يبحث الإنسان بشكل عام عن الغذاء الذي لا يلبي احتياجاته الجسدية فقط، بل الذي يمنحه صحة أفضل وأضرارًا أقل. لذلك فدائمًا ما تثار أسئلة مثل: هل الكربوهيدرات جيدة؟ هل تناول البيض مناسب؟ ما نسبة الكوليسترول في اللحوم الحمراء؟ هل الأفضل أن أتناول طعام نباتي؟
بشكل مستمر هناك جدل كبير حول التغذية الصحية، والنظم الغذائية المثلى التي يجب أن يتبعها الإنسان. على سبيل المثال قبل بضعة أشهر ظهرت في الصحف عناوين تقول: «إن البيض يمكن أن يتسبب لك في نوبات قلبية. تخيل أن تكون على وشك تناول البيض على الإفطار وأنت تتصفح الأخبار على هاتفك لتجد هذا الخبر أمام عينيك!».
البيض والكوليسترول.. تغيّر المفاهيم
البيض هو مثال كلاسيكي. في الماضي كان ينظر إلى البيض على أنه حزمة غذائية صحية من البروتينات والفيتامينات، وهو بداية مثالية لليوم، لكن في الستينات استيقظ العالم على مشكلة مخاطر الكوليسترول. أصبح البيض، الغني بهذه المادة الدهنية، مستهجنًا وغير مستحب على موائد الإفطار.
لكن منذ حوالي 20 عامًا جرت عملية تنقيح لأفكارنا حول الكوليسترول؛ إذ لم تعد كميته في طعامنا مهمة؛ لأنها لا تؤثر فعليًا على مستويات الكوليسترول بالدم، وبالتالي صحة القلب. صفار البيض يحتوي على الكثير من الكوليسترول بالفعل، لكن الدراسات العلمية أظهرت أن معظم الكوليسترول في أجسامنا يتكون داخل الكبد، ولا يأتي من الكوليسترول الذي نتناوله.
ببساطة اكتشفنا أن الدهون المشبعة والدهون غير المشبعة الموجودة في نظامنا الغذائي هي التي تحفز الكبد لتخليق الكوليسترول، وليس الكوليسترول الموجود بصورة طبيعية في طعامنا. في السنوات التي تلت ذلك، أصبح من الجيد تناول البيض مرة أخرى. لكن للأسف أظهرت الدراسة الأخيرة التي ذكرناها في بداية التقرير عكس ذلك مرة أخرى: أن الكوليسترول في البيض سيئ بالنسبة لنا.
هذا الأمر أصبح محيرًا، حتى أنه في بعض الأحيان نتساءل عما إذا كان ينبغي لنا أن نصدق أي شيء نقرأه عن الطعام والتغذية. ربما يبدو الأمر مبالغًا فيه، لكنها ردة فعل تبدو عقلانية أيضًا.
علوم وأبحاث التغذية.. عيوب لا يمكن تجاهلها
يقول عدد متزايد من العلماء الآن: إن علوم التغذية بها عيوب كبيرة لدرجة أننا لا نستطيع حتى أن نثق بالنصائح الأساسية المسلم بها حول الطعام، مثل تناول الكثير من الخضروات وتجنب الدهون المشبعة من أجل صحة أفضل. هؤلاء العلماء يقولون إنه في ظل حدود من المنطق السليم، فإنه لا يهم ما نأكله. ولكن هل يمكن أن يكون هذا صحيحًا حقًا؟
بالتأكيد تستغل وسائل الإعلام «الدراسات العرضية» التي تتوصل لنتائج غير عادية، لكن يجب أن ننتبه هنا إلى أن هذه الدراسات ربما لا تمثل المجال الأوسع. في بعض الأحيان تكون هذه هي الاستجابة الأولى لعلماء التغذية عندما يحاول أحد الصحافيين سؤالهم بلباقة عما إذا كان مجالهم غير متماسك.
يوجه لويس ليفي، رئيس قسم التغذية في الصحة العامة في إنجلترا، حديثه إلى الصحافيين والإعلاميين: «يجب أن تكون حذرًا في تعميم نتائج دراسة واحدة، والقول إن هذا هو كل شيء. عليك أن تنظر إلى الأدلة الأوسع». هذا يعني أن طريقة التناول الإعلامي لها عامل في هذا التضارب الحادث؛ لأنهم لا يتناولون نتائج الدراسة العلمية في سياقها أو النظر للنتائج الأشمل.
مشكلة تضارب نتائج الأبحاث
لكن على الرغم من أن التغطية الإعلامية المضللة جزء من المشكلة، إلا أن عيوب هذا الحقل تزداد عمقًا. هناك كميات هائلة من الأبحاث حول النظم الغذائية تنشر كل عام، وتمول الكثير من الحكومات المعنية بشأن ارتفاع مستويات السمنة ومرض السكري هذه الدراسات.
ولكن حتى في صفحات المجلات العلمية المحترمة، نجد نتائج متضاربة حول الكثير مما نأكله ونشربه من البطاطاس ومنتجات الألبان واللحم الأحمر وعصير الفاكهة وحتى الماء. هذا ليس مجرد نقاش حول التفاصيل. على سبيل المثال، هناك صدع كبير يقسم هذا المجال حول ما إذا كان يجب علينا تناول طعام قليل الدسم أو منخفض الكربوهيدرات.
تنبع العديد من المشكلات من حقيقة أن الغالبية العظمى من الدراسات الغذائية هي من ذلك النوع الذي يجري تنفيذه بسهولة. بكلمات أخرى، هذا يعني وجود عملية «استسهال» من قبل العلماء في طريقة وآلية تنفيذ الدراسة. من المرجح بالطبع أن تؤدي هذه الآلية إلى استنتاجات خاطئة.
من بين أبرز أنواع البحوث والدراسات، ما يطلق عليه اسم «التجربة العشوائية المضبوطة». هنا يطلب الأطباء بشكل عشوائي من نصف الأشخاص تحت الدراسة تناول دواء جديد، في حين يتناول النصف الآخر حبوبًا وهمية تبدو تمامًا مثل الحبوب الحقيقية، لذلك لا أحد يعرف من يأخذ الحبوب الحقيقية.
إذا انتهى المطاف بأولئك الذين يتناولون الدواء الحقيقي في صحة أفضل، فهناك فرصة جيدة لأن يكون الدواء فعالًا. هذا النوع من الدراسة يصعب القيام به فيما يتعلق بمجال الغذاء. قليلون يوافقون على تغيير نظامهم الغذائي لسنوات بناءًا على لعبة النرد، وسيكون من الصعب الحفاظ على سر ما يتناولونه.
لذلك بدلًا عن ذلك يراقب علماء التغذية عادة ما يأكله الناس عن طريق مطالبتهم بملء نظامهم الغذائي اليومي، ثم تتبع صحة المشاركين، لكن المشكلة الكبيرة في هذه الدراسات «الرصدية» هي أن تناول بعض الأطعمة يتقاطع جنبًا إلى جنب مع السلوكيات الأخرى التي تؤثر على الصحة.
على سبيل المثال يميل الأشخاص الذين يتناولون ما ينظر إليه عمومًا على أنه حمية غير صحية من خلال المزيد من الوجبات السريعة، إلى الدخول في أنماط الحياة غير الصحية بطرق أخرى، مثل التدخين وممارسة التمارين الرياضية بشكل أقل. وعلى العكس من ذلك فإن تناول الأطعمة الصحية المفترضة يرتبط بارتفاع الدخل، مع كل الفوائد والمزايا التي يحملها هذا الدخل المرتفع.
تُعرف هذه السلوكيات الأخرى بـ«المربكات» أو «confounders»؛ لأنها في الدراسات القائمة على الملاحظة والرصد يمكن أن تقودنا إلى نتائج مضللة. على سبيل المثال حتى لو لم يؤثر العنب البري على معدلات الإصابة بالنوبات القلبية، فإن الذين يتناولون المزيد منه سوف يتعرضون لنوبات قلبية أقل، وذلك ببساطة لأن تناول العنب البري هو علامة على ازدهار الطبقة الوسطى وارتفاع الدخل.
يعني هذا أن الذين يتناولون العنب البري هم من الطبقة المادية الأعلى، وبالتالي فإن عندهم قدرة أكبر على ممارسة أنماط الحياة الصحية سواء في التغذية أو الرياضة، وبالتالي تكون صحتهم القلبية أفضل. هذا رغم أنه لا علاقة مباشرة على الإطلاق بين العنب البري وبين صحة القلب.
يستخدم الباحثون تقنيات إحصائية لمحاولة إزالة الآثار المضللة للمربكات. لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين أي من الأمور المربكة التي يجب تضمينها؛لأن النتائج تختلف باختلاف كل عامل منها.
أحد الباحثين من كلية الطب بجامعة هارفارد درس آثار تناول فيتامين E كمكملات غذائية. استخدم مجموعة كبيرة من البيانات من المسح الوطني لفحص الصحة والتغذية في الولايات المتحدة. واعتمادًا على أي مزيج من 13 مربكًا، يمكن أن يبدو أن تناول هذا الفيتامين إما أنه يقلل من معدلات الوفيات، أو لا يكون له أي تأثير على الإطلاق، أو حتى يؤدي إلى زيادة الوفيات.
هذه النتائج المتضاربة تظهر أن الباحثين يمكنهم الحصول على أي نتيجة يريدون الحصول عليها من بياناتهم، وذلك باختيار أدوات التحليل الخاصة بهم، ليحصلوا في النهاية على النتائج التي تناسب نظامهم الغذائي المفضل، سواء كان قليل الدسم أو قليل الكربوهيدرات، نباتي أو متوسطي.
التحيز في النشر.. سبب آخر للكارثة
أحد الأخطاء التي تسبب المشاكل في مجال التغذية هو التحيز في النشر. فالدراسات التي تظهر نتائج مهمة من المرجح أن تنشر أكثر من تلك التي لا تقدم نتائج غريبة. الصحافة تبحث دائمًا عما يثير القارىء في النهاية. إذا كانت هناك دراستان عن علاقة اللحوم الحمراء بالسرطان، على سبيل المثال، وأظهرت دراسة واحدة فقط أن هناك علاقة، فمن المرجح أن يتم نشر تلك الدراسة، ويتم تجاهل الأخرى.
من بين ما يقرب من مليون بحث منشورة في مجال التغذية، هناك جزء صغير فقط، ربما بضع مئات، من التجارب العشوائية الكبيرة وذات النوعية الجيدة. أما الباقي فهو عبارة عن دراسات مراقبة أو تجارب صغيرة أو سيئة التصميم أو مقالات رأي أو مراجعات تلخص نتائج الأوراق الأخرى، مع كل عيوبها المحتملة.
وما الذي تجده هذه البضع مئات من التجارب العشوائية؟ عندما تختبر هذه التجارب التوصيات الغذائية المستندة إلى دراسات قائمة على الملاحظة، فإن اتباع تلك الاستراتيجيات لا ينجح أبدًا في إطالة عمر المريض. هذه الدراسات إما تتوصل إلى أنه لا يوجد تأثير أو تلاحظ أن هذه الدراسات الأخرى التي تنبأت بنتائج ما هي صغيرة جدًا بحيث لا تكون ذات معنى عمليًا ولا يمكن تعميم النتائج.
لنأخذ فكرة أن تناول حبوب الفيتامين يزيد من الصحة العامة للسكان. اقترحت العديد من الدراسات القائمة على الملاحظة أن تناول مكملات الفيتامينات المختلفة أبقى الناس أكثر صحة. ولكن عندما اختبرت هذه الأفكار في التجارب العشوائية، فإن الحبوب لم يكن لها أي تأثير أو ربما جعلت في الواقع الناس يموتون بشكل أسرع.
كما ثبت أن مكملات زيت السمك ليست لها فائدة في التجارب السريرية، على الرغم من عشرات الدراسات الرصدية التي تدعي عكس ذلك. ومع ذلك، لا تزال النصائح الغذائية في العديد من البلدان، بما في ذلك أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، هي أن الناس يجب أن يتناولوا الأسماك الزيتية بانتظام.
حتى العناصر الأساسية في النصيحة الغذائية تفشل اليوم في أن تترجم إلى فوائد لا لبس فيها عند إجراء الاختبارات الكبيرة عليها. لا توجد تجارب كبيرة تظهر أن الحبوب الكاملة والفواكه والخضار أو الألياف تؤثر على الوفيات أو النوبات القلبية أو معدلات السرطان.
فوضى الدهون والكربوهيدرات
ثم نأتي إلى الفوضى المتعلقة بالنصائح الخاصة بالدهون. تشير إرشادات وطنية عديدة في بلدان مختلفة إلى أنه يمكننا الوقاية من الأزمات القلبية عن طريق تجنب الدهون المشبعة، الموجودة أساسًا في اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان. لكن مرة أخرى، لم تثبت تجربة واحدة عشوائية أن القيام بذلك ينقذ الأرواح.
المشكلة تكمن في أن التجارب لا تستمر لفترة طويلة جدًا، بينما يستغرق النظام الغذائي سنوات للتأثير على الصحة. والناس لا يلتزمون بالضرورة بالنظام الغذائي الذي يوصي به الباحثون. وعلى الرغم من أنهم لا يستطيعون إظهار أن تقليل الدهون المشبعة ينقذ الأرواح، إلا أن بعض التجارب أوضحت من الناحية النظرية أن تقليل الكوليسترول في الدم يخفض النوبات القلبية.
ومع ذلك فإن الأدلة متناقضة من تجربة إلى أخرى. لا يوجد أي مساعدة حتى من التحليلات الوصفية، والتي تجمع بين نتائج تجارب متعددة لمحاولة الحصول على صورة شاملة. وكإضافة إلى الالتباس الواقع بالفعل، نفتقر إلى فهم واضح لكيفية تأثير الكوليسترول في الشرايين، مما يجعله غير موثوق به كعلامة حيوية لصحة القلب.
ثم هناك جنون خفض تناول الكربوهيدرات. تظهر بعض التجارب أن الناس يمكن أن يفقدوا الوزن وعكس عملية الإصابة بمرض السكري عن طريق تناول نظام غذائي منخفض الكربوهيدرات، ولكن يحتوي على نسبة عالية من الدهون المشبعة. كما أنه لا يرفع مستويات الكوليسترول، على عكس ما تقترحه الإرشادات الغذائية الحكومية.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن تناول الكربوهيدرات المنخفضة لم يظهر في تجارب إطالة العمر الافتراضي أكثر من الوجبات الغذائية التقليدية قليلة الدسم. إن تناول الكربوهيدرات المنخفضة ليس هو الطريقة الوحيدة لفقدان الوزن أو السيطرة على مرض السكري: يمكن للناس أن يفعلوا الشيء نفسه في نظام غذائي منخفض الدهون.
هذا هو السبب في أننا سوف نسمع في أحد الأيام أن الخبراء يوصون بتناول كميات قليلة من الكربوهيدرات، وفي اليوم التالي، سوف تطلب منا مجموعة مختلفة من الخبراء تجنب اللحوم وتناول نظام غذائي قليل الدسم من النبات. إن أبسط تفسير لهذه الفوضى من التناقضات هو أنه لا توجد حقائق أساسية تنتظر اكتشافها. كل ذلك مجرد ضجيج عشوائي في البيانات.