إذا سألت أي شخص عما إذا كان يشعر بمشاعره أم لا؟ سيجيبك: «نعم، بالتأكيد أشعر بها»، فنحن نعرف شعور الفرح وشعور السعادة عندما نختبرهما؛ وبالمثل ندركُ شعور الحزن لحظة الضيق، والبكاء، والنحيب، لكن لعلم النفس والدراسات العلمية رأي مغاير؛ إذ يقولان: إن «الشعور بالمشاعر صفة تكتسب عبر الزمن، وتحتاج قدرًا من التدريب، فمنذ الطفولة عمد المجتمع والأهل إلى تجنيبنا الشعور بمشاعر معينة، مثل الغضب، والقلق، والتوتر، والحزن الشديد، إلى الدرجة التي قد تجعلنا أحيانًا منفصلين تمامًا عن مشاعرنا.
للغوص في هذا الأمر بشكلٍ مفصل نصحبك عزيزي في رحلة عبر الشعور للتعرف خلالها على ماهية المشاعر بالنسبة إلى علم النفس، وما إذا كنا نتجنب بعضًا منها فعلًا، وكيف يمكننا استرداد مشاعرنا إن كنا منفصلين تمامًا عن ذواتنا الداخلية؟
الانفصال عنها يبدأ في سنٍ صغيرة.. ما هي «المشاعر»؟
للمشاعر تأثير هائل في السلوك البشري؛ إذ غالبًا ما يجري تعريف العاطفة في علم النفس أنها حالة معقدة من الشعور ينتج عنها تغيرات جسدية ونفسية تؤثر في الفكر والسلوك، وهناك الكثير من النظريات تفسر الشعور، سواء من الناحية الفسيولوجية، أو من خلال علم الأعصاب، أو الإدراك، وعلم النفس التطوري.
حسب النظرية التطور اعتمد الإنسان على التواصل مع مشاعره للتعامل مع البيئة المحيطة، سواء لتجنب الخطر، أو الإقدام على الحياة؛ وقد ساعدته «المشاعر» في البقاء على قيد الحياة، وسمحت له بالتكاثر، والتكيف مع البيئات المحيطة في عصورٍ مختلفة، فالعواطف والحب قادته إلى تكوين رفقاء وصداقات وساعدت في التكاثر، كما كان الشعور بالخوف دليلًا ومرشدًا له لتجنب المخاطر.
أما نظرية «جيمس – لانج» عن العواطف، فتقول إن منبهات البيئة الخارجية تثير ردات فعلٍ وفسيولوجية؛ إذ تمثل المشاعر وفق هذه النظرية ردات فعل فسيولوجية على الأحداث، ومن الأمثلة على ذلك أنك إذا كنت تسير في غابة، ورأيت دبًا يتجه نحوك ستظهر ردة فعلك الفسيولوجية في صورة ارتجاف وتسارع في دقات القلب؛ ما قد نفسرها شعوريًا بأنه شعور الخوف.
بعد نظرية «جيمس – لانج»، طرح عالم النفس والتر كانون في العشرينات نظرية تختلف في بعض جوانبها عن نظرية جيمس ولانج، ثم في الثلاثينات طورها عالم النفس فيليب بارد لتغدو معروفة بنظرية «كانون – بارد». وتقول هذه النظرية إن التجربة الجسدية والنفسية للعاطفة تحدثان بالتزامن، وأن أحدهما لا يسبب الآخر.
لكن بصرف النظر عن اختلاف نظريات «الشعور»؛ يمكننا ملاحظة أنَّها تضع ما نختبره من الاستجابات الفسيولوجية في إطارٍ معرفي من خلال الإدراك، وهو التفسير المعرفي الذي يستخدمه الناس لتسمية تلك المشاعر والتفريق بين شعورٍ وآخر، مثل «هذا خوف، وهذا غضب، وهذا حب»، لكن يبقى السؤال: متى ننفصل عن مشاعرنا تلك التي من المفترض أنها حاضرة بوضوح في الجسد والنفس معًا؟ ولماذا هناك انفصال أصلًا؟
علاقتنا مع الشعور تبدأ منذ فترة الطفولة، حين نبدأ بالتعرف على العالم المحيط بنا عبر مشاعرنا وحدها، لكن في هذه الفترة ذاتها يبدأ متولي رعاية الأطفال عملية تعديل سلوك الطفل، وللأسف تجري تلك العملية، في كثيرٍ من الأحيان، بطريقةٍ خاطئة؛ إذ عوضًا عن مساعدة الطفل في التعرف على مشاعره وإدراكها؛ إذ يبدأ متولي الرعاية بنهي الطفل عن الشعور بمشاعرٍ معينة، وكأن الشعور بها أمرٌ خاطئ.
من الأمثلة على ذلك عندما يشعر الطفل بالغضب، أو الخوف، أو القلق، يبدأ أولياء الأمور في نهي الطفل عن الشعور بتلك المشاعر بجملٍ بسيطة مثل: «لا تغضب»، «لا تخف»، بدلًا عن البحث عن جذر المشكلة التي جعلت الطفل يشعر بالغضب أو الخوف.
هذا النهي البسيط عن الشعور يجعل الطفل في تلك السن يتعامل مع مشاعره وكأنها خطأ يجب تجنبه، ومن هنا يبدأ الانفصال عن المشاعر في سنٍ مبكرة، وكأننا نبرمجه عن طريق التعليمات بما يجب عليه أن يشعر، أو لا يشعر به.
(الانفصال عن المشاعر يبدأ منذ الطفولة)
فإذا كانت المشاعر هي البوصلة التي يتعرف بها الأطفال على العالم المحيط ويختبرونه من خلالها؛ فإن الانفصال عن المشاعر وتجنبها يبدأ في المرحلة ذاتها، ومن أسبابه الإهمال أو إساءة المعاملة من متولي الرعاية، فحينها نتعلم في طفولتنا أن تجنب «الشعور» وسيلة من وسائل تجاوز الصعاب ومواصلة الحياة.
ويحتاج الأطفال إلى التواصل العاطفي من مقدمي الرعاية، ويعلنون عن ذلك بطرائقَ شتى، لكن عندما يحصلون في المقابل على الإهمال والمعاملة السيئة، يخلق ذلك ألمًا لدى الطفل يجعله يربط التورط العاطفي بالألم؛ وعندئذٍ يتوقف الطفل عن توقع التواصل العاطفي، ويظهر ذلك في صورة العجز عن إظهار المشاعر أو مشاركتها، إلى جانب مشكلات السلوك.
من التليفزيون للتدخين.. هكذا اخترعنا وسائل إلهاء لتجنب «الشعور بمشاعرنا»
في مقالٍ لها على موقع «سيكولوجي توداي» تشير أستاذة علم النفس في «جامعة كاليفورنيا» فيكتوريا بيكنر إلى أن الشعور بمشاعرنا لا يأتي بشكلٍ طبيعي، لكننا نتعلمه، وفي رأي بيكنر أن الانفصال عن المشاعر يجعلنا عاجزين عن معرفة أنفسنا بعمق؛ ما يُجردنا من بوصلتنا الداخلية التي تعيننا على التصرف بحكمة أثناء اختيار أفعالنا.
وبحسب بيكنر تؤثر العاطفة في السلوك، فهي ما تقود ردات أفعالنا تجاه الأحداث، لكن للأسف عادةً لا يلحظ الشخص المنفصل عن عاطفته هذا الانفصال؛ وذلك لأننا عادةً ما نتجنب المشاعر السلبية، وليس الإيجابية.
وتنقسم المشاعر برأي بينكر إلى نوعين: مشاعر إيجابية تتعلق بالفرح والسعادة والمتعة، وهذه عادةً ما تكون ظاهرة وواضحة؛ ومشاعر سلبية تتعلق بالخوف، والشعور بالتهديد، والغضب، والألم؛ وبحسب الدراسات فإن المشاعر السلبية ترتبط لدى الأسلاف بالشعور بالخطر؛ إذ تطورت لتكون بمثابة جهاز إنذارٍ داخل الجسد يدرك التهديدات التي تحيط بأهدافنا واحتياجاتنا الأساسية.
وتحفّز تلك المشاعر السلبية عند اختبارها الرغبة في تجنب المواقف التي تُشعرنا بالتهديد، وبالتالي تحفز السلوك الإنساني تجاه الهروب، لكن في عصرنا الحالي لم يعد هناك دببة تهاجمنا في الغابات، ونسعى للهرب منها لتجنب الخطر، فقد تغيرت تلك التهديدات عبر الزمن، فصارت اليوم مواقف قد نختبرها في حياتنا اليومية، لكن المخ يفسرها على أنها مخاطر يجب الهرب منها كما لو أننا ما زلنا نعيش في الغابة.
(المشاعر السلبية)
تقول فيكتوريا بيكنر إن البشر اخترعوا الكثير من طرائق الإلهاء لتجنب الشعور بمشاعرهم، فنحن نلجأ لمشاهدة التلفاز لإلهاء الانتباه، والتدخين رغبةً في الاسترخاء، ونستخدم ألعاب الفيديو لتخدير الذهن، والأفلام الإباحية لتخفيف التوتر، وتضيف: «نحن نأكل ونشرب بنهمٍ، ونتعاطى المخدرات ونبقي أنفسنا مشغولين؛ كل هذا لتجنب الشعور بمشاعرنا الحقيقية».
فعندما نتحدث عن الحزن، عادةً ما نحاول تحليله فكريًا، عوضًا عن الشعورِ به، كما نحاول أن نفرغ غضبنا بالعنف والصراخ بدلًا عن الغوص في أعماقنا لاكتشاف السبب الحقيقي للغضب الذي عادةً ما تكون مسبباته إما الألم أو الشعور بالخزي أو العار، وبهذه الطريقة نسير طوال حياتنا في محاولة لتجنب شعورنا بالتهديد.
وفقًا لفيكتوريا يمكننا رصد تجنب الشعور هذا في لجوئِنا إلى تجنب المخاطر الوظيفية خوفًا من تهديدات المستقبل مثلًا، وتجنب الشعور بالفشل، شأننا شأن مَن يخشى مصارحة مَن يحب بمشاعره تجنبًا للشعور بالرفض، وفي علم النفس يُطلق على تجنب الشعور بالمشاعر غير المريحة هذه مسمى «التجنب التجريبي»، ويجري التعامل معه عن طريق جلسات علاج تساعد في الوصول إلى مرحلة قبول مشاعرنا كما هي.
لقد تطورت المشاعر لتساعدنا على اتخاذ قرارات فورية وردات فعل سريعة لما نتعرض له من مواقف، وقد يساعدنا عدم الشعور بمشاعرنا الحقيقية على المدى القصير في تجنب المشاعر غير المريحة، لكن على المدى الطويل كيف سنعرف ما نشعر به حقًا عندما نريد اتخاذ قرارات تتعلق بأهدافنا؟
قد تظن حينها أنك تتحكم بمشاعرك، لكن وفقًا لعلم النفس لا يمكنك التحكم بما هو خارج نطاق سيطرتك، فما تسعى لتجنبه من مشاعر، يبقى داخلك حبيسًا، لكن هذه المرة بدلًا عن أن تكون واعيًا بما تشعر به حقًا، تبقى تلك المشاعر الحبيسة في اللا وعي، وفي الوقت الذي تظن أنك تتحكم بها يقود اللا وعي سلوكياتك دون أن تدرك، والتي عادةً ما تكون نتاج التجنب والخوف.
لا تهرب.. كيف نتصل بمشاعرنا الداخلية مرةً أخرى؟
إحدى الحالات التي كانت تعالجها فيكتوريا بيكنر كانت سيدة تشعر بغضبٍ شديد لأن زوجها يتجاهلها وينغمس في ألعاب الفيديو لأوقاتٍ طويلة، كانت تلك السيدة دائمة النقد لزوجها نتاجًا لغضبها هذا، إلا أن الغضب والانتقاد قد جعله يبتعد عنها أكثر.
أثناء رحلة العلاج دعت بيكنر مريضتها للبحث داخلها عن السبب الحقيقي للغضب؛ في النهاية توصلت السيدة أن ما يغضبها حقًا هو الخوف من أن يتركها زوجها في النهاية، وبمجرد اتصالها مع شعورها الحقيقي الذي كان يغلفه الغضب كردة فعل، تمكنت السيدة من التواصل مع زوجها بشكلٍ أفضل، بعدما عبر كلاهما عن مشاعرهما الحقيقية التي كانت وراء تلك الفجوة التي نمت بينهما.
إذ كثيرًا ما تكون المشاعر السلبية مربكة وغامضة ويصعب التعبير عنها، فكيف يمكن إذًا أن نتواصل مع مشاعرنا وندمجها في حياتنا بطريقةٍ إيجابية؟ يبدأ ذلك بخطواتٍ بسيطة، مثل أن تسأل نفسك ما أن تتعرض لموقفٍ يحفز مشاعرك عن ماهية هذا الشعور، ولما ظهر في هذا الموقف بالتحديد دون غيره، ولماذا تشعر بهذه المشاعر الآن، وتمثل تلك العملية تدريبًا للتعرف عن المشاعر التي نختبرها وما وراءها حقًا؛ إذ تعد هي الخطوة الأولى للتعامل مع مشاعرنا بطريقةٍ صحية.
إذا لم تكن متأكدًا بما تشعر به حقًا تجاه أحد المواقف يمكنك التعرف على مشاعرك من خلال السلوك، إذ إن سلوكياتنا هي ردة فعل لما نشعر به داخليًا، حتى وإن لم نكن ندركه في حينه أو نعيه، فإذا أثار موقف ما غضبك على سبيل المثال، يمكنك التعرف على الغضب من خلال نبرة الصوت وتعبيرات الوجه، ومن ثم تحليل هذا الشعور، لمَ تشعر بالغضب الآن، وتجاه هذا الشخص بالتحديد.
بالاتصال مع مشاعرك وما يحفزها من مواقف، والتعرف عليها وإدراكها في نطاق الوعي، تستطيع حينها أن تفهم بوضوح مخاوفك تجاه هذا الموقف الذي أثار غضبك، وتصبح بالتالي أكثر اتصالًا بذاتك؛ ما سينعكس فيما بعد على سلوكياتك وعلاقتك مع الآخرين.
تتمثل الخطوة التالية في فصل تفسيراتك وتصوراتك عن الموقف أو الحدث نفسه؛ إذ غالبًا ما ترتبط المشاعر بتفسيراتنا للأحداث، وبناءً على تصوراتنا الخاصة عن الحدث أو الشخص، وبفصلِ هذا عن ذاك قد تكتشف حينها مثلًا أن تفسيراتك كانت قائمة على ردات فعل سريعة لا تتناسب مع حجم الحدث الأصلي؛ ما سيساعدك على اكتشاف منظور جديد لردود أفعالك العاطفية.
أما الخطوة الثالثة فتتعلق بالتعبير عن المشاعر، لقد أثرت الثقافة المحيطة في طريقة تعبيرنا عن مشاعرنا للآخرين، فنحن إما أن نعبر عن مشاعرنا مباشرةً لشخصٍ آخر أو نحتفظ بالمشاعر لأنفسنا ونحاول إخفاءها. لكن كيف تعرف أي السبيلين أفضل للتعبير عن المشاعر؟
يجب أولًا أن تدرك تأثيرات الثقافة المحيطة وما إذا كان لها دخل بما تشعر به من مشاعر أو بطريقة تعبيرك عنها، حاول أن تحدد الخيارات التي أمامك للتعبير عن مشاعرك، وعواقب كلٍ منها عليك، ستتمكن بهذه الطريقة من اتخاذ القرار المناسب بشأن ما تشعر به من مشاعر، وأنت مدرك للعواقب، والأهم من ذلك أنك مدرك ماهية الشعور الذي تشعر به.