وسط الأخبار التي تتابعت على المواقع الإخبارية، ومنصات التواصل الاجتماعي، حول خروج آلاف الجزائريين للتظاهر في الشوارع والميادين العامة من أجل منع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من المُشاركة في الانتخابات الرئاسية في أبريل (نيسان) القادم، ورد خبر اكتسب خصوصية كُبرى، وحقق أعلى القراءات، إذ أُعلن من خلاله نزول المُناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد للشوارع، دعمًا لمطالب المتظاهرين.
نزول المناضلة الجزائرية الشهيرة، رفع آمال الجزائريين في التخلص من ترشّح رئيسٍ لم يخرج عليهم في خطاب لمرضه الشديد، وأعاد إلى الذاكرة مفارقات المسارات بين بوحيرد وبوتفليقة، بعدما جمعتهما سنوات النضال ضد المستعمر الفرنسي، قبل أن تُبدل السياسة والسلطة مساراتهما إلى هذا النحو الذي سنراه في التقرير التالي.
بوحيرد وبوتفليقة.. كيف تزاملا في ساحات النضال وكيف افترقا؟
كحال آلاف الجزائريين، ممن نشأ بعيدًا عن موطنه الأصلي، متأثرًا بظروف الاستعمار الفرنسي، قرر الشاب آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، في عام 1956، التخلي عن الدراسة وهو في سن السادسة عشر، من أجل الانخراط في صفوف جيش التحرير، مُعبأً بروح نضال أبناء موطنه ضد المستعمر الفرنسي.
جميلة بوحيرد، المصدر: lesoirdalgerie
لم تكن هذه الروح المُعبأة منفصلة عما سمعه بوتفليقة من والدته عن قصص النضال وحكاوي الأبطال ممن قرروا مُجابهة المُستعمر الفرنسي، ليبدأ مسارًا نضاليًّا عبر الانضواء تحت راية جيش التحرير، شاغلًا مناصب عسكرية وسياسية في مرحلة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، أبرزها قيادة العمليات العسكرية، وقيادة الأركان بالغرب، ثم بهيئة قيادة الأركان العامة؛ حتى نالت بلاده الاستقلال، وكتب لنفسه تاريخًا بوصفه أحد أبطال الاستقلال؛ ضامنًا بهذا الدور موقعًا مؤثرًا في مرحلة ما بعد الاستقلال.
وعلى النهج ذاته، سارت حياة جميلة بوحيرد، التي نشأت لأب جزائرى مثقف ليبرالى، وأم ذات أصول تونسية من مدينة صفاقس، لتمارس الأخيرة دورًا مُحفزًا داخلها للنضال ضد المُستعمر؛ فتقرر جميلة الانخراط في جبهة التحرير الجزائرية؛ مؤدية دورًا بطوليًّا في كونها حلقة الوصل بين قائد الجبل في «جبهة التحرير الجزائرية»، ومندوب القيادة في المدينة، ياسيف السعدي، والذي أعلن عن طريق المنشورات الفرنسية في المدينة، مكافأة تقدر بمبلغ 100 ألف فرنك ثمنًا لرأسه.
تزاملت جميلة بوحيرد، هي وعشرات الزملاء مع الشاب العسكري المغوار، الذي يُشهد له بكفاءته العسكرية وقدراته القتالية، ليشتركا سويًّا في ساحات النضال ضد المستعمر الفرنسي، قبل أن ينتصرا، ويبدآ مسارات جديدة في الحياة السياسية، مُعززين هذا الدور بشرعية النصر وأدوارهما البطولية. إذ تحول كلٌّ من جميلة بوحيرد وعبد العزيز بوتفليقة لقصة من أكبر قصص النضال ومجابهة الاستعمار.
في أعقاب هذا النصر والاستقلال، بدأت جميلة بوحيرد عملاً سياسيًّا، رئيسًا لاتحاد المرأة الجزائري، فيما بدأ بوتفليقة رحلة صعود طويلة في دهاليز السلطة؛ بدأها بنيل العضوية بأول مجلس تأسيسي وطني، وانتخب سنة 1964 عضوًا باللجنة المركزية لـ«حزب جبهة التحرير» وعضوًا بالمكتب السياسي، وأصبح أحد أبرز الوجوه السياسية في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، فأسندت إليه وظائف تنفيذية عليا عديدة.
لم يمر على عمل جميلة بوحيرد عامان فقط، في منصبها رئيسة لاتحاد المرأة الجزائرية، حتى قدمت استقالتها، احتجاجًا على الظروف الإدارية والتقاليد الحكومية الراسخة التي تفرضها على المناضلة الرافضة لأي خنوع، وتعود من جديد لساحة النضال ضد رؤساء الجزائر وسياستهم التي تخرج عن الإجماع الوطني، غير عابئة بأي تقرب أو ورسالة ود يخاطبونها بها، بينما استمر الشاب الجزائري آنذاك، في رحلة الصعود نحو السلطة متماهيًا معها، ليصعد من منصب إلى منصب، مبتعدًا في ذلك عن أغلب أصدقاء النضال الذين زاملوه في أصعب الفترات التي مرت على بلده.
مترجم: وثائق فرنسية: بوتفليقة وراء اغتيال كريم بلقاسم وحاول الانقلاب على بن بلة
تلا ذلك انقلاب الرئيس السابق هواري بومدين، ليصعد إلى منصب الرئيس، ومعه رفيقه الأقرب عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان ظله في الداخل والخارج. ليُقررا معًا الانقلاب على أصدقاء النضال والثورة، بطرق متنوعة طالت آنذاك الزوج السابق لجميلة بوحيرد، المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، الذي ترافع عنها أمام التهم التى وجهتها المحكمة الفرنسية لها، إذ قرر بومدين بالاشتراك مع بوتفليقة الدفع بأصدقاء الجزائر من الأوروبيين والمجاهدين والسياسين للمغادرة.
كان زوج جميلة السابق، المحامي الفرنسي والمُساند للثورة الجزائرية، أحد الوجوه المُبعدة، لتضطر جميلة إلى التنقل بين باريس والجزائر، من أجل المشاركة في تربية ابنيهما مريم وإلياس، مُبقية اسمه على منزلها الذي تسكنه، كي يظل حاضرًا دومًا رغم الإبعاد القسري.
خلال سنوات رئاسة بومدين؛ لم يستثمر بوتفليقة ثقة الرئيس الجزائري فيه، للتدخل في الإبقاء على زوج جميلة؛ خصوصًا بعدما تحول لمهندس السياسة الداخلية للنظام والخارجية أيضًا؛ إذ لازم الرئيس في أغلب زياراته للخارج، نظرًا إلى إجادته لغات أجنبية، ومساعدته الرئيس في الترجمة.
خان بوتفليقة عهوده.. فخرجت جميلة عن صمتها
مع بلوغ عبد العزيز بوتفليقة منصب رئيس البلاد؛ لم تكن جميلة قد أجهرت عن موقف مُعلن تجاه صعوده للرئاسة؛ إذ اختارت الصمت والغياب الطوعي عن التفاعل مع سياسات الرئيس الجزائري، الذي زاملها في ميادين النضال، لتُقرر الانزواء في منزلها، تراقب من بعيد تطورات المشهد السياسي.
كان الموقف الوحيد الذي خرجت فيها من عزلتها، حين أصيبت بمرض السرطان، في عام 2009، لتبعث برسالة للرئيس الجزائري تقول فيها إن: «المنحة التي تتقاضاها قليلة، ولا تسمح لها بإجراء عمليات جراحية كانت في أمس الحاجة إليها». ولما تجاهلتها الحكومة الجزائرية، بعثت جميلة برسالة للشعب الجزائري؛ معلنةً أنها لا تملك ثمن العلاج، وأن الأنفة تمنعها من قبول عروض حكومات صديقة للتكفل بمصاريف علاجها. لتصدر حملة استكتاب شعبية نجحت في توفير مبلغ يتجاوز ثمن علاج بوحيرد بكثير، فبادرت جميلة بواسطة هذ المبلغ إلى إنشاء صندوق لرعاية «المجاهدين الحقيقيين» (قدامى مقاتلي الثورة الجزائرية) الذين يعانون الفقر والتهميش.
الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة على كرسي متحرك
لكن رد فعل الحكومة الجزائرية لم يقف عند تجاهل دعوة جميلة التي عدتها إحراجًا لها، بل خرجت الأوامر لوسائل الإعلام الموالية للنظام بإطلاق حملة تخوين، اتهمتها فيها بالعمل مع جهات مُعادية لإطلاق دعوات التبرع من أجل الإساءة الى صورة الجزائر في المحافل الدولية. وتجدر الإشارة إلى أن تجاهل الحكومة الجزائرية المناضلة القديمة، جاء مخالفًا لأفعال الحكومة الجزائرية سابقًا، حين تجاوبت مع سيدات آخرين مثل أنيسة بومدين، أرملة الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وحليمة بن جديد أرملة الرئيس الجزائري الراحل الشادلي بن جديد؛ وتكفلت الحكومة بنفقات علاجهما لسنوات طويلة داخل باريس.
سنوات طويلة مرت على حُكم بوتفليقة، حتى نال لقب أطول رؤساء الجزائر حكمًا منذ استقلالها، عابثًا في مواد الدستور من أجل الاستمرارية في الترشح، وساعيًا في الوقت نفسه، إلى استثمار شعبية زميلته السابقة بطرق مختلفة من أجل كسب شرعية الاستمرار. إذ تباينت هذه الطرق بين نقل رسائل لها عن طريق وسطاء بالظهور لدعم الرئيس الجزائري، أو إنتاج سلطات بلادها ما أسمته «فيلمًا دعائيًّا يزعم أنه يحكي سيرة حياتي ومساري النضالي».
والذي سعت السلطات الجزائرية من خلاله إلى توظيف شعبية جميلة بوحيرد لدعم النظام؛ وهو ما ثارت ضده المُناضلة الجزائرية ببيان حمل عنوان: «كفى تزويرًا للتاريخ، كفى تشويهًا لذاكرة الشهداء»؛ قالت فيه إن هذا الفيلم المزمع إنجازه من قبل السلطات الرسمية يندرج ضمن «مسعى تلفيقي لم يعد أصحابه يخجلون من أي شيء، ويهدف الى إعادة تفصيل التاريخ على مقاس المنتحلين والمزوّرين، في استراتيجية تريد توظيف حرب التحرير الوطني، بشكل مغرض، من أجل منح شرعية زائفة للنظام الحاكم».
كسرت جميلة بوحيرد صمتها، مع بداية ولاية بوتفليقة الرابعة، حين تسرب داخلها شعور بالإحباط العام، لتثور من جديد، وتستعيد وقائع نضال ضد رئيس يرغب في البقاء الأبدي بالسلطة؛ وتُصدر بيانًا متحدية فيه التعليمات للجميع بالصمت، وتُهدد بالاعتصام في الشارع إن أصرّ أنصار بوتفليقة على التمديد له في السلطة، احتجاجًا على إعادة ترشيح الرئيس الجزائري المُقعد، لولاية رئاسية رابعة، عام 2014، كما طالبته في رسالة مفتوحة بتحقيق من جانب لجان قضائية مُستقلة عن «الفساد والمحسوبية والرشوة».
سعت السلطات لاحتواء بوحيرد عبر رسائل عن طريق وسطاء أو بشكل مُباشر، كما فعل عبد المالك سلال، المدير السابق الحملة الانتخابية لبوتفليقة، حين خاطبها أمام تجمع جماهيري في قاعة حرشة حسان بالعاصمة، لإعلان برنامجه الانتخابي المخصص للمرأة الجزائرية، قائلاً بمُفردات عامية، «جميلة بوحيرد نتمنى لها الشفاء وإن شاء اللّه تولّي معانا فالصف».
أمام مواقف بوحيرد المناوئة للسلطات الجزائرية، دفعت الأخيرة بوسائل الإعلام الموالية لها لإطلاق حملات تهدف لتشويها بين الحين والآخر، كان أبرزها تلك التى تزامنت مع ذكرى الثورة الجزائرية، حين أشاعت بوفاتها على صفحاتها وشاشاتها، في محاولة لصرف الأنظار عن الاحتفاء بها بوصفها واحدة من أبطال هذه الثورة.
وامتد خط التضييق على استقامته؛ حتى جعل من جميلة بوحيرد شخصًا ممنوع الاحتفاء به داخل بلادها، وصدرت أوامر كذلك للبعثات الدبلوماسية الجزائرية في الخارج بعدم المُشاركة في أي احتفال أو احتفاء بها في الدول العربية، مثلما حدث في لبنان؛ حين دعاها موقع «الميادين»، لتكريمها في احتفالية موسعة، فتغيب السفير الجزائري في لبنان، علاوة على تعميم بعدم تغطية هذه الاحتفالات التي تنظمها الدول العربية لها.
وفي المشهد الأخير لها وسط المتظاهرين قبل أيام، أبت جميلة بوحيرد، إلا أن تستمر في مسيرتها المؤيدة لحقوق الجزائريين، ومطالبهم بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، فخرجت مع أبناء شعبها للتظاهر ضد ترشح بوتفليقة على منصب الرئاسة من جديد؛ مُسجلة في ذاكرتها التاريخية موقفًا جديدًا يُضاف لسجلها الحافل في التاريخ الجزائري.
يُصلِّي خلف التلفاز خوفًا من الإرهاب! جمال ولد عباس رئيس الحزب الحاكم الجزائري