرة الأولى في حياته، وقرر حينها أن ما يريد فعله هو حكي القصص في تلك الصناعة السينمائية، وقال عنها إن حبه للسينما الأمريكية كان سرًا يحمله بداخله طوال حياته، لكن كل هذا لم يثنه عن أن يقرر في النهاية الابتعاد عن تلك الصناعة، والعودة لبيته الهادئ بعيدًا عن الأضواء.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد