تعد حكومة الوحدة الوطنية الليبية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، أول حكومة توافقية تتحد فيها مؤسسات الدولة الليبية بعد انقسام سياسي حاد بين شرق البلاد وغربها.

ألقت هذه الوحدة بظلالها على العلاقات الخارجية للدولة الليبية بعد أن احتشدت قوى إقليمية لتدعم أطرافًا في الصراع الليبي، فكان محور «مصر-الإمارات» ومحور «تركيا-قطر» أبرز المحاور النشطة في الشأن الليبي منذ الحرب الأخيرة على طرابلس والتي شنها الجنرال، حفتر، عام 2019.

ورغم التقارب التركي-المصري بعد سنوات من تجميد العلاقات منذ الإطاحة العسكرية بالرئيس المصري محمد مرسي في مصر عام 2013، إلا أن كل من البلدين لهما مصالح ورؤى مختلفة في الشأن الليبي. 

تركيا التي أنقذت طرابلس من السقوط كانت أول الدول التي وقَّعت اتفاقيات استثمارية في قطاع الخدمات والبنية التحتية، وذلك بعد زيارة الدبيبة لأنقرة يوم 12 أبريل (نيسان) 2021. بينما كانت أول زيارة رسمية للدبيبة، بعد أن نال الثقة من مجلس النواب، إلى دولة مصر ملتقيًا فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. فما شكل السياسة الخارجية التي يرسمها الدبيبة؟ وما موقف كل من تركيا ومصر من تقارب الدبيبة منهما؟ وأي الطرفين حقَّق مكاسب ملموسة حتى الآن؟ وما موقع الجنرال، خليفة حفتر، في الخريطة السياسية الليبية بعد التحالف مع تركيا.

 

العلاقات الخارجية لحكومة الدبيبة.. بين التوازن والواقعية

منذ أن تشكلت حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بدأ التشكيك في شخصيته بوصفه مقربًا من التيار الإسلامي في ليبيا، ونظرًا إلى لعلاقاته المتينة مع تركيا منذ عهد العقيد معمر القذافي. حتى اللحظة من الواضح أن الدبيبة يعي صعوبة مهمة حكومته المُشكَّلة على أساس التوافق بين كافة الأطراف المتصارعة في ليبيا، ولذلك كانت أول زيارة رسمية له إلى مصر، وأتبعها بزيارة خليجية افتتحها بدولة الكويت المُحايدة حتى في الصراع الخليجي الأخير، وأتبعها بزيارات للإمارات والسعودية وقطر. 

هذه الجولة الخليجية بدأت من دولة الكويت التي عملت جاهدة طيلة فترة الأزمة الخليجية على حل الصراع الخليجي دبلوماسيًّا، ويمكن القول بأن افتتاح الزيارة بالكويت هو محاولة لاتخاذ موقف ليبي محايد من أطراف الصراع الخليجي المُختلفة حتى وقت قريب.

وعلى صعيد العلاقات مع أوروبا، التقى رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، بالدبيبة يوم الأربعاء الماضي 7 أبريل 2021، في العاصمة الليبية طرابلس، في زيارة تباحثا فيها العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين ولا سيما فتح السفارة اليونانية، وإعادة العلاقات الليبية اليونانية إلى سابق عهدها بعد أن تدهورت مع حكومة الوفاق سابقًا بسبب الدعم اليوناني للجنرال حفتر، في هجومه على طرابلس، وبسبب توقيع ليبيا للاتفاقية البحرية مع تركيا في محاولة لعزل اليونان في شرق المتوسط.

Embed from Getty Images

وقال رئيس الوزراء اليوناني بأن «هذه الخطوة الجديدة في علاقات» البلدين «ستصحح وتمحو الأخطاء التي حدثت في المرحلة السابقة»، وانتقد الاتفاقية التركية الليبية ووصفها بأنها «غير قانونية» وقال بأن الاتفاقية «التي توصف بأنها اتفاقات بين الدول في حين ليس لها أي قيمة قانونية».

ولكن الدبيبة عقَّب بإضافة تركيا إلى المعادلة قائلًا «نؤكد دائمًا أهمية أي اتفاقية تساهم في وضع الحلول المناسبة، وتحفظ حقوق ليبيا واليونان وتركيا»، وأكَّد أن حكومته مستعدة للعمل على لجان مشتركة «بين ليبيا واليونان وتركيا» لاستئناف المفاوضات.

وبعد أقل من أسبوع من هذه الزيارة كان الدبيبة في العاصمة التركية أنقرة، ليؤكِّد من هناك أن الاتفاقية البحرية التركية الليبية ما زالت قائمة وصرَّح سابقًا بأنها «يجب أن تظلَّ قائمة» بوصفها «اتفاقيات تقوم على أسس صحيحة».

بين مصر وتركيا.. كيف وازنت حكومة الوحدة سياساتها؟ ومن الرابح حتى الآن؟

دعمت مصر في سنوات الحرب الليبية كلًّا من الجنرال حفتر، والسياسي الليبي عقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبي، ولربما جاء فوز قائمة الدبيبة، ومحمد المنفي مفاجئًا لمصر التي دعمت عقيلة صالح، لرئاسة المجلس الرئاسي بحسب ما ذكرت مصادر لموقع «العربي الجديد».

جاءت أول زيارة خارجية للمنفي إلى فرنسا، أتبعها بزيارة إلى مصر، ثم تركيا، في محاولة لخلق توازن بعلاقات الحكومة مع القوى الإقليمية.

وفي هذه الزيارة لمصر أكَّد المنفي «الروابط التاريخية» بين البلدين وركَّز السيسي على ضرورة «خروج كافة المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا»، ثم جاءت أول زيارة خارجية للدبيبة إلى مصر، رغم دعمها سابقًا لعقيلة صالح، منافس الدبيبة والمنفي.
هذه الاتصالات المصرية مع حكومة الدبيبة وتأكيد دعمها جاء في سياق محاولة تعويض رهانها الخاسر على قائمة عقيلة صالح وباشاغا، وأيضًا للحد من نمو النفوذ التركي في ليبيا ولملء أي فراغ يمكن لتركيا الاستفادة منه لتقوية علاقاتها بحكومة طرابلس الجديد.

وقد قال المحلل الليبي صلاح بكوش لـ«الجزيرة» بأن مصر غيَّرت من سياستها حتى قبل الاتفاق الليبي الأخير، وذلك لأسباب عدة، ففي الملف الليبي فشلَ رهانها على خليفة حفتر، وتقدَّمت عليها تركيا بدعمها الحكومة المعترف بها دوليًّا، أما دوليًّا؛ فيقول بكوش إن مصر والإمارات تحاولان رسم صورة جديدة لهما أمام إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، باعتبارهما جزءًا من «الحل لا المشكلة» ويصف بكوش الدبيبة بأنها «شخصية غير مؤدلجة» ويحاول تحسين العلاقات مع الجميع إقليميًّا ودوليًّا.
هذه الزيارات لكل من المنفي والدبيبة إلى مصر تبعتها زيارات إلى تركيا، ففور زيارة المنفي إلى القاهرة في 23 فبراير (شباط) 2021، زار إسطنبول لمقابلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعدها بيومين. 

Embed from Getty Images

أما زيارة الدبيبة لتركيا فجاءت برفقة وفد من الوزراء اجتمعوا بنظرائهم الأتراك، من وزارات الخارجية والصناعة والتكنولوجيا والتعليم، والدفاع، والطاقة والاقتصاد، أثمرت هذه الزيارة بتوقيع خمس مذكرات تفاهم: بروتوكول لإنشاء محطة كهربائية في ليبيا، ومذكرة لتأسيس ثلاث محطات كهرباء في ليبيا، ومذكرة تفاهم لبناء محطة ركاب جديدة في مطار طرابلس الدولي، ومذكرة لبناء مركز تسوق في طرابلس وأخرى للتعاون الإستراتيجي في مجال الإعلام.

ولكن هذه المذكرات، ومثلها انعقادُ اجتماع مجلس التعاون الإستراتيجي بحضور الدبيبة وأردوغان؛ استمرارٌ لجهود سابقة، يصفها عبد السلام الراجحي، رئيس مركز «إسطرلاب» للدراسات في حديثه للـ«الجزيرة» قائلًا إنَّ زيارة الدبيبة في إطار إنعاش الاقتصاد المحلي، واستكمال مشروعات أشرفت عليها شركات تركية سابقًا وتوقَّفت مع الحرب، بعضها مشروعات بِنى تحتية، وفي قطاعات الطاقة والصحة، وذكرَ الراجحي أن عدد العقود مع هذه الشركات يصل إلى أكثر من 400 تعاقد.

ويبدو أن توجُّه حكومة ليبيا الجديد للتعاون اقتصاديًّا مع تركيا واضح الآن؛ إذ أكَّد الدبيبة أن تركيا سيكون لها الدور الأكبر في مرحلة إعادة الإعمار لخبرة الشركات التركية في هذا المجال.

هل أزعجت خطوات الدبيبة الجنرال حفتر؟

أثارت زيارة حكومة الدبيبة الموسعة إلى أنقرة تساؤلات عن ردة فعل الجنرال خليفة حفتر، المعروف بعدائه للحكومة التركية بسبب دعمها لحكومة الوفاق الوطني، وقالت مصادر مقرَّبة من حفتر لصحيفة «الشرق الأوسط» بأن الاتفاق بين الدبيبة وأردوغان للحفاظ على الاتفاقية البحرية يتعارض مع «السيادة الوطنية الليبية».

واعتبر المصدر أنَّ زيارة الدبيبة لتركيا وتأكيده على التحالف معها يعمِّق الفجوة بينه وبين الجيش الوطني الذي ما زال حفتر يترأسه، وأن عدم زيارة الدبيبة لشرق ليبيا وتجاهله لحفتر لا «يصبان في صالح أمن واستقرار البلاد»، خاصةً وأن الدبيبة زارَ شرق ليبيا، واجتمع بعقيلة صالح، دون أن يلتقي بحفتر.

وعن موقف حفتر، قال الدبلوماسي الليبي فرج زروق لـ«ساسة بوست» إن «هدف خليفة حفتر الوصول إلى حكم ليبيا مباشرةً، أو عن طريق أحد أبنائه» إما بالحرب أو الانتخابات، «رغم أنه بَرهنَ أنه يفضِّل الوصول إلى الحكم عن طريق الحرب ليحقق حلمه في أن يكون الحاكم المطلق لليبيا».

 

المصادر

تحميل المزيد