في حين كان مقتل المدنيين حجر الزاوية في الحملة الأمريكية لكسب القلوب والعقول في العراق خلال حرب 2003- 2011، أصبح الآن الأمر الذي لا يرغب أحد في الحديث عنه، ورغم العدد الهائل من الغارات الجوية التي استهدفت مناطق في العراق وسوريا فإن الإدارة الأمريكية لم تعترف رسميًّا بوقوع حالة واحدة من حالات قتل المدنيين بالخطأ، وتتحدث على الدوام عن “تحقيقات جارية”، وقد بدأت قوات التحالف بغاراتها منذ 23 سبتمبر 2014 ، نفذت الولايات المتحدة 85% منها حسب أحدث الأرقام الصادرة من القيادة المركزية.
يتحدث مدافعون غربيون عن حقوق الإنسان عن كون ضحايا التحالف من المدنيين لا يلقون الاهتمام الكافي، لعدم وجود جهات رسمية تدافع عنهم وترفع دعاوى قانونية بأمورهم، وأن الأشخاص في موقع السلطة لا يضغطون على القوات الأمريكية بشأن مسألة سقوط الضحايا، الكونغرس مثلًا، وأن الدعاوى القليلة الموجودة حاليًا ويتم التحقق منها يتم تصنيفها على أنها غير صحيحة حتى الآن، كما أن الغموض يحيط بمعظم تصريحات وأفعال القيادة المركزية الأمريكية.
ويُذكر أن العراق وسوريا شهدا أكثر أعوامهما دمويّة في عام 2014، وتذكر الإحصائيات أن عدد الضحايا المدنيين من قبل غارات التحالف كان يشكل نسبة 2% من الضحايا العراقيين ضمن فترة محددة من العام الماضي، رغم إنكار وزارة الدفاع الأمريكية المتكرر بشأن سقوط ضحايا في صفوف المدنيين.
أرقام تقريبية عن القتلى المدنيين الذين أسقطتهم غارات التحالف
العراق: يؤكد نواب عن محافظة نينوى، أن طائرات التحالف الدولي قتلت وأصابت عشرات المدنيين عندما قصفت الأسر الهاربة من مدينة “أسكي الموصل”، وفي 5 أكتوبر 2014 سقط 18 قتيلًا على الأقل عندما تم تفجير سوق في بلدة هيت في محافظة الأنبار، ومن سبتمبر حتى بداية ديسمبر 2014 وثّقت منظمة “بادي كاونت” مقتل 100 مدني على الأقل بواسطة غارات التحالف، وحسب مصادر من وزارة العدل العراقية فإن “هناك 16 ضربة جوية نفذت غالبيتها طائرات أمريكية خلال الشهرين الماضيين جاءت في مواقع مدنية وأحياء سكنية مختلفة في مناطق شمال وغرب العراق”.
سوريا: حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فإن 118 مدنيًّا سوريًّا قُتِلوا على الأقل منذ بدء الغارات الجوية للتحالف في 23 سبتمبر العام الماضي، وكان آخرها غارة نفذتها في محافظة حلب أدّت إلى مقتل أفراد 6 أسر على الأقل، ما مجموعه 52 من المدنيين دفعة واحدة من بينهم 7 أطفال.
ويسبقها كذلك القتلى المدنيين الذين وقعوا في محافظة دير الزور، حيث استهدفت الغارات آبار نفط تقع في ريف دير الزور الشرقي والغربي، ما أدّى بالنهاية إلى استشهاد وإصابة العشرات من المدنيين الذين يعملون في مجال النفط أو الموجودين في البلدات هناك، وأيضًا حادثة قصف السجن في مدينة الباب التابعة لمحافظة حلب، والتي كانت أسوأ حالة إصابة للمدنيين في فترتها.

خريطة التوزيع العسكري في العراق وسوريا, المصدر: بي بي سي
من يقوم بالإحصاء؟
تكمن صعوبة بالغة في الإحصاء والتوثيق خصوصًا أن غالب الغارات تستهدف مناطق تابعة للتنظيم والذي لا يتيح عمومًا فرصة لوجود الصحفيين أو نشطاء يوثّقون الحدث، وتؤكد “الهيومان رايس ووتش” ومنظمة الصليب الأحمر صحة الإفادات القائلة بسقوط المدنيين المترافق مع الغارات.
تتولى منظمات حقوق الإنسان توثيق الانتهاكات، ومن أبرز من يقوم بهذه المهمة حاليًا هو “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الذي يتخذ من بريطانيا مقرًّا له، وهو منظمة حقوقية تأسست عام 2011 اكتسبت السمعة لتقاريرها المتوازنة بشأن الحرب الأهلية في سوريا، تقوم بتوثيق الانتهاكات التي تحصل في سوريا، وإصدار دراسات وأبحاث وتقارير بشكل دوري، ويستخدم المرصد شبكة من السكان المحليين لتتبع الوفيات بين المدنيين والمقاتلين في سوريا.
وفي العراق أبرز من يتولى إحصاء الضحايا منظمة “البادي كاونت”، وهي منظمة مستقلة تقوم بهذه المهمة منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003، ويرفد ذلك كله وكالات الأنباء العراقية وبيانات الناشطين السوريين.
الرئيس الأمريكي أوباما: “سوف نقوم بما يلزم لمحاربة الجماعات الإرهابية”.
مصالح الحكومتين العراقية والسورية
تستفيد كل من الحكومتين العراقية والسورية من غارات التحالف، وتريدان للحملة الأمريكية أن تستمر وقتًا أطول بعد لكونها تصبّ في مصالحهما من أوجه عدّة، وذلك حسبَ ما صرّح به مسؤولون أمريكيون لصحيفة الديلي بيست، وربما لهذا السبب لن تضغط أيًّا منهما على الولايات المتحدة لإنهاء الغارات أو إجراء تعديلات بشأنها، ويتحدث كريستوفر هارمر، المحلّل من معهد لدراسة الحرب في واشنطن أن الحكومة العراقية تريد الحصول على كل ما يمكن للتحالف أن يزوّدها من الأسلحة ومن الدعم بالغارات الجوية على حدّ سواء، أما الانتقاد الوحيد الذي خرج من نظام الأسد تجاه الغارات هو ما قاله الأسد في إحدى مقابلاته من أنّ الغارات وحدها غير كافية للقضاء على الإرهابيين وأنهم يجب أن يتخذوا الجيش السوري شريكًا في عملياتهم.
كما أنه تُعدّ الحكومتان في كلّ من العراق وسوريا مسؤولتين عن قتل مدنيين بنسب تزيد بكثير عما سببته ضربات الولايات المتحدة، وهذا ما يجعلهما أيضًا من غير المرجح أن تقومان بـإثارة مخاوف أو قلقلة بشأن مقتل مدنيين.
لن تضغط الحكومتان العراقية والسورية للحصول على إجابات، لأنهما تستفيدان من الغارات الجوية ولأنهما متورطتان بدماء المدنيين بأرقام مضاعفة.
ففي العراق، تتحمل قوات الأمن العراقية والميليشيات المتعاونة معها مسؤولية سقوط مئات القتلى هذا العام وحده، وفقًا لمنظمة الـ”بادي كاونت” العراقية، أما في سوريا، يُتّهم نظام الرئيس بشار الأسد بمقتل عشرات الآلاف من المدنيين منذ بدء الحرب هناك في عام 2011، وللسببين أعلاه فإن حكومتي سوريا والعراق لا تضغطان على القوات الأمريكية أو الحكومة للحصول على إجابات بشأن القتلى أو إجراءات تخفف الضحايا في الضربات القادمة.
التبرير الأمريكي بشأن سقوط الضحايا
حسب أنتوني كوردسمان، المحلل العسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: تستهدف الغارات الجوية في الغالب مناطق تابعة للتنظيم، وهم لا يرتدون زيًّا رسميًّا يمكن تمييزهم به دون شك، ويستخدمون دروعًا بشرية لحماية أنفسهم، ويسيطرون على مناطق مليئة بالمدنيين.
تعود أغلب حالات إصابة المدنيين لضعف في المعلومات الاستخبارية أو المعلومات المتعلقة بالمواقع المستهدفة.
ولتخفيف حالات سقوط القتلى من المدنيين فإنه يتوجب على الولايات المتحدة أن تجعل قواتها تقترب من القتال أكثر، كالحالة الأفغانية حين كانت تستخدم قوات خاصة من المشاة تُدعى JTACs، والتي تتواصل مع المسؤولين عن الضربات الجوية.
ويقتصر وجود القوات الأمريكية على قواعدها في العراق، بينما وجودها في سوريا ليس خيارًا مطروحًا من الأساس، ولذلك فإن الجيش الأمريكي يعتمد على شركائه من قوات الأمن العراقية والكردية، وكذلك المعلومات التي يتم جمعها بواسطة طائرات من دون طيار والتي تحلّق باستمرار لتحديد مواقع القوات العدوة أو الصديقة أو تُعلِم عن وجود مدنيين، أما في سوريا لم يتواجد شريك مناسب للتعاون معه بعد، وتدريب “المتمردين” السوريين لا يزال في مراحله الأولى، وأيًّا كان من إجراءات فإن سقوط القتلى المدنيين يبقى واردًا على الدوام.
دخان يتصاعد من مدينة “كوباني” السوريّة بعد غارة أمريكية
التبرير الأمريكي لعدم الاعتراف الواضح بسقوط الضحايا أو التعويض
رغم تأكيدات وزارة الدفاع الأمريكية المتكررة عن أن الضربات دقيقة بطريقة تقلل الوفيات بين المدنيين وأنهم ملتزمون بالتحقيق بالشبهات المثارة حول قتل المدنيين، فإن الموقف من ما يُسمّى عادة “أضرار جانبية” أي سقوط القتلى والإصابات يبدو موقفًا لا مباليًا حتى وقت قريب، كما أن القيادة المركزية الأمريكية المشرفة على العمليات العسكرية في المنطقة ليست شفافة حول كيفية إجراء التحقيقات على الإطلاق.
في نهايات ديسمبر 2014 مثلًا، أعلنت القيادة عن كونها تحقق بشأن مزاعم حول حادثتي سقوط ضحايا، وأنه تبين عدم وجود قتلى في النهاية، لكن القيادة لم تحدد أي حادثتين هما، متى حصلتا وأين، في العراق أو في سوريا، وكل ما بيّنته أن الحادثتين تتضمنان أقل من خمسة ضحايا على أية حال.
يقول مسؤول في البنتاغون لصحيفة الديلي بيست: “من المستحيل بالنسبة لنا أن نعرف نهائيًّا إذا كان قد قُتِل مدنيون في غارة. ونحن نفعل كل ما بوسعنا للتحقيق. لا نقوم بالغارات حين نعتقد بوجود مدنيين في موقع الضربة، ولكننا لا يمكن لنا أن نحصل على صورة مثالية عما يجري”.
أعتقد أن الجمهور يفضل أن يؤمن أنه بإمكاننا إسقاط القنابل دون أن نضر بأحد.
ويصرّح مارلا كينان، العضو المنتدب في مركز (CIVIC) المتخصص بمتابعة سقوط الضحايا من المدنيين في الصراعات: “إذا كنت لا تعرف المعلومات الأساسية جيدًا، على سبيل المثال من الذي يقوم بإسقاط القنابل وأين، يصبح من الصعب جدًا التحقق من صحة أو نفي المزاعم المتعلقة بالضرر اللاحق بالمدنيين”.
أما الميجر كورت كيلوج، المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية فيقول: “ليست لدينا في الوقت الحالي أي معلومات تعضد المزاعم القائلة بأن الضربات الجوية للتحالف أسفرت عن خسائر بين المدنيين”، ويضيف مسؤولون في البنتاغون في وقتٍ آخر أنه لا يوجد وسيلة لتأكيد أيّ شيء، و”نعترف بأن أحدًا لن يعرف على الإطلاق كم عدد الذين قُتِلوا”.
تعود صعوبات التحقق حسب ما تصف جهات غربية لـعدم وجود قوات برية أمريكية لتقييم الأضرار الناجمة عن الحملة الجوية، ولكون الغارات أحيانًا تحصل في مناطق لا يتمكن سكانها من التواصل مع منظمات إنسانية، أو في مناطق تابعة لتنظيم داعش حيث لا يتواجد صحفيّون بشكل عام أو نشطاء قادرون على التوثيق، كما أن الظرف في العراق وسوريا لا يسمح بإجراء أشكال التحقيق التقليدي من قبيل مقابلة الشهود وفحص المواقع.
مؤتمر صحفي للبنتاغون للتحدث عن الضربات الجوية في سوريا.
القانون الذي يخوّلهم بعدم التعويض
لا تخطط الولايات المتحدة لمنح تعويضات للمدنيين الذين قتلوا في غارات جوية في العراق وسوريا، حسب ما علِمت صحيفة الـ”فورين بوليسي”، حتى ولو تمّ توثيق حالات مؤكدة من سقوط مدنيين وبالرغم مما قد تم توثيقه بالفعل من قِبَل منظمات عالمية.
تتم معالجة الطلبات وفقًا لقانون “المطالبات الأجنبية”، وهو قانون يعود لقرابة الـ72 عامًا لحالات ظهرت في الحرب العالمية الثانية، وينصّ هذا القانون على عدم منح الجيش تعويضات للمدنيين الذين قُتِلوا بصورة قانونية في ساحات المعارك، ويتضمن ذلك غير المقاتلين الذين تم قتلهم عن طريق الخطأ أو المدنيين المحاصرين ضمن مواقع مشروعة للاستهداف، مثل الأهداف العالية القيمة.
وتقول ليتا تايلور، باحثة الإرهاب في هيومن رايتس ووتش إنه: “على الرغم من أن الدول ليس لديها التزام قانون دولي للتعويض عن ما يُسمّى بـ”الأضرار الجانبية”، فإن تلك هي الخطوة الصحيحة أخلاقيًّا واستراتيجيًّا”، حيث إن فشل الولايات المتحدة وحلفائها بالاعتراف بمسؤوليتهم عن الرقم الكبير للضحايا المدنيين الذين سقطوا في أفغانستان ولّد مآسي من ردّات فعل عنيفة للأفغان وأحيانًا انضمامهم للجهات المناوئة للولايات المتحدة مثل “طالبان” و”القاعدة”.
ويُذكر أن لدى الولايات المتحدة سجلًا حافلًا بالتسبب بقتل المدنيين في غاراتها، ومن ذلك ما وجدته التحقيقات عن سقوط عشرات القتلى من المدنيين أثناء الحرب الجوية الليبية عام 2011، وفي الحرب على أفغانستان.
علامات
الحرب, الضحايا المدنيين, العراق, الغارات الجوية, حقوق الإنسان, داعش, سوريا, عربي, عسكري, قوات التحالف