كان الاقتصاديون القدماء يعتقدون أن المجتمع الرأسمالي ينقسم فيه العمل إلى عمل منتج، وآخر غير منتج؛ حيث يندرج تحت العمل غير المنتج :رجال الكنيسة، والأدباء، والفلاسفة، والممثلين والموسيقيين، والراقصات، وبالطبع اللصوص والمحتالين، وأن هؤلاء كلهم يعيشون على جزء من كد البشر الآخرين المنتجين، سواء بطرق يسمح بها القانون، أو لا يسمح بها . إلى أن جاء كارل ماركس بكتابه الأهم “رأس المال”، والذي اشتمل على دحض لهذا التصور الكلاسيكي، فقد رأى أن كل عمل يمكن تخيله في المجتمع هو عمل منتج، حتى العمل الإجرامي، فالمجرم لا ينتج فقط جريمة وإنما ينتج معها الشرطي الذي يقبض عليه، وينتج المحامي الذي سيدافع عنه، وينتج المثقف الذي سيحلل الجريمة في الصحف ويتقاضى أجرًا على ذلك، وينتج حكايات وروايات صادقة ومبالِغة؛ لنرويها عن الجريمة، فتؤنس وقتنا وتعزز علاقاتنا بمن نروي لهم وتدحض الملل.
هل يبدو السؤال منطقيًّا؟
كلما تمدد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشَّام «داعش» وأحكم سيطرته وتبنى هجمات في أي مكان بالعالم، ترتفع مع تمدده ونجاحه أسهم الشركات الغربية العاملة بـ«صناعة الدفاع«، وتجني أرباحًا طائلة، شركات أمريكية مثل: ” Lockheed Martin” و “Raytheon” و”General Dynamics” و”Northrop Grumman” و “SOS International”، أو الشركة البريطانية “BAE Systems”، ومنذ الهجمات التي شنتها داعش على باريس “الجمعة 13 نوفمبر الجاري، قفزت أسهم تلك الشركات قفزة صاروخية، وحتى في الدولة المتضررة من الأحداث “فرنسا”، كانت شركات “صناعة الدفاع بها هي المستفيد الأكبر من الضرر؛ بنسبة ارتفاع في أسهمها بلغ 3%. كل هذا يجعلنا نتساءل هل كان ماركس على حق في حديثه عن أهمية دور المجرم في العالم الرأسمالي؟ ومن ثم نطرح التساؤل الأهم: هل الحكومات الغربية تكره «إرهاب داعش« وتتمنى السلام كما تقول؟
هل يكرهون «الإرهاب» حقًّا أم أن وجوده ضروري لنظامهم الاقتصادي كله؟
«إن الليبرالية الجديدة تصلي كل يوم من أجل أن تقع كارثة جديدة في العالم، بالخشوع نفسه الذي يصلي به المزارع من أجل أن تمطر السماء على أرضه التي تعاني الجفاف«.
هكذا تعبر نعومي كلاين في كتابها واسع الانتشار “عقيدة الصدمة” عن الأمر برمته، ولنا أن نتصور ذلك في ضوء معرفتنا بأن دعم الجيش الأمريكي صار أسرع الاقتصادات الخدمية نموًا في العالم.
لا تقع الفائدة الاقتصادية من الأزمات والكوارث على شركات “صناعة الدفاع” فحسب، فالانتعاش والأرباح سيصل للجميع، وستلحق بهم شركات الأغذية التي ستتعاقد مع الحكومات الغربية على تقديم خدماتها للجنود المحاربين ضد الإرهاب، وفي السلم الذي سيعقب الانتصار؛ سيأتي الدور في الربح على الشركات الهندسية لتقوم بإعادة الإعمار، وفي الحرب والسلم ستكون الشركات المساهمة بخدمات الطاقة هي رابح أكيد، بالإضافة إلى الشركات التي تقدم خدماتها في مجال استخدام الكاميرات الأمنية، وشركات بناء الأسيجة والجدران، ومصانع الخشب.
في ضوء ذلك كانت أنباء ظهور داعش وتوسعها تحمل أنباء سارة للغاية لشركات “صناعة الدفاع والأمن” الغربية، وحتى شركات الخدمات اللوجستية؛ في ظل التقلص الملحوظ بفرص العمل في أفغانستان، وقد كانوا محقين في التفاؤل، حيث تطورت الأحداث بالفعل، وازداد منذ ذلك الحين بسرعة كبيرة وفي وقت قصير حجم المتعاقدين مع الولايات المتحدة في دعم عملياتها ضد داعش، حيث تعاقدت أمريكا مع 6300 متعاقد من أجل دعم تلك العمليات داخل العراق، وذلك في حالة تنبه من الإدارة الأمريكية للفرصة الاقتصادية السانحة في تلك الأزمة، بحيث تخطط في الفترة القادمة للتعاقد مع المزيد من أجل تقديم خبراتهم في مجالات اللغة والأمن داخل السجون والنظافة وقيادة السيارات، ومن المتوقع أن تزداد تلك الأرقام بارتفاع ملحوظ في ظل الاحتمال الكبير باستمرار تلك العمليات ضد داعش، ربما حتى لسنوات.
هذا فضلًا عن الاستفادة السياسية الكبرى للولايات المتحدة؛ باستعادة وجودها العسكري في العراق، واستعادة مفاتيح السيطرة على السلطة هناك، وتوفير أوراق جديدة عند عقد المساومات مع إيران.
هذا كله يدفعنا إلى رؤية الأسئلة الحاضرة دائمًا حول لماذا لا ينتهي الغرب سريعًا من تحطيم داعش؟ وهل هو عاجز حقًّا عن ذلك لأسباب واقعية أم لا؟ ولمَ التلكؤ إذن؟ من زاوية جديدة، وهنا ينبغي التذكير أنه قبل مشاركة كل هذا العدد من الدول للهجوم على داعش وعلى رأسهم الولايات المتحدة -بكل ما تملكه من تفوق عسكري- ولم ينجحوا حتى الآن في القضاء عليها، استطاعت كتائب مسلحة سورية تفتقر إلى أبسط مقومات هذا التفوق، أن تلحق الهزائم بتنظيم الدولة الإسلامية في الشمال السوري من قبل، وهو ما يثبت أن داعش ليست قوة عسكرية عظمى كما يتم تصويرها من خلال عمليات المبالغة في قوتها وفي صعوبة القضاء عليها.
يكون المستفيد الأكبر عادة من الإرهاب هو الشركات الأمريكية، لكن الربح الكبير والانتعاش يطول أيضًا الشركات البريطانية والصهيونية والكندية والفرنسية، ومن المهم هنا ذكر أن فرنسا “الضحية التي تعرضت للاعتداء الأخير”، بلغت صادرات أسلحتها أفضل نسبة لها منذ 15 عامًا عام 2014، وكان المستوردون الرئيسيون هم جمهورية مصر العربية، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وهم من يمثلون أكثر الدول التي تتوقع حدوث عمليات إرهابية بها في المنطقة.
ليست فوائد متعلقة بالأرباح المادية فقط:
لا تقتصر أهمية «الإرهاب» ودوره الحيوي المفيد بالنسبة للغرب عند هذا الحد، فظهور الغرب الرأسمالي بمظهر الضحية، أمام تنظيمات تريد الارتداد إلى ما قبل الرأسمالية، يشكل استنفارًا داخل المجتمع الغربي ضد الأفكار الثورية، وضد رغبات الانعتاق من الرأسمالية وتجاوزها، ويعيد إنتاج مقولات من قبيل أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ ولن يعقبها ما هو أفضل منها، فإذا انهارت سيرتد العالم إلى الخلف ونعود إلى القرون الوسطى، ويظهر هذا الاستنفار من خلال الصعود اللافت للأحزاب اليمينية في الغرب، والتي تحمل واجهتها صورة العداء للهجرة والمهاجرين –المسلمون منهم على وجه الخصوص-، لكنها في جوهرها تحمل عداءً أهم، وهو عداء مع سياسات الديمقراطية الاجتماعية، ومع أي سياسة تحاول الاقتراب من رعاية مصالح الفقراء ولا تترك الحرية الكاملة لرجال الأعمال، ومع أي تصور عن تدخل الدولة من أجل إعادة توزيع الثروة أو توجيه الاقتصاد، وعداؤها الجوهري أيضًا مع سياسات حقوق البيئة، ومع الحركات النسوية الراديكالية.
وقد تنبه الفيلسوف السياسي الأمريكي “ليو شتراوس” إلى استفادة أخرى ممكنة، حين كان يعلم طلابه منذ أكثر من نصف قرن في جامعة شيكاجو: أن المجتمع الأمريكي الليبرالي المزدهر الذي يعيشون فيه، يحمل بداخله أسباب دماره، وأن ليبراليته تؤدي في سيرورتها إلى العدمية، وفقدان الهوية حيث لا شيء حقيقي وكل شيء مباح. وكان يعلمهم أن الطريقة الوحيدة لمقاومة ذلك هي: أن يؤسس الساسة أشباح أعداء وخرافات قوية وملهمة؛ ليؤمن بها المصابون بالعدمية، واعتبر “شتراوس” أن هذه الخرافات والأشباح بمثابة أوهام ضرورية، واعتقد أن الوهم الضروري في حالة الأمة الأمريكية هو إقناعها بأن لها مهمة مصيرة إليها؛ مهمة محاربة قوى الشر في العالم.
وداعش بذلك هي أداة ممتازة لإحياء الشعور الذي علم شتراوس تلاميذه أن واجبهم حين يكونون سياسيين هو إحياؤه بداخل المواطنين الأمريكيين، ومن الأهمية بمكان هنا معرفة أن أفكار “شتراوس” تلك، قد صارت فيما بعد القوة المشكلة لحركة المحافظين الجدد، التي هيمنت على الإدارة والقرار الأمريكي.
بماذا تخبرنا التجربة السابقة “تجربة القاعدة”؟
بعد سنوات من تجربة ما بعد (11سبتمبر2001) ، متمثلة في إعلان الحرب المقدسة الطويلة غير المنتهية على الإرهاب، لا يوجد شيء أكثر وضوحًا بها الآن من المكاسب والأرباح الطائلة التي حققها الاقتصاد الأمريكي، فقد مثلت أحداث البرجين فرصة لانعاش “صناعة الدفاع” لتبث الحياة في الاقتصاد الأمريكي المرتبك آنذاك، وقد اغتنمت إدارة بوش حينها الفرصة جيدًا، وحولت نفسها إلى زبون كبير لتلك الصناعة وتعاقدت معها على مهام متعددة مثل تقديم الرعاية الصحية للجنود والخدمات الغذائية، والتنقيب عن المعلومات بالمشتبه بهم، وباتت ميزانية قطاع “صناعة حماية الأمن القومي” على الصعيد العالمي تبلغ 200 مليون بليون دولار بعد أن كانت ميزانيته تكاد لا تذكر قبل عام 2001.
ويكفي لتوضيح الأمر ذكر تعليقات المحللين الاقتصاديين للأرباح الهائلة التي حققتها شركة “هاليبرتون” لخدمات الطاقة، التي يقع مقراها الرئيسيان في تكساس ودبي، في أكتوبر 2006، بقولهم: “إن الوضع في العراق أفضل من المتوقع”، وقد كان أكتوبر 2006، هو الشهر الذي وقع فيه قرابة 3709 قتلى مدنيين من العراقيين.
ارتباك اليسار الغربي .. خدمة جديدة يقدمها الإرهاب:

الفيلسوفة الماركسية “روزا لوكسمبورج”
الشعار الشهير للفيلسوفة الألمانية روزا لوكسمبورج الذي أطلقته منذ أكثر من قرن: “الاشتراكية أو البربرية” يمكن أن يقرأ اليوم بشكل مختلف، يُقرأ على نحو أنه إذا قمع النظام الرأسمالي وتآمر على الحركات التي تريد تجاوز الرأسمالية إلى الأمام، فسيظهر لها حركات وجماعات تريد أن تنعتق من النظام الرأسمالي بالعودة إلى ما قبل الحداثة، فإذا قمعت الولايات المتحدة محاولات الدمقرطة والتنمية في العالم الثالث، فستظهر لها بعد ذلك هجمات الحادي عشر من سبتمبر كارتداد بربري، كذلك ما دامت فرنسا قد قامت بقمع كومونة باريس قبل أكثر من قرن فستظهر لها تفجيرات باريس بعد ذلك، ولن تستطيع توقعها أو منعها وسيزداد الضحايا الأبرياء أكثر وأكثر، ولا أمل إذن لمسار الرأسمالية كمرحلة من مراحل التاريخ في أن تبقى وتشكل نهاية التاريخ كما تصف نفسها.
لكن هذا الشعار فضلًا عن رؤيته على هذا النحو صار يمثل إرباكًا كبيرًا بين صفوف اليسار؛ فحين تمر الرأسمالية بأزمة يتساءل اليساريون إذن: هل نتخذ مواقف راديكالية اغتنامًا لفرصة إحلال نظام أفضل عنها يكون اشتراكيًّا، أم نقدم خدماتنا العلمية والسياسية من أجل استمرار واستقرار الرأسمالية حاليًا لأن البديل لن يكون سوى بربري؟
تكون الإجابة الثانية حاضرة بقوة بين صفوف اليسار، وواحد من الممثلين لهذا الاتجاه كان “يانيس فاروفاكيس” والذي عبر عن خياره هذا قبل فترة من شغله لمنصب وزير المالية باليونان في مقال ترجم إلى العربية، ولقي تداولًا واسعًا، تحت عنوان “كيف أصبحت ماركسيًّا ضالًا“، والذي بين فيه أنه من أنصار الإجابة الثانية، وأن اليسار عليه مهمة متناقضة هي إيقاف السقوط الحر للرأسمالية الأوروبية حتى يشتري الوقت الذي يحتاجه لتشكيل بديلها، وقد رأى فاروفاكيس في بيانه أن الإجابة عنده واضحة على السؤال، حيث قال: “ليس من المرجح أن تؤدي أزمة أوروبا إلى ميلاد بديل أفضل للرأسمالية، بل الاحتمال الأكبر هو أن تؤدي لإطلاق قوى رجعية خطيرة قادرة على التسبب في حمام دم بشري وتقضي في الوقت نفسه على الأمل في أي خطوات تقدمية للأجيال القادمة”.
ومع كل هجمة «إرهابية» جديدة، من المتوقع أن يزداد بين صفوف اليسار من ينكص عن الراديكالية ويرى ضرورة استقرار النظام الرأسمالي حاليًا، وإلا سيكون البديل هو داعش وأخواتها!
ترى، هل من فائدة أعظم من هذا كله يستطيع أن يستفيد منها الغرب الرأسمالي بمؤسساته من داعش وتجعله لا يكره الإرهاب؟