نظم الجمعة 14 يناير (كانون الثاني) 2022 مجموعة من مناهضي الانقلاب في تونس تظاهرة احتجاجية بمناسبة إحياء ذكرى الثورة؛ إذ توافد على الشارع الرئيس بالعاصمة (شارع الحبيب بورقيبة) أعداد من المواطنين، قدرتها وزارة الداخلية في بيان لها بحوالي 1200 مواطن، فيما أكد شهود عيان أن عدد المشاركين في شارع بورقيبة والساحات المحيطة به تجاوز 10 آلاف.
تعددت الجهات الداعية للتظاهر (مبادرة مواطنين ضد الانقلاب، حركة النهضة، الحزب الجمهوري، اللقاء الوطني للإنقاذ، التيار الديمقراطي، التكتل من أجل العمل والحريات، حراك تونس الإرادة، حزب العمال، حركة أمل وعمل)، وبالرغم من اختلاف رؤاهم السياسية، فإن مطالبهم توحدت، فقد دعوا جميعًا إلى إسقاط الانقلاب وعودة البلاد إلى المسار الديمقراطي.
الحكومة تستخدم فزاعة كورونا والوضع الصحي لمنع التظاهرات
انطلقت محاولات الحكومة في منع التحرك منذ يوم الأربعاء 12 يناير، حين قررت الحكومة وفق بيان صادر عنها منع التجوال من الساعة العاشرة إلى الساعة الخامسة صباحًا، بالإضافة إلى تأجيل وإلغاء كافة التظاهرات المفتوحة لمشاركة أو حضور العموم، وذلك سواء في الفضاءات المفتوحة أو المغلقة، حتى أنها قررت تعليق إقامة صلاة الجمعة في المساجد والساحات لمدة أسبوعين بدءًا من يوم أمس، بدعوى الحد من انتشار فيروس كورونا.
ثم لم تلبث وزارة الداخلية أن أصدرت في اليوم التالي بلاغًا دعت فيه إلى عدم الانسياق وراء بعض الدعوات بمخالفة القرار الخاص بتأجيل أو إلغاء كافة التظاهرات للعموم، وكشفت في ليلة الجمعة 14 يناير، وضعها شخصين قيد الإقامة الجبرية حفاظًا على الأمن والنّظام العامّين وإن لم تفصح عن هويتهما، وبحسب ما راج في الأوساط الإعلامية التونسية، فإن هذين الشخصين من بين منسقي تحرك 14 يناير.
المعارضة تتحدى قيس سعيد وتقرر النزول
اعتبرت المعارضة قرار رئاسة الحكومة توظيفًا سياسيًا للوضع الصحي، يهدف لمنع التظاهر، وهو ما أكده محمد القوماني عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة خلال حديثه مع «ساسة بوست»، فقال: «التعلل بالعامل الصحي، مجرد خدعة تتناقض مع الحضور الأمني الكبير» مضيفًا أن «أنصار قيس سعيد قد تظاهروا يوم 25 يوليو (تموز) 2021 وبعده، وكان أعداد ضحايا كوفيد حينها بالمئات، وكانت الأزمة الصحية في ذروتها، واللقاحات غير متوفرة».
وأكد أنه «مع تقديرنا للخطر الصحي وحرصنا على حياتنا وحياة التونسيين، حرصنا على ممارسة حقنا في إحياء ذكرى الثورة، وزاد حرصنا إثر محاولة السطو على التاريخ في إشارة الى تغيير تاريخ الاحتفال بعيد الثورة بقرار فردي من قبل رئيس الجمهورية من تاريخ 14 يناير إلى تاريخ 17 ديسمبر (كانون الأول)» مضيفًا أننا (أي المعارضة) «قدّرنا أن مخاطر الحكم الفردي والاعتداء على حقوق الإنسان والحريات لا تقل خطورة عن مخاطر فيروس كورونا ومتحوراته».
في السياق نفسه صرح غازي الشواشي أمين عام التيار الديمقراطي خلال ندوة صحافية لتنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية أن «قرار منع التظاهرات قرار سياسي، وضرب لحرية التعبير، وسنكون غدًا في الشارع احتفالًا بذكرى 14 يناير، ورفضًا للحكم الفردي».
أطراف أخرى قررت معارضة قرار المنع، وطالبت التونسيين بالنزول رفضًا للحكم الفردي، على غرار «مبادرة مواطنين ضد الانقلاب»، و«اللقاء الوطني للإنقاذ»، و«حزب العمال»، وعدد من الشخصيات المدنية والسياسية، من بينهم الرئيسة السابقة لجمعية النساء الديمقراطيات يسرى فراوس، والرئيس الشرفي للرابطة التونسية لحقوق الإنسان مختار الطريفي، بالإضافة إلى رئيسها الحالي جمال مسلم، وعدد من الحقوقيين والصحافيين والنقابيين.
حواجز أمنية واعتقالات واستعمال مفرط للقوة في ذكرى الثورة التونسية!
إثر الفشل في منع المتظاهرين من الوصول إلى وسط العاصمة تمثلت الخطة الأمنية في تفريقهم عبر إقامة حواجز أمنية في مختلف الشوارع المحيطة بشارع الحبيب بورقيبة، النقطة التي اتفق الجميع على الالتقاء فيها.
أصر المتظاهرون على مواصلة التحرك واجتياز الحواجز الأمنية فتصدَت لهم القوات الأمنية باعتقال عدد منهم، واستعمال مفرط للقوة تنوعت فيها أدوات المواجهة بين استعمال خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والعصي المطاطية.
وجرى خلال محاولات منع المتظاهرين من الوصول إلى شارع الحبيب بورقيبة اعتقال عميد المحامين الأسبق عبد الرزاق الكيلاني، والمحامية نوال التومي، والصحافية زينة الماجري، وعدد من المحتجين الذين أُطلق سراح بعضهم لاحقًا، فيما بقي أكثر من 30 شخصًا رهن الإيقاف.
وحسب بيان النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، فقد تعرض عدد من الصحافيين إلى اعتداءات خطيرة وغير مسبوقة من قبل القوات الأمني، إذ ذكر بيان النقابة إيقاف أربعة صحافيين، والاعتداء البدني الشديد على آخرين، بالإضافة إلى مصادرة هواتف وآلات تصوير وتفتيش هاتف شخصي يخص إحدى الصحافيات، والاطلاع على صور ومحادثات فيه دون إذن قضائي. وقد أدانت نقابة الصحافيين في البيان نفسه ما أسمته «عنفًا همجيًا» مارسته قوات الأمن على الصحافيين والمراسلين، وطالبت بمحاسبة المتورطين فيه.
جدير بالذكر أن مجموعة من المحامين قد رابطوا أمام مركز إيقاف المتظاهرين حتى فجر اليوم، وقد أُطلق سراح 16 متظاهرًا وبقى 16 آخرون رهن الاعتقال بقرار من القضاء حسب عضو مجلس نواب الشعب والمحامي سمير ديلو.
يقول ضياء الدين مورو الكاتب العام للهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب (هيئة دستورية مستقلة) لـ«ساسة بوست» أن: «الهيئة قد رصدت جملة من التجاوزات من قبل الأمنيين، تمثلت أساسًا في منع انتقال وحركة المحتجين، واستعمال مبالغ فيه للقوة من أجل تفريقهم؛ ما تسبب في إصابات استوجبت تدخل الحماية المدنية».
وعن التهم الموجهة إلى الموقوفين يقول مورو: «أنها متعددة، منها مخالفة قرار منع التظاهر والتجمهر بدون ترخيص وكذلك تهمة الاعتداء على أعوان أمن».
في السياق نفسه، يروي سفيان القاسمي منسق حملة «طلاب ضد الانقلاب»، وأحد المشاركين في تظاهرة يوم أمس الجمعة 14 يناير لـ«ساسة بوست» ما حدث قائلًا: «ما جرى في هذا اليوم لم نعشه منذ زمن بن علي، يبدو أن الجهاز الأمني استنبط أسلوبًا قمعيًا جديدًا، وهو الدهس بالدراجات النارية ناهيك عن ضرب المواطنين والمواطنات بالماء البارد». مؤكد أن «العدد الكبير للأمنيين الذين حاصروا التحرك ومنعوا المتظاهرين من الوصول إلى مكان الاحتجاج، علاوة على بشاعة العنف المسلط على الشباب والشيوخ والنساء كان صادمًا».
وعليه أصدرت «تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية» بيانًا قالت فيه إن اعتداءات وحشية وهمجية طالت متظاهرين من تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، وأن عمليات اختطاف عشوائي طالت عددًا من مناضليها، وجرى استهداف قياداتها ونوابها بعنف ممنهج، ونددت حسب نص البيان بـ«القمع الممنهج وتطويع وزارة الداخلية لخدمة سلطة الانقلاب»، كذلك حملت مسؤولية التجاوزات لرئيس الجمهورية ووزير الداخلية.
وفي الصدد نفسه صرح محمد القوماني لـ«ساسة بوست» أن ما حدث يوم أمس من قوات الأمن «يمكن تصنيفها جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات لحقوق الإنسان» مشيرًا إلى أن مثل هذه الانتهاكات «لا تسقط بمرور الزمن، ويتحمل منفذوها والذين أمروا بها مسؤوليتها».
على جانب آخر أصدرت رئاسة مجلس نواب الشعب المجمدة صلاحياته بيان، نددت فيه بما أسمته بـ«الاعتداءات السافرة» التي مست قيادات سياسية ومدنية ومواطنين نزلوا للتعبير عن آرائهم مدنيًا وسلميًا.
وفي ردٍ لها أصدرت وزارة الداخلية بيانا قالت فيه إن وحداتها الأمنية «تولّت مع التّحلي بأقصى درجات ضبط النفس، التّدرج نحو استعمال المياه لتفريق المتظاهرين مع دعوتهم للمغادرة».
قيس سعيد VS مكتسبات ثورة 2011
يعلن الرئيس التونسي قيس سعيد في كل مناسبة تقريبًا حرصه على احترام الحقوق والحريات، وأنه لا يمكن أن يكون دكتاتور، لكن ما حصل يوم أمس من منع التونسيين لأول مرة من حقهم في إحياء ذكرى الثورة، أظهر كذب هذا القول، وأكد أن انقلاب قيس سعيد يعود بتونس تدريجيًا إلى زمن الاستبداد والدكتاتورية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأمر 117 المتعلق بالتدابير الإستثنائية الذي أعلنه قيس سعيد في سبتمبر (أيلول) 2021، أنه «يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول (المبادئ العامة) والثاني منه (الحقوق والحريات). وينص الفصل 19 الوارد في الباب الأول من الدستور على أن الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن، والنظام العام، وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات، وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التامّ».
وينص الفصل 37 الوارد في الباب الثاني على أن «حرية الاجتماع والتظاهر السلميين مضمونة»؛ ما يعني أن المنع الممنهج للتحرك يوم أمس الجمعة، والاستعمال المفرط للعنف من قبل قوات الأمن، كشفتا أمرين مهمين:
الأمر الأول: إنكار سلطة الانقلاب لدستور 2014 برمته، بما في ذلك الباب الأول والثاني منه عكس ما ورد في الأمر الرئاسي رقم 117 السابق ذكر نصه.
الأمر الثاني: فشل الأطراف التي حكمت بعد ثورة عام 2011 في الانتقال بقوات الأمن الوطني بشكل جذري، نحو أمن جمهوري يحترم الحريات ويعمل في كنف الحياد التام، كما ينص الفصل 37 من الدستور.
وفي هذا الاتجاه يقول محمد القوماني لـ«ساسة بوست»: أن حجم الانتهاكات التي وقعت أمس الجمعة 14 يناير 2022، «تدل على التوجه الاستبدادي لسلطة الانقلاب» مشيرًا إلى أن «ما أظهره المشاركون يوم أمس من مختلف الفئات من إصرار على الحرية وقدرة على مجابهة القمع، يحيي ذكرى إشعال التوانسة لفتيل الثورات العربية».
ويمكن القول إن توسع دائرة المشاركين من الأحزاب السياسية والشخصيات المدنية، في الاحتجاجات الرافضة للانقلاب وأسلوبه الفردي في إدارة البلاد؛ دلالة هامة يجب النظر إليها بعين الاعتبار، إذ جمع الزمان والمكان جملة من الأطراف المختلفة حد التناقض، مثل حركة النهضة وحزب العمال؛ الأمر الذي قد يحث أطرافًا أخرى على مغادرة سفينة الانقلاب.
فقد أصدر «حزب حركة الديمقراطيين الوطنيين الموحد»، وهو أحد الأحزاب التي ناصرت الانقلاب، بيانًا أكد فيه أن «سلطة 25 يوليو» فشلت في أن تطرح بديلًا سياسيًا ومجتمعيًا مؤكدًا رفضه التضييق على الحرية السياسية، واعتماد الأساليب المباشرة والملتوية للتصدي للحق في التظاهر، وتمسكه – أي الحزب – بالحق في التظاهر الذي فرضته دماء الشهداء، رافضًا كل أشكال ومبررات التراجع عنه.
على جانب آخر وبالرغم من قدر العنف الذي قوبلت بها التظاهرات يوم أمس، يمكن القول إن تحرك 14 يناير 2022 قد نجح في إعادة الاحتجاجات إلى المربع السياسي وعنوانه «الرفض الصريح للانقلاب» و«العمل على إسقاطه» بعد أكثر من أسبوعين من الانحسار في المربع الحقوقي الذي فرضه الانقلاب باختطاف نائب رئيس النهضة نور الدين البحيري.
«الشعب يريد إسقاط الانقلاب».. خطوات ما بعد الجمعة 14 يناير
مع نهاية اليوم يمكن القول إن وحدات الأمن نجحت في تفريق المحتجين، لكنها فشلت في الحفاظ على قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي حاول الانقلاب الظهور به في أكثر من مناسبة، وكشفت – وحدات الأمن – للتونسيين وجهه الحقيقي، كما زادت من إصرار الأطراف المناهضة له على مواجهته، وهو ما أكده محمد القوماني في تصريحه لـ«ساسة بوست»؛ إذ اعتبر أن «التقاء المعارضين للانقلاب في تحرك 14 يناير 2022، له ما بعده»ـ مؤكدًا أن «ما حدث من التقاء، هو مقدمة لاجتماع سياسي، قد ينتهي بتكوين جبهة ديمقراطية تتصدى للانقلاب، وتبحث عن البدائل المطلوبة لإنقاذ الاقتصاد المهدد، وفتح أفق الخروج من الأزمة السياسية» على حد تعبيره.
وعلى ما يبدو فهناك مساع حقيقية لتوحيد المعارضين للانقلاب، حتى تتفادى سلبيات حالة التشتت التي طغت عليهم الفترة السابقة، فقد سبق تحرك يوم أمس، لقاءات جمعت مبادرة «مواطنين ضد الانقلاب» و«مبادرة اللقاء الوطني للإنقاذ» وقد أسفرت هذه اللقاءات عن توقيع اتفاق مشترك يقضي، بضرورة إيجاد صيغة للعمل المشترك، وتوسيع التشاور مع مختلف القوى السياسية والمدنية في أفق الإعداد لندوة استشارية وطنية.
وجدير بالذكر أن التحركات المناهضة للانقلاب في تونس تتواصل منذ 25 يوليو 2021، ويزداد يومًا بعد يوم عدد الأطراف المنخرطة في هذا الحراك، فيما يواصل قيس سعيد بدوره سياسة الهروب إلى الأمام، مُصرًا على توظيف مؤسسات الدولة لخدمة أجندة تثبيت أركان الانقلاب.
وبالنظر إلى محصلة يوم أمس يبدو أن الأطراف المناهضة للانقلاب قد فهمت أن لا سبيل إلى الانتصار إلا عبر تكوين جبهة سياسية قوية بهدف وحيد هو «إسقاط الانقلاب». ومن الواضح أيضًا أن عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها تونس حاليًا، سيعجل بخروج المتضررين منها، خاصة في الجهات الداخلية والأحياء الشعبية؛ لتكون لحظة الالتقاء بين الجبهة السياسية والجبهة الاجتماعية هي لحظة الانتصار على الانقلاب وإسقاطه.