منذ حصول البلدان العربيّة والأفريقية على استقلالها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عجزت هذه الدول بشكل عام في التأسيس لنماذج ديمقراطيّة ناجحة يتمّ فيها انتقال سلميّ للسلطة واحترام للدستور وللتعدّديّة؛ إذ شهدت في كثير من الأحيان العديد من الانقلابات العسكريّة التي غالبًا ما يصحبها سقوط العديد من الضحايا.
لكن هل يمكن أن تأتي الديمقراطيّة على ظهر دبابّة؟ في الأسطر القادمة نتطرّق إلى ظاهرة «الانقلابات الديمقراطيّة» والتي تعني استلام الجيش للسلطة، لكن عوض احتكارها والسيطرة عليها لضمان بقائه على رأس الحكم كما يحدث في الانقلابات العسكريّة عادة، هنالك نماذج لقادة جيوش احترموا قواعد الديمقراطيّة وسلّموا السلطة للمدنيين وعادوا إلى الثكنات العسكريّة.
مالي.. ديمقراطية ناشئة أضعفها تحدّي التنمية
عاشت مالي تجربة ديمقراطية نادرة في الساحة الأفريقيّة، إذ كانت قيادة الجيش هي المبادرة بالتحوّل الديمقراطي وتسليم السلطة إلى المدنيين بعد انقلاب عسكري، سنة 1991. بعد أيّام من المظاهرات التي عمّت أنحاء البلاد، قام مجموعة من الضبّاط بتنحية الجنرال موسى طراروي من رئاسة الدولة بعد 22 سنة من الحكم، الرئيس المالي كان قد ارتكب الخطأ بأمره بإطلاق الرصاص على الطلبة المتظاهرين ممّا أدى إلى قتل المئات، وهو ما أثار موجة من الغضب الشعبي انتهت بإزاحته من طرف مجموعة من ضبّاط الجيش.
وقد تعهّد قائد «الانقلاب»، النقيب آمادو توماني توريه بأن الجيش لن يتدخّل في السياسة، وأنه سيعود للثكنات فور إقامة عدالة اجتماعية وديمقراطيّة شاملة. من المؤكّد أن مثل هذه الأحداث قد تكرّرت في العديد من تجارب الانقلابات في البلدان العربيّة، حين يُقدم الجيش على إزاحة رأس النظام ليستلم الحُكم بدلاً عنه ويقطف ثمار الثورة الشعبيّة، لكن المفاجأة التي صنعت الاستثناء المالي حينها، كانت انسحاب النقيب آمادو توماني توريه بالفعل، وتسليمه السلطة للمدنيين.
النقيب آمادو توماني توريه
قامت الحكومة الجديدة بتشكيل مجلس تأسيسي شاركت فيه مختلف الحساسيات والقوى السياسية والاجتماعيّة، وأقرّت دستورًا جديدًا لمالي، كانت أبرز معالمه تحديد العهدة الرئاسيّة بخمسة سنوات قابلة للتجديد مرّة واحدة، لكن المثير للانتباه كان الصلاحيات الواسعة التي أُعطيت للسلطات المحليّة في كلّ إقليم لتكريس «اللامركزية»، وقد فاز برئاسة الجمهورية في أوّل انتخابات ديمقراطيّة في تاريخ مالي سنة 1992، الصحافي الذي قاد النضال الديمقراطي في البلاد آلفا كوناري.
من المؤكّد أن تجربة الانتقال الديمقراطي في مالي شابها الكثير من العوائق والعراقيل، لكنّها شهدت لأوّل مرة سنة 2002 تسليم السلطة من رئيس سابق إلى رئيس جديد بطريقة سلميّة وبدون انقلابات أو وفاة في المنصب؛ ممّا شكّل سابقة فريدة من نوعها في القارّة الأفريقيّة وسلّط الأضواء على التجربة المالية.
ويُرجع بعض الباحثين ذلك التفرّد المالي في الانتقال الديمقراطي، إلى تاريخ البلد الحضاري، فقد كان في فترة سابقة أحد أغنى وأكبر الممالك الأفريقيّة. ففي سنة 1307، استطاع منسا موسى توحيد العديد من القبائل والسيطرة على مساحات واسعة من منطقة غرب أفريقيا، ليؤسس «مملكة مالي» التي كانت إحدى أقوى الدول في القارة الأفريقية من خلال الثروات المعدنية الهائلة التي كانت تمتلكها والذهب خصوصًا، ويُرجع بعض الباحثين نمط الحكم اللامركزي الذي يعتمده الماليّون إلى فترة حكم منسا موسى، فبعد توحيده للقبائل وانتصاره عليهم تقول الأساطير أنه جمع قادة هذه القبائل وطلب منهم إلقاء رماحهم في الأرض تعبيرًا عن الإذعان له، وبعد أن فعلوا، أعاد إليهم رماحهم ونصّبهم أمراء على قبائلهم، تعبيرًا عن الحكم اللامركزي التي ستتمتع به مالي خلال فترة حكمه.
لكن هذه التجربة ستتلقّى ضربة موجعة من خلال انقلاب مجموعة من الضبّاط على الرئيس المنتخب أمادو توماني توريه سنة 2012، وذلك قبل أيام معدودة من انتهاء ولايته، لتدخل البلاد في حالة فوضى في ظلّ سيطرة الانفصاليين الطوارق على شمال البلاد، وانتشار الحركات الجهاديّة المسلّحة. لكن اللافت في التجربة الديمقراطيّة في مالي، هي أنّ انقلاب سنة 2012 لم يُلاقِ صدى كبيرًا في أوساط الشارع المالي الذي بدا غير مكترث كثيرًا.
ويُرجع المُحلّلون السبب إلى أنّ النظام السياسي، ورغم كونه جاء من خلال انتخابات ديمقراطية، عجز عن تكوين طبقة شعبيّة تدافع عن هذه القيم، فقد فشل فشلاً ذريعًا في تحدّي محاربة الأميّة التي تبلغ 28%، بالإضافة إلى مشاكل البطالة الكبيرة وانعدام التنمية، وهو ما أدى بالتجربة الديمقراطية إلى الفشل في تحقيق الأهداف المرجوّة منها في الأساس.
هنا ينبغي الإشارة إلى معيقات اقتصادية وتنمويّة شديدة القسوة قد تكون ساهمت في إفشال التجربة الديمقراطية في مالي، فالدولة الأفريقيّة تعدّ من بين ثلاثة أفقر دول على سلّم الأمم المتحدة، إذ تصل نسبة الفقر عند سكّانها إلى 68%، بالإضافة إلى كونها دولة حبيسة (لا تطلّ على الساحل)، ومالي من بين أكبر البلدان الأفريقيّة مساحة، إذ تبلغ مساحتها 1.2 كلم²، لكن ثُلث هذه المساحة هي صحراء قاحلة.
موريتانيا.. إجهاض التجربة الديمقراطية في مهدها
مثّلت التجربة الديمقراطيّة في انتخابات 2007 بارقة أمل في العالم العربي، وحالة فريدة أخرى من أنماط «الانقلابات الديمقراطيّة»؛ لكن هذه التجربة سرعان ما آلت إلى الفشل بعد الانقلاب عليها من طرف الجيش، ليستلم زمام السلطة مرّة أخرى ويحافظ على مكانته باعتباره لاعبًا رئيسيًا في الساحة السياسية منذ انقلاب 1978 على الأقل.
يؤرّخ الباحثون لمرحلة الحكم العسكري في موريتانيا إلى سنة 1978 حين جرى انقلاب قام به رئيس أركان الجيش وأطاح بالرئيس المدني مختار ولد داداه، وذلك في خضمّ الحرب التي دخلتها موريتانيا على إقليم الصحراء الغربية، ومنذ ذلك الحين شهدت موريتانيا عدّة انقلابات عسكريّة وأصبح التنافس على السلطة محصورًا بين الجنرالات الموريتانيين.
منذ سنة 1991 بدأت بعض عمليّات الإصلاح المحتشمة على يد الجيش، إذ أقرّ النظام بالتعددية الحزبيّة مع انفتاح نسبي في الفضاء العام وانتشرت الصحف الحرّة، ويرجع الباحثون هذا الانفتاح إلى جملة من الأسباب، من بينها ضغوط فرنسيّة من طرف الرئيس الفرنسي ميتيران الذي ربط بين الدمقرطة والمعونات المالية الفرنسية للدول الأفريقية في قمّة لابول سنة 1990، بالإضافة إلى عوامل اقتصادية داخلية وأخرى جيوسياسية خارجية.
الرئيس الموريتاني المنتخب ولد الشيخ عبد الله (يسار)
لكن المنعرج الحاسم كانت الانتخابات الرئاسية لسنة 2007، التي جاءت بعد انقلاب إعلي ولد محمد فال سنة 2005 على الرئيس ذي الخلفية العسكرية معاوية ولد الطايع، ووعد بتسليم السلطة لرئيس منتخب من طرف الشعب، بعد مرحلة انتقالية تستمرّ لسنتين، وهو ما تمّ بالفعل، إذ أجمع المراقبون الدوليّون على نزاهة انتخابات الرئاسة سنة 2007، وشكّلت بارقة أمل في الساحة السياسية الموريتانية بوصول ولد الشيخ عبد الله كأول رئيس منتخب دستوريًا وديمقراطيًا منذ استقلال موريتانيا، وعكست نزاهة الانتخابات جديّة النخبة العسكريّة الموريتانيّة في تنفيذ الإصلاحات التي باشرتها منذ التسعينيات، والانسحاب ولو جزئيًا من الساحة السياسية الموريتانيّة.
لكن هذه التجربة الديمقراطية جرى إجهاضها في حالتها الجنينيّة بعد سنة واحدة من خلال انقلاب محمد ولد عبد العزيز، وهو الحدث الذي يصفه الباحثون بأنّه كان «انقلاب على روح التغيير وعلى جوهر الديمقراطية الناشئة، وعلى صناديق الاقتراع أكثر منه مجرّد رغبة في تنحية رئيس أو أشخاص بعينهم»، في إشارة إلى خيبة الأمل الشديدة التي من إجهاض التحول الديمقراطي في بداياته. ومنذ ذلك الحين «ما تزال المؤسسة العسكرية تحتفظ بالموقع الأهم في المشهد السياسي الموريتاني» إذ تحوّلت الانتخابات في موريتانيا عمليّة مغلقة يجري من خلالها تداول السلطة بين قادة المؤسسة العسكرية فيما بينهم.
السودان.. انقلاب ديمقراطي أفشله المدنيّون
يقول البروفيسور بيتر فيفر، المتخصص في العلاقات المدنية العسكرية في وصف الانقلابات العسكريّة: «نفس المؤسسة التي أُنشِئت لتحمي الحُكم، تُعطى ما يكفي من السُلطة لُتصبح محلّ تهديد لنظام الحكم».
لعل أشهر تجارب «الانقلابات الديمقراطية» في الوطن العربي هي تلك التي وقعت في السودان سنة 1985، فبعد 16 سنة من حكم الجنرال جعفر النميري الذي وصل للسلطة بانقلاب عسكري سنة 1969، خرجت مظاهرات حاشدة في العاصمة الخرطوم أثناء زيارة له إلى واشنطن الأمريكيّة. وجاءت هذه الثورة الشعبيّة على خلفيّة الأوضاع الاقتصاديّة المترديّة التي عاناها السودان طوال سنوات السبعينيات ومطلع الثمانينيات نتيجة انخفاض أسعار النفط من جهة ومحاولاته المتكرّرة لرفع الدعم عن السلع الأساسيّة تنفيذًا لتوصيات المؤسّسات المالية العالمية من أجل الحصول على قروض مالية.
المشير عبد الرحمن سوار الذهب
في ضوء هذه الاحتجاجات الشعبيّة الحاشدة، قرّر قائد الأركان حينها عبد الرحمن سوار الذهب الإطاحة بالرئيس جعفر النميري وحلّ الحكومة وجهاز أمن الدولة، وتقرّر إنشاء مجلس انتقالي عسكري في السادس من أبريل (نيسان) ووعد بتسليم السلطة للمدنيين خلال مدّة محددة. وبالفعل، أطلقت السلطة بقيادة سوار الذهب سراح المعتقلين السياسيين من السجون وعادت الحياة الحزبية والصحافيّة لمختلف التوجّهات السياسيّة، ورغم الأزمات المتعدّدة التي كانت تشهدها البلاد وأتون الحرب الأهليّة، توّجت المرحلة الانتقاليّة بعد أقل من سنة بانتخابات برلمانيّة ديمقراطيّة عرفت نسبة مشاركة بلغت أكثر من 70%. لتتوج هذه المرحلة بانتخابات برلمانية سنة 1986 فاز بها «حزب الأمة» لرئيسه الصادق المهدي بـ101 مقعدًا من أصل 260.
بعد إعلان نتائج الانتخابات، جرى تحالف سياسي بين حزب الأمة و«الحزب الاتحادي الديمقراطي» ليقودوا الحكومة، وبذلك انسحب العسكريون بقيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب من الساحة السياسية مباشرة بعد انتهاء الانتخابات، وجرى تسليم السلطة للمدنيين.
لكن هذا التحالف الهشّ سرعان ما انفجر في عدّة مناسبات، ودخلت الأحزاب المشاركة في الحكومة في صراعات حزبيّة ضيّقة، مقابل أزمات داخلية اقتصاديّة وحروب أهلية متفاقمة، وهو ما أدّى بالتجربة الديمقراطيّة إلى الفشل بعد سيطرة ضبّاط في الجيش بقيادة عمر البشير على السلطة مجدّدًا، وذلك بالتحالف مع الحسن الترابي رئيس الجبهة الاسلامية القومية.