لم يوح شكل دي بي كوبر، بأي شيء سوى أنه رجل عادي، لا توجد ملامح مميزة، وإذا اصطدمت به في المواصلات العامة لن يلفت انتباهك، وسيمر بجوارك مثل غيره، لكن لو كنت تعلم أنه يملك في حقيبته قنبلة، وأنه على وشك اختطاف طائرة؛ ربما حينها كنت ستمعن النظر أكثر. لا تقلق فلست وحدك من لم يعره الاهتمام، ولست وحدك من انخدع بمظهره العادي، حتى مضيفة الطائرة ظنت أنه يمزح أول الأمر حينما أخبرها أنها اختطف الطائرة، وتطلب الأمر منها أن ترى القنبلة بنفسها حتى تدرك حقيقة الأمر.

«دي بي كوبر» على متن الرحلة 305.. بداية الجريمة الكاملة

في ظهيرة يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971، اقترب رجل يطلق على نفسه دان كوبر من مكتب شركة طيران «نورث ويست أورينت» في بورتلاند، أوريغون. استخدم النقود لشراء تذكرة ذهاب فقط على الرحلة رقم 305، المتجهة إلى سياتل، واشنطن، ليبدأ أحد أعظم الألغاز التي لم يتم حلها في تاريخ مكتب التحقيقات الفيدرالي.

D.B. Cooper Hijacking — FBI

صورة مُتخيلة لـ دبي بي كوبر- المصدر: إف بي آي

كان دي بي كوبر رجلاً هادئًا بدا في منتصف الأربعينيات من عمره، يرتدي بدلة عمل بربطة عنق سوداء وقميصًا أبيض. طلب مشروبًا في أثناء انتظار الرحلة للإقلاع، ولم يلفت الانتباه لنفسه، مثله مثل غيره في المطار. بعد الساعة الثالثة عصرًا بوقت قصير، قرر كوبر البدء بخطته المحكمة، الخطة التي تبدو بسيطة، لكنها في الوقت نفسه مجنونة. سلم كوبر المضيفة ملاحظة، لكن المضيفة لم تهتم، ظنت أن بها رقم هاتفه كما كان يفعل العديد من الرجال في ذلك الوقت؛ لكن حينما مرت المضيفة بجانبه مرة أخرى، طلب منها قراءة ملاحظته.

«لدي قنبلة في حقيبتي، تعالي اجلسي بجانبي»

فعلت المضيفة المذهولة ما قيل لها، فتح دي بي كوبر حقيبته، وأظهر لها لمحة عن كتلة من الأسلاك والعصي ذات اللون الأحمر، بدت قنبلة بالفعل، ثم أمرها بتدوين ملاحظة جديدة. بعد فترة وجيزة، ذهبت المضيفة إلى قمرة القيادة ومعها ملاحظة جديدة إلى قبطان الطائرة تطالب بأربع مظلات و200 ألف دولار من فئة 20 دولارًا.

كان دي بي كوبر دقيقًا جدًا بشأن مطالبه بالمال، لقد أراد 200 ألف دولار من فئة 20 دولارًا تحديدًا، والتي من شأنها أن تزن حوالي 21 رطلاً. إذا جرى استخدام فئة أقل، فسيؤدي ذلك إلى زيادة الوزن وقد يكون خطيرًا على خطوته التالية، وهي القفز بالمظلات. كذلك إذا كانت الفئة أكثر فسوف تزن حجمًا أقل، لكن سيكون من الصعب تمريرها. ولم يكتف كوبر بذلك بل إنه حدد أنه يريد الأموال بأرقام تسلسلية عشوائية وليست متسلسلة. وبالفعل أعطاه عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي فواتير بأرقام تسلسلية عشوائية لكنهم تأكدوا من أن جميعهم رقمهم بدأ بحرف (L).

بعد أن أوضح دي بي كوبر مطالبه أمر المضيفة بالعودة إلى قمرة القيادة وإخبار الطيار بالبقاء في الجو حتى يصبح المال والمظلات جاهزين. تلقى الطيار الرسالة وحاول ألا يثير ذعر الركاب أو يشعرهم أن الطائرة اختطفت، أعلن عبر الاتصال الداخلي أن الطائرة ستدور لبعض الوقت قبل الهبوط بسبب مشكلة ميكانيكية، لذلك لم يكن معظم الركاب على علم بالاختطاف، مثلما لم يعلم أحد بحقيقة دي. بي. كوبر.

تاريخ

منذ سنة واحدة
غرق السفينة إنديورانس! قصة رحلة جعلت «إرنست شاكلتون» أهم مستكشفي القطب الجنوبي

عندما وفرت السلطات المال والمظلات هبطت الرحلة في سياتل، وأطلق دي بي كوبر سراح 36 راكبًا. لكنه أجبر اثنين من الطيارين ومهندس طيران ومضيفة على البقاء على متن الطائرة. وبعد إعادة التزود بالوقود، أمر كوبر الطاقم بالسفر إلى مكسيكو سيتي. في هذا الجزء نستنتج مدى دراسة كوبر لخطته، لم يكن سيترك أي شيء وليد الصدفة، كل تفصيلة وضعها في الحسبان، بداية من وزن المال، وحتى ارتفاع الطائرة.

وبناءً على تعليماته، حلقت الطائرة أقل من 10 آلاف قدم بسرعة أبطأ من 200 عقدة، وفي حوالي الساعة 8:00 مساءً، بينما الطائرة بين سياتل وبين ما يعتقد على نطاق واسع أنها بالقرب من أرييل، واشنطن، أنزل كوبر الدرجات الخلفية وقفز. ثم اختفى.

الرجل اللغز.. دي بي كوبر الذي اختفى في الهواء!

أطلق مكتب التحقيقات الفيدرالي ما سيصبح «أحد أطول التحقيقات وأكثرها شمولاً» في تاريخه، والمعروف باسم «NORJAK» ( أو اختطاف الشمال الغربي). في البداية اعتقدت الوكالة أن كوبر يعرف كل الطائرات والمنطقة، وكان من المتوقع أنه خدم في الجيش فيما سبق، ربما في سلاح المظلات. لكن في وقت لاحق، تقرر أنه لم يكن مظلي متمرس لأن القفزة كانت خطيرة للغاية، كما أنه فشل في ملاحظة أن مظلته الاحتياطية جرى إغلاقها لاستخدامها في التدريب.

فوفقًا لما ذكره مكتب التحقيقات الفيدرالي: فقد «أجروا مقابلات مع مئات الأشخاص، وتعقبوا الأدلة عبر البلاد، ونظفوا الطائرة بحثًا عن أدلة. وبحلول الذكرى السنوية الخامسة للاختطاف، كانوا قد نظروا في أكثر من 800 من المشتبه بهم وأزالوا جميعهم باستثناء 24 فردًا».

جرى استبعاد البعض على أساس الحمض النووي الذي جرى استرداده في النهاية من ربطة العنق التي خلعها كوبر قبل القفز، وآخرون جرى استبعادهم لاختلافهم عن الوصف الذي أعطته المضيفتان. أحد المشتبه بهم الرئيسيين كان ريتشارد فلويد ماكوي، الذي وقع القبض عليه لارتكابه جريمة مماثلة بعد عدة أشهر من هذه الحادثة؛ ومع ذلك، فقد جرى إقصاؤه من كونه مشتبهًا به لعدم تطابقه مع الأوصاف التي قدمتها المضيفتان.

يشير مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى أن كوبر ربما يكون قد مات قبل الهبوط بسبب عدم قدرة مظلته على التوجيه. كما جرى التأكيد على أن صبيًا صغيرًا وجد حزمة من الأوراق النقدية تبلغ 5800 دولار من فئة الـ 20 دولارًا بالقرب من فانكوفر، واشنطن في عام 1980، وتبين أنها كانت الأوراق النقدية نفسها التي أعطيت لكوبر.

يعتقد البعض أن هذا الدليل يساعد في دعم النظرية القائلة بأن كوبر لم ينج من القفزة، وأدى اكتشاف هذه الحزمة إلى عمليات بحث جديدة حول تلك المنطقة، ومع ذلك، من المحتمل أن ثوران بركان جبل سانت هيلينز في 18 مايو (أيار) 1980، قد دمر أي أدلة متبقية حول قضية دي بي كوبر.

File:Money stolen by D. B. Cooper.jpg - Wikimedia Commons

الأموال التي عُثر عليها – مصدر الصورة: ويكيميديا

في تقرير المكتب الفيدرالي كانت هذه هي النظرية السائدة، «ربما لم ينج دي بي كوبر من قفزته من الطائرة. بعد كل شيء، لم يكن من الممكن توجيه المظلة التي استخدمها، وكانت ملابسه وأحذيته غير مناسبة للهبوط الصعب، وقد قفز إلى منطقة غابات في الليل وهو فعل خطير يحتاج إلى محترف متمرس، وتشير الأدلة إلى أن دي بي كوبر لم يكن كذلك». وبسبب غموض القصة، فقد زعم كثيرون على مر السنين، أنهم دي بي كوبر، وقام مكتب التحقيقات الفيدرالي بفحص بعض هذه الحالات، لكن دون أي نتيجة أو جدوى.

في 2016، قرر المكتب الفيدرالي إيقاف «واحدة من أطول التحقيقات وأكثرها شمولاً في التاريخ»، فعلى مدار 45 عامًا من تحقيق «نورجاك»، قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بمراجعة شاملة لجميع الخيوط والأدلة «الموثوقة»، بالتنسيق بين العديد من المكاتب الميدانية لإجراء عمليات البحث، وجمع كل الأدلة المتاحة، وأجرى مقابلات مع جميع الشهود الذين تم تحديدهم.

وأوضح المكتب الفيدرالي في آخر تقاريره عن التحقيق أن المكتب «طبق العديد من تقنيات التحقيق الجديدة والمبتكرة، بالإضافة إلى فحص عناصر لا حصر لها في مختبر مكتب التحقيقات الفيدرالي. وأنه سيتم الآن الاحتفاظ بالأدلة التي جرى الحصول عليها أثناء التحقيق لأغراض تاريخية في مقر مكتب التحقيقات الفيدرالي في واشنطن العاصمة… من أجل حل قضية ما، يجب على مكتب التحقيقات الفيدرالي تقديم الإجابة بشكل لا يدع مجالاً للشك، ولسوء الحظ، لم تسفر أي من النصائح ذات النوايا الحسنة أو التطبيقات التكنولوجية الجديدة الخاصة بالتحقيقات عن الدليل اللازم».

منوعات

منذ سنة واحدة
«لغز عمر الخيام».. جريمة قتل رجل مجهول حيَّرت الغرب في القرن العشرين!

وهكذا فشل مكتب التحقيقات الفيدرالي في حل لغز دي بي كوبر، ولم يستطع العثور على المال، ولم يستطع العثور على الرجل أو رفاته، بل حتى لم يستطع معرفة اسمه الحقيقي. وما بين نظريات أنه مات إثر قفزته، أو أنه نجح في خطته واستطاع الهرب كل هذه السنوات؛ يبقى «تحقيق دي بي كوبر» السؤال الذي لم يستطع مكتب التحقيقات الفيدرالي الإجابة عنه، وبقى دي بي كوبر الرجل الذي هزم النظام وارتكب الجريمة الكاملة.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد