في لقاء علي عبد الله صالح الأخير قبل يومين بدا وكأنه أكثر قوة؛ جلس على أريكته الوثيرة في قصره المهيب بصنعاء، ثم لبس ثوب الثوار، واستقبل الكاميرا بكبريائه القديم، ثم «دعا جموع الشعب اليمني – وكأنهم أنصاره – لإنقاذ الثورة من أيدي الحوثيين الذين يعبثون بوحدة البلاد»، ولم تكن الحرب الدائرة سوى إحدى قراراته بعدما اتهم الحوثيين – حلفاء الأمس في الحرب ضد السعودية – بمحاولة الانقلاب عليه داخل المسجد الكبير؛ وبعدها بعدة ساعاتٍ يُعلن التحالف العربي دعمه لرئيس اليمن المخلوع الذي لدغ حلفاءه، تستمر المعارك وتتطاير الأخبار سريعًا من سائر أنحاء المدينة، وتؤكد بلا شك أنّ صالح انتصر في حربه أو هكذا اقترب؛ يطمئن الثعبان فيدخلُ بيته في المساء، لكن الشيء الوحيد الذي لم يُخطط له الرجل الذي يتلاعب بخصومه وحلفائه، هو المصير الذي ينتظره في الصباح.
قبل ساعات، تأكدت أنباء محاولة اغتيال الرئيس السابق علي عبد الله صالح بعدما نقلت وكالة «رويترز»، عن شهود عيان، قيام الحوثيين بتفجير منزله بعد الاشتباكات ضد القوات الموالية له؛ وبذلك لم يُكمل صالح رقصته الأخيرة على رؤوس الثعابين.
علي عبد الله صالح.. أن تعود من الموت أكثر من مرة
لطالما أكد رئيس اليمن السابق لأنصاره أنه لا يخشى الموت، فعقب محاولة اغتياله الأولى في يونيو (حزيران) عام 2011، ظهر في لقاء تليفزيوني جاء فيه: «توفيت 15 يومًا قبل أن أعود للحياة»، في رسالة واضحة كأنه يُخبر الحشود التي طالبته بالرحيل بأنه أقوى من الثورات والموت؛ وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كاد يموت، لولا أنّ السعودية أرسلت له فريق طبي روسي خاص إلى مطار صنعاء، للإشراف على حالته، ثم أجرى عملية جراحية في إحدى مستشفيات صنعاء، ونجا منها، ثم خرج سريعًا وظهر في مقطع مُصوّر، وخاطب أعداءه: «صحتي بخير، وليست لدي مشاكل صحية».
علاقة صالح بالموت تبدو قديمة؛ ففي تسريبات «ويكليكس»، يظهر اسم الرجل بوضوح كأحد الذين نفذوا عملية اغتيال الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي وشقيقه، اللذين قُتلا في ظروفٍ غامضة؛ وبحسب الوثائق، فإن علي عبد الله صالح القائد العسكري المُقرب من السُلطة، هو من أطلق النيران بنفسه، وسدد طعنات، وفي ظروفٍ غامضة أخرى يُقتل الرئيس الجديد أحمد الغشيمي عام 1978، وبعدها يتولى ضابط الصف رئاسة اليمن والجيش لـ33 عامًا كاملة، هي الأطول حتى الآن.
حين كان صالح ضابطًا بالجيش شارك في الحرب الأهلية ضد الملكيين المدعومين من السعودية عام 1970، وكاد يُقتل، لكنه خرج منها بجروح، وما لبث أن التأمت جراحه، حتى شارك في انقلاب عسكري خرج منه القائد العام للواء تعز، وفي خطوة استثنائية حصل على ترقيات ومناصب هامة، لكنّ أحدًا لم يتوقع أن يصل راعي الأغنام إلى رأس السُلطة في البلاد عام 1978.
يواجه صالح مغارم السُلطة تِباعًا بعد ثلاثة أشهر فقط، عقب انقلاب فاشل قام به التنظيم الناصري الذي أراد الثأر لقتل قائدهم إبراهيم الحمدي، ولم تلبث أن هدأت الأمور، حتى حدث شقاق بين الرئيس ونائبه سالم الأبيض، الذي فرّ إلى الجنوب، وواجه صالح خطر انشقاق الشطر الجنوبي، لكن الحظ حالفه هذه المرة؛ فظفر بالسلطة ونجا من الموت.
الصديقُ الذي لا يثق به أحد
قاد الرئيس اليمني أكثر من محاولة ناجحة لتعديل الدستور في بلاده؛ ليضمن له البقاء الآمن في السُلطة؛ لكنه في عام 2005، قام بخدعته الكبيرة التي فاجأت أنصاره وخصومه على السواء؛ ففي الذكرى السابعة والعشرين لتوليه الرئاسة، وقبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، أعلن أنه لن يترشح لفترة جديدة، ثم ذهب أبعد من ذلك، وقال: «يجبُ أن نربي أجيالنا على التداول السلمي للسُلطة، وأن نبحث عن الكفاءات الجديدة والشابة». وبعد ثلاثة أيامٍ فقط من التخبط يعود عن قراره تلبية لنداءات الشعب، على حدّ تعبيره، المثيرُ أنه بعدما فاز برئاسة جديدة، قدم حزبه مشروعًا إلى البرلمان يسمح له باللرشح لفترة رئاسية ثالثة، ليس هذا فقط، بل تضمن اقتراحًا بإلغاء تحديد مدة الرئاسة، وهو المشروع الذي أطلقت عليه المعارضة لقب «تصفير العداد».
ليس فقط الشعب اليمني الذي لم يثق برئيسه، الدول العربية أيضًا نالت صفعة هي الأخرى أثناء حرب الخليج الثانية عام 1990؛ فعقب قيام الرئيس العراقي الراحل صدام حُسين باحتلال الكويت، صرحت اليمن على لسان وزيرها – آنذاك – حيدر أبو بكر بأن العدوان غاشم وغير مقبول، وفي الجلسة الطارئة التي عقدتها جامعة الدول العربية لبحث اعتداء العراق فوجئ القادة العرب بامتناع علي عبد الله صالح عن التصويت على قرار تشكيل تحالف عسكري لردع بغداد، وكانت إشارة مُعلنة لدعم بلاده لغزو الكويت، وفي عام 2003 دعا صدام حسين مرة أخرى لاحتلال الكويت بدعوى تجنب الغزو الأمريكي للعراق، وبعد تلك الحادثة شنت دول الخليج حملة عقاب على اليمن بدأت بالجالية اليمنية.
المثير في السطور أن الرئيس العراقي كان أكثر الشخصيات التي حظيت بولاء واحترام الرئيس اليمني، وتشير تقارير إلى أنّ صالح كان مُعجبًا بنمط شخصية الرئيس العراقي، بل إنه كان يُقلده في أحيانٍ كثيرة، وأبرزها الزي العسكري، لكنّ صالح كان يتوافق مع صدام في كثير من الصفات الشخصية، وأبرزها أن صدام فقد أسطورته عندما خذله الجميع، على خلاف الرئيس اليمني الذي لم يكن يخشى من خسارة الأصدقاء ما دام قادرًا في كل مرة على استرجاعهم أو الاستبدال بهم، وقصته مع الحوثيين ضرب كبير من التناقضات.
الخائن الذي لا مفرّ من التحالف معه
كانت العلاقات بين اليمن والدول العربية سيئة بسبب مواقف صالح الداعمة للرئيس العراقي، وبعدما بدأت نهاية صدام تتضح، قرر صالح العودة فورًا إلى معسكر الخليجيين، واستطاع أن يُقنع السعودية والولايات المتحدة بخطورة الحوثيين المدعومين من إيران على المنطقة العربية، فحصل على الضوء الأخضر لشن حربه، إضافة إلى ملايين الدولارات التي دعمته.
منذ عام 2004 وحتى 2010، شنّ صالح ست حروب ضد الحوثيين الذين طالبوا بإصلاحات سياسية، وكانت مبررات الحرب التي صدرت هي أنّ إيران تدعم الجماعة الشيعية التي تتبع المذهب الزيدي، وهو بذلك يجذب السعودية ودول الخليج لتدعمه، كما أنّه زعم أنهم يريدون هدم الجمهورية وإعادة الملكية، وهو بذلك ينادي على الولايات المتحدة التي هرعت لمساعدته في التسعينات، خاصةً عندما أعلن أنه يحارب تمدد تنظيم القاعدة في بلاده، وبحسب قادة عسكريين تابعين له كشفوا أن صالح لم يسع لإنهاء الحروب الست، مبررين أنه عندما كان الجيش يوشك على القضاء على الحوثيين في معاقلهم، كانت تصدر الأوامر لهم بالانسحاب فورًا ووقف القتال. الجدير بالذكر أنّ أتباعه الذين ساعدوه في حرب الحوثيين انقلبوا عليه خلال الثورة اليمنية، وأجبروه على تسليم السُلطة.
وعقب أحداث الربيع العربي، كانت المملكة السعودية تخشى أن تهب رياح التغيير إلى حدودها الجنوبية، ودعمت الرياض في البداية خُطة صالح الناجحة، والتي تمثلت في طرح مبادراتٍ سياسية ترفضها المعارضة؛ ليظهر وكأنّ ما يحدث في اليمن هو أزمة سياسية، وليست ثورة شعبية، وكان أشهرها مبادرة الانتقال من النظام الرئاسي إلى نظامٍ برلماني، والاستفتاء على دستور جديد للبلاد، وكان الخليج في تلك الأثناء صامتًا أمام الانتهاكات التي يقوم بها حليفهم في الجنوب من أجل هزيمة الثورة على أمل أن ينجح العنف الممنهج لصالح في إجهاض الثورة، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ قام بعض حلفاء صالح بالتنازل عن دعمه، وانضموا إلى القوات المُنشقة، وتبعتهم قبيلة الأحمر، أكبر القبائل اليمنية، وبعض قادة الجيش، ولم يكن أمام صالح سوى السعودية لتنقذه من المحاكمة أو القتل، مثلما حدث في بعض دول الربيع العربي، لذا ظهرت «المبادرة الخليجية» ، التي نصت على الخروج الآمن في مقابل سقوط كل الاتهامات.
يقوم صالح بخيانة المبادرة الخليجية بتحالفه مع الحوثيين ضد عدوهما المشترك الرئيس اليمني عبد ربه منصور، وبعد أشهر من الدعم الخفي للحوثيين بالمال والسلاح، يقوم بدفع قوات الحرس الجمهوري السابق، والقوات الخاصة التي تدين له بالولاء، وساعد الحوثيين في السيطرة على صنعاء، ومحاصرة القصر الرئاسي، بل إن الأمور تطورت إلى حد إجبار الرئيس على تقديم استقالته، قبل أن يهرب إلى عدن .
ازدادت الأوضاع سوءًا عام 2015، بعدما أعلنت السعودية تشكيل عاصفة الحزم لمحاربة الحوثيين من أجل إعادة الشرعية للرئيس هادي، وبينما كان علي عبد الله صالح يهاجم السعودية ويتهمها بتخريب اليمن، كانت الصفقات السرية قد عقدت برعاية الإمارات والسعودية وصالح من أجل إنهاء الحرب التي أحرجت السعودية أمام المجتمع الدولي، بسبب الانتهاكات، وانتشار الأوبئة. وتتلخص الصفقة في التخلي عن الحوثيين، والإيقاع بهم في مقابل إعادة صالح إلى الحُكم مرة أخرى، وبالرغم من أنها لم تتحقق حتى الآن، إلا أن الحوثيين قد فطنوا إلى الخيانة المرتقبة؛ فبادروا هم ببدء الخلاف والدخول في مناوشات وقتال محدود مع قوات صالح، والتهديد بإلغاء الشراكة.
صالح لم يُكمل الرقص على رؤوس الثعابين
صالح كان يُخطط منذ أيام لفض شراكته مع الحوثيين؛ فقبل يومين من اشتباكات الأربعاء، كان صالح قد غازل التحالف العربي بتصريحه المثير: «سأعمل على دفع الحوثيين إلى وقف إطلاق الصواريخ على السعودية، مقابل إنهائها الغارات والحصار على اليمن من خلال التحالف العربي الذي تقوده»، ثم بادر بالإعلان عما أسماه «خريطة طريق للحل»، ثم يضيف مُخاطبًا المملكة: «الخريطة السياسية في المنطقة تتغير.. كل التحالفات القائمة فاشلة»، ويبدو أنه بالفعل قد وجد الحل المتمثل في قتال الحوثيين، وفي الوقت الذي كان يحصد فيه انتصارات داخل صنعاء، ويسيطر على الأماكن الحيوية بها، كان التحالف العربي قد أعطى بادرة أمل بتصريحه: «نثق باستعادة زمام المبادرة والانتفاضة ضد الميليشيات الإيرانية».
لكنّ صواريخ الحوثيين أنهت أمل السعودية والإمارات في إيجاد نصر نهائي يقضي على الحرب التي لم تحقق أهدافها منذ قرابة الثلاث سنوات. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يعود اليمن إلى الوحدة من جديد بموت صالح؟ لا!