تعد الآن «الصوابية السياسية» واحدة من أهم المفاهيم التي تُثار في العالم الغربي، والتي صارت الآن عنصرًا حاسمًا في الحكم على القضايا الفنية، أو الإعلامية، أو الصحافية، ومفهوم «الصوابية السياسية» التي نشطت – بشكلها الحديث – في ثمانينات القرن العشرين بشكل أساسي يهدف لـ«تطهير» اللغة، والسياسات، والإجراءات من كل ما يعتبر إساءة لأفراد مجموعات معينة في المجتمع؛ وهو الأمر الذي تطور ليتحول إلى ضغوط كبيرة تحاصر مفهوم «حريات التعبير» في العالم الغربي، لدرجة وصف البعض لها بأنها «فاشية جديدة».

وفي العقود الثلاثة الأخيرة، وحالما يُطرح أي عمل فني جديد تتلقفه على الفور أعين النقاد، حتى قبل المشاهد العادي، سواء من المتخصصين في تقنيات النقد، أو أولئك الذي يهتمون بمدى توافق العمل الفني مع معايير «الصوابية السياسية»، النسخة الجديدة من الشمولية الغربية.

فقد تحولت انتقادات الحركات النسوية، وحركات مجتمع المثليين، والمتحولين جنسيًا، وحتى نشطاء البيئة، إلى أدوات قمع في نظر البعض تملك الحق في عزل، أو إزاحة كل من يتعرض بالنقد – أو مجرد التناول الترفيهي الذي يعتبره البعض إساءة – لهذه المجموعات، وعلى سبيل المثال فقد جرى فصل الباحثة البريطانية «مايا فورستاتر» من عملها خبيرة في أحد مراكز الأبحاث والتطوير على إثر تغريدات نقدية قالت فيها ما مفاده أن الذكر المتحول رسميًا إلى أنثى لا يجب أن يعامل «قانونيًا» كامرأة، برغم أنها واحدة من أبرز الناشطات النسويات.

وبعد أن طغت ثقافة «الصوابية السياسية» التي تحولت إلى ثقافة قمعية أصبحت كل الأشياء، بما فيها الأعمال الفنية، تخضع لإعادة النظر، والحكم الصارم عليها وبالطبع لم يتفق فن الكوميديا مع هذه الشروط الجديدة للعالم الليبرالي الغربي، بحكم اعتماده على كسر المعايير والتصورات المعلبة عن الناس والعالم.

حماية حقوق الأقليات.. ماذا عن السود في أمريكا؟

بالرغم من أن حركات الصوابية السياسية تقدم نفسها مدافعة عن «الأقليات» وحماية حقوقهم، أو مشاعرهم، فإن أبرز من تعرض لسيوفهم البتّارة كانوا من أقلية السود في المجتمع الأمريكي، فمثلًا في تصريح لمقدم البرامج وفنان «ستاند أب كوميدي» الأسود ستيف هارفي في يناير (كانون الثاني) 2022 قال: «الصوابية السياسية قتلت الكوميديا»، وذلك عندما سُئل لماذا لم يعد إلى خشبة المسرح المباشر لتقديم عرض «ستاند أب كوميدي» جديد؟

وذكر هارفي أبرز أسماء المؤدين الكوميديين من السود على سبيل المثال الذين لم يعد باستطاعتهم تقديم برامج مجددًا، قائلًا: «لا يستطيع أي أحد قول ما يريده الآن، لا كريس روك، ولا كيفين هارت، ولا سيدريك ذا إنترتينر» في إشارة إلى الضغوط التي يتعرض لها الفنانون من طرف نشطاء «الصوابية السياسية» بمختلف انتماءاتهم في العالم الغربي.

نأتي هنا للعاصفة النقدية التي تعرض لها الكوميديان الأعلى أجرًا بين الكوميديانات الأمريكيين، المسلم أسود البشرة الشهير (ديف شابيل) منذ عدة أشهر في أعقاب تحديه لمثل هذه الضغوط، وتناوله للمثليين، والمتحولين جنسيا، والنساء، بشكل ساخر في عرضه الأخير (The Closer) والذي عرضته منصة البث الأشهر «نتفليكس» في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021، والذي تعرض لهجوم شديد من جماعات المدافعين عن مجتمع الميم، بل طالبوا بمنع عرضه، كما طالبوا بـ«إلغاء» شابيل نفسه بمعنى إزاجته من المجال العام، فمن هو ديف شابيل؟

ديف شابيل.. الكوميديان المسلم المثير للجدل

عندما انطلق ديف شابيل الكوميديان الأمريكي أسمر البشرة، اعتقد البعض أنه ينتمى لطبقة فقيرة بسبب لكنته الأمريكية الشعبية، أو «لكنة الشوارع» (African American slang accent) التي يشتهر بها مغنو موسيقى الراب، والهيب هوب، القادمين من الأحياء الفقيرة، بعكس بعض الأغنياء من السود الذين يستخدمون لهجة البيض للتظاهر بالثراء أو تفادي العنصرية، إلا أن ديف شابيل نشأ في طبقة فوق متوسطة.

كما كان والدا ديف شابيل يعملان أساتذة للتدريس في جامعاتي «أنتيوك» بولاية أوهايو، وجامعة ولاية ماريلاند، أما هو فقد انفصل عن والديه مبكرًا، ودرس الفنون في إحدى مدارس واشنطن العليا، وبدأ العمل في مجال المسرح، ثم انتقل منه إلى العالم الأكثر جدلًا: عروض «ستاند آب كوميدي».

في أوائل التسعينات وقبل شهرته أعلن ديف شابيل إسلامه، ويقول شابيل لمجلة «تايم» الأمريكية عام 2005 إنه عادة لا يحب الحديث عن ديانته لتجنب الربط بين الأشخاص والأديان، وذكر في لقاء آخر حول إسلامه لاحقًا أنه اعتنق الإسلام بعد أن تعرف على شاب مسلم عام 1991 يعمل في أحد مطاعم البيتزا بقرب عمله، والذي كان يحدثه عن الإسلام بشكل جميل، وفيه الكثير من القيم المثالية، فاعتنقه لأنه أراد أن يكون لحياته معنى، واتجاه روحاني سامي.

وبعدما زادت شهرته ظهر ديف شابيل في عدة أفلام أمريكية كوميدية، ولفتت عروضه أنظار منتجي هوليود في أواخر التسعينات، خصوصًا مع البرنامج الكوميدي الشهير «Chappelle show»، والذي تناول في أغلب حلقاته المشكلات التي يعانيها السود في أمريكا، وعلى رأسها العنصرية، وأذاعت شبكة قنوات «CBS» البرنامج؛ ليصبح أحد أهم ممثلي الكوميديا المساعدين في الأفلام الأمريكية بين عامي 2003 إلى 2006.

ولكن بعد مشكلات في عقده بينه وبين الشبكة المنتجة، اضطر ديف شابيل لاعتزال التمثيل والكوميديا تمامًا عام 2006 إثر أزمته النفسية الناتجة عن تلك الخلافات، وبعدها اعتزل شابيل الكوميديا لمدة سبع سنوات؛ ليعود في 2013 إلى الساحة الفنية مثيرًا الجدل مجددًا بنكاته اللاذعة، ومواجهته الجريئة للضغوط من «مجتمع الميم»، والنسويات؛ لأنه لا يتفق مع معاييرهم، ويوجه لهم النكات، وأحيانًا النقد، في حين يعتبرونه هم مقدم إساءات وعنصرية.

ديف شابيل يصطدم بـ«ثقافة الإلغاء»

مع بروز حركات النشاط الحقوقي الهوياتي تطور ما يعرف باسم «ثقافة الإلغاء» Cancel Culture، التي أضحت منتشرة في الغرب – والولايات المتحدة بنسبة أكبر – والتي تعني إعلان الغضب حول فعل، أو تصريح لأحد المشاهير، أو الشخصيات المؤثرة، والمطالبة بمقاطعته، وإلغاء شهرته وتعطيله عن العمل تمامًا إذا تطلب الأمر ذلك، خاصة إذا ما بدر منه أمر يعتبره البعض مشينًا أو عنصريًا أو ما يتعارض مع مفاهيم «الحريات» بشكلها الحديث. وهو التعريف الذي وُلد في مضمونه من مفهوم حركات «الصوابية السياسية».

وبالطبع انتشر استخدام «ثقافة الإلغاء» بشكل كبير من طرف نشطاء سياسات الهوية «Gender Identity Activists»، والنشطاء الحقوقيين تحديدًا باعتبارها «سلاح ضغط» ضد أي أفعال قد لا تلقى قبولًا عامًا لديهم، أو تمارس ما يعتبره هؤلاء عنصرية ضد أي أقلية عرقية، أو دينية، أو جنسية.

وبالطبع كون بعض «الكوميديانات» يعتمدون على عنصر السخرية بشكل عام، فقد أصبح هناك الكثير من الاعتراضات على هذه الأنواع من المزاح التي يشعر بعض من الأقليات بأنها «بهدف التقليل منهم، والتنمر عليهم» بينما يصر البعض الآخر على أن هذا الاعتراض الإقصائي يناقض أفكار «حرية التعبير» السائدة في المجتمعات الغربية.

وهنا كان بداية اصطدام شابيل – كواحد من أبرع وأفضل الكوميديانات في أمريكا – بحاجز ثقافة الإلغاء، نظرًا لأن ديف شابيل كان يستخدم السخرية من كل الأمور بهدف توليد الضحك والرؤية النقدية، فكان ولابد أن يصطدم عاجلًا أو آجلًا بـ«الصوابية السياسية»؛ فهو أحد أكثر فناني الكوميديا الذين يتحدثون باستمرار عن معاناة مجتمع السود في أمريكا، وتعرضهم للعنصرية.

تناول ديف شابيل أكثر من مرة بشكل ساخر وجريء محاولة المجتمع الأمريكي للتظاهر بأن العنصرية قد انتهت، وأن المجتمع صار متحضرًا، وكان يصر دائمًا في عروضه على فضح الممارسات العنصرية ضد السود بشكل ساخر، لكن عندما بدأ ديف شابيل في تناول موضوعات تخص المثليين، والمتحولين جنسيًا، والنساء، في مزاحه اشتعلت موجة من الغضب ضده.

وجرى اتهام ديف شابيل بالعنصرية ورُهاب المثلية «homophobia»، ورهاب المتحولين جنسيًا «Transphobia»، وهي التُهم التي تلاحق عادًة منْ يوجه نقدًا سياسيًا يخص فلسفة تلك المجموعات، وبدأت هذه الاتهامات تحديدًا عندما تناول شابيل «ثقافة الإلغاء» في عرضه الخاص «Sticks and stones» الذي عرضته شبكة «نتفليكس» عام 2019، ولكن شابيل لم يرضخ لهذا الغضب، وهو ما يتجلى في تناول نقدي ساخر كانت واحدة من أبرز نكات شابيل حول الفرق بين تعامل المجتمع الغربي مع حقوق السود ومع انتقاد بعض المنتمين لـ«مجتمع الميم»:

«أسهل أن تطلق النار على رجل أسود من أن تجرح مثليًا بكلمة».

وقال ديف شابيل إن «مجتمعات الميم» أصبح لهم سلطة لإلغاء أي شخص يتحدث عنهم بشكل ساخر، وأعلن دعمه للكوميديان الأمريكي الأسود كيفين هارت الذي «ألغت» أكاديمية الأوسكار تعاقدها معه لتقديم حفل الجوائز الأشهر عام 2018 بعد أن نشر نشطاء مجتمع الميم عدة تغريدات قديمة له يستخدم فيها ألفاظ اعتبرها «مجتمع الميم» عنصرية تجاههم.

ديف شابيل.. «النفاق المجتمعي»

من بين أبرز ما جاء في نكات ديف شابيل هو التناقض في المجتمع بالنسبة لمعاملة المتحولين جنسيًا، فكان رأيه أن المتحول من رجل إلى امرأة يظل علميًا يحتفظ بقوته الجسدية الرجولية، ولا يصح أن ينضم مثلًا إلى منافسات الرياضة في فرق النساء؛ لأنه دائمًا ستكون له الأفضلية.

وقال ديف شابيل مازحًا: «مثلًا ماذا لو تحول ليبرون جيمس – لاعب كرة سلة محترف شهير – جنسيًا، وانضم إلى الاتحاد النسائي لكرة السلة؟ سيسجل 840 نقطة مرة أخرى كما فعلها وهو رجل! ماذا نعني عندما نتحدث عن المساواة بين الرجل والمرأة؟ لو أن هناك مساواة حقة بين الجنسين لما كان هناك اتحاد كرة سلة للمحترفين الرجال، وآخر للنساء من الأساس، وهناك أيضًا فكرة أكثر إثارة: هي أن تخرسوا جميعًا».

كما سخر شابيل من محاباة الأمريكيين لـ«مجتمعات الميم» على حساب السود قائلًا: «أنا لا أكره مجتمع الميم على العكس لطالما حسدت المثليين والمتحولين جنسيًا. حصلوا على الكثير من حقوقهم في فترة قصيرة جدًا، ما لم يستطع السود الحصول عليه طوال نضالهم ضد عنصرية البيض»، وأكمل مازحًا: «والدليل على هذا أنه كان على رجل أبيض (بروس جينر) أن يغير جنسه إلى كايتلين جينر أسهل كثيرًا مما على رجل أسود أن يغير اسمه من كاسيوس كلاي إلى محمد علي كلاي».

وكان العرض الخاص الأخير باسم «ذا كلوسر» الذي عرض في أكتوبر (تشرين الأول) 2021 (The Closer) الأكثر جدلًا، خاصة وأن المنصة المنتجة له كانت هي الشكبة الأشهر في دعم مجتمع الميم والأقليات العرقية «نتفليكس»، وهو ما أثار غضب المجموعات الحقوقية بشكل مضاعف.

إذ طلب الموظفون المثليون والمتحولون جنسيًا بـ«نتفليكس» من إدارة الشبكة التي يعملون بها إلغاء العرض أو تقديم استقالتهم، وهو ما تحول إلى قضية شغلت الإعلام الغربي في أواخر 2021، ولكن بعدما ارتفعت هذه الأصوات الغاضبة، جاء قرار «نتفليكس» بعدم حذف العرض، وأوضحت أنها تحترم قرار أي شخص يريد مغادرة الشركة، وهو ما كان بمثابة الإعلان عن عدم الرضوخ لضغوط نشطاء «مجتمع الميم» في سابقة جديدة.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد