تمتلئ كُتب التاريخ بالقصص عن المتصوفة، ودراويشهم، وبخاصة من المسلمين الذين عاشوا في أوج ازدهار الدولة الإسلامية، سواءً تحت ظل الحكم الأموي للأندلس (756 – 1031 ميلاديًا)، أو في ظل الدولة العباسية (1258 – 1517 ميلاديًا)، هؤلاء الذين هجروا طواعية حياة النعيم، مُتجردين عن كل مظاهر البذخ، كدراويش هائمين بحثًا عن الحكمة العُليا.

ووصل الإشراق الذي وصلت له رهافة أرواح هؤلاء إلى درجة أن نُسجت حولهم قصص قد تبدو أُسطورية. فإن كنت قرأ عن هؤلاء يومًا، أو شاهدت فيلمًا أو عملًا دراميًا يروي سيرتهم العجائبية، فلسوف يُذكرك فيلم «Doctor Strange» بهم بشكل أو بآخر.

مُخاطرة «دكتور سترينج»

الفيلم من إخراج «سكوت ديريكسون»، المشهور بفيلمي الرعب The Exorcism of Emily Rose»» و Sinister»» وله فيلم واحد في إطار الخيال العلمي، من بطولة «كيانو ريفز»، تحت عنوان «The Day the Earth Stood Still». وبالرغم من أن مشوار ديريكسون الفني كمخرج لا يتجاوز خمسة أفلام فقط، إلا أنه أخرج، وشارك في كتابة فيلم يُقدّم صورةً بصرية مُبهرة، وقصة ملحمية، تجمع الجانب الإنساني والروحاني والبطولي والوجودي في توليفة على قدر كبير من المخاطرة.

القصة المأخوذة عن سلسلة الرسوم الشهيرة (كوميكس) التي تحمل نفس الاسم، وتنشرها شركة «مارفيل»، المنافس العتيد لشركة «دي سي كوميكس»؛ تروي قصّة الطبيب الجرّاح الكبير والناجح والثري والممتلئ غرورًا، «ستيفن سترينج»، وهو شخصية تُذكّر بتوني ستارك في فيلم «آيرون مان»، إلا أن شخصية ستارك كانت مرحة.

تبدأ القصة، حين يكون سترينج في طريقه لحفل كبير، وأثناء قيادته لسيارته الرياضية الفارهة بسرعة جنونية، يتعرض لحادث، تُصاب فيه أهم أعضاء الجراح: أصابعه.

أجرى الجراح عملية جراحية في أصابعه، ورُكّبت له عشرات المسامير لتثبيتها؛ ما أحدث ضررًا في أعصابه، لم ينجح معه أي علاج طبيعي لإعادتها لحالتها الأولى.

يشعر سترينج، الذي يُؤدي دوره الممثل البريطاني بنديكت كومبرباتش، بأن حياته المهنية التي كانت في غاية التألق، قد تحطّمت للأبد، لذا فإنه يُحاول عبثًا أن يُصلح يده، ويُنفق لذلك كل ماله، لكن دون سبيل للنجاح، فيلجأ للاستدانة، فيما تُحاول صديقته «كريستين بالمر» (تؤدي دورها الممثلة ريتشيل ماك آدامز) لإقناعه بالاستسلام لقدره والتوجه لاستثمار حياته في شيء مفيد آخر، يشعر من خلاله أيضًا بالقيمة وتحقيق الذات، إلا أن عناد سترينج وكبرياءه يجعلانه رافضًا لذلك.

ووسط بحثه المستميت عن أية بارقة أمل، يعثر سترينج على شخص كان قد أصيب بشلل نصفي، استطاع أن يشفى منه. أخبره ذلك الشخص – الذي لم يعد بقدرته السير فقط، وإنما لعب كرة السلة بأحسن ما يكون، أن عليه التوجه إلى وسط جبال نيبال، والبحث عن مكان اسمه «قمر تاج»، أو «قصر قمر»، وهناك سيجد طريقًا للشفاء، مُحذرًا إياه من الثمن الغالي الذي سيدفعه مقابل الشفاء، وأن ذلك الثمن لن يكون مالًا.

الرحلة إلى الشفاء

على الفور سافر سترينج إلى نيبال بحثًا عم قمر تاج، لكنه يجد صعوبة في الوصول إليه، فلا أحد من سكان قرى وسط جبال نيبال يعرف شيئًا عن هذا المكان. يُفتش سترينج عن قمر تاج في جميع الأديرة والمعابد، عله يكون أحدها، لكن دون فائدة تُرجى.

أيّامٌ وهو يبحث طالت فيه لحيته، وأصبحت ملابسه أسمالًا بالية، وباتت هيئته كالدراويش الزاهدين عن الحياة. أخيرًا، وبينما هو يسأل الرائح والغادي عن قمر تاج، يسمعه شخصٌ ما يرتدي زيًا غريبًا أشبه بالأزياء التي قد تراها في فيلم يحكي عن بغداد أو سمرقند، في عصور الزهو الإسلامي، مع غطاء رأسٍ يُضفي ظلالًا غامضة على الوجه، طالبًا منه اتباعه ليدله على قمر تاج.

يتبيّن أن ذلك الشخص هو الدرويش «موردو» (يُؤدي دوره شايويتل إيجيوفر) إلى زقاق قديم يبدو وكأنه ينتمي للقرون الوُسطى، واقفًا أمام معبد كبير مُتألّق، فيهم سترينج بدخوله، لكن موردو يُشير إلى بابٍ صغير لبيت متواضع بجوار المعبد الكبير، فيحدق سترينج غير مُصدّق أن هذا هو قمر تاج المقصود.

قمر تاج ليس كما يبدو

في الداخل يظهر أن المبنى مُتسع للغاية، على عكس ما يوحي به شكله من الخارج، كما يبدو كمدرسة «بوذية» قديمة لتعليم الحكمة، أو مدرسة «عثمانية» لتعليم الخط والرسم، أو «سمرقندية» لتعليم الرياضيات والفلك، أو كل ذلك معًا في نفس الوقت.

يمتلئ المكان بأناس من مختلف الجنسيات يرتدون ملابس قديمة شديدة البساطة، والجمال والأناقة في نفس الوقت. تستقبل الكاهنة الكُبرى لقمر تاج (تُؤدي دورها الممثلة البريطانية «تيلدا سوينتون»)، سترينج، وتُعرّفه بالمكان، قائلة: إنهم يستقبلون فيه من يبحثون عن مداواة جراحهم ومعرفة أنفسهم، والباحثين عن الحقيقة الروحية. وتعرض له نماذج لكتب قديمة تُوضّح العلوم التي يُدرسونها ويمارسونها هي و«الأستاذة».

تُصيب سترينج خيبة أمل كبيرة، فقد أنفق كل ماله، بل استدان بحثًا عن العلاج لحالته، وفي النهاية ما يجده هي مجموعة من وصفهم بـ«المشعوذين»، وألمح لها، إلى أنها وزملاءها ليسوا إلا عصابة لا تمت بصلة للعلم، الشيء الوحيد الذي يُؤمن به سترينج.

وفي لحظة درامية مفاجئة، وفارقة في مسار الفيلم، يتلقى سترينج ضربة مباغتة على صدره من يد الكاهنة الكُبرى، لنشاهد طيف سترينج ينفصل عن جسده، مُنتقلًا إلى عوالم أخرى، قبل أن يعود إلى جسده الذي لا يزال في المعبد على هيئته.

يصاب سترينج بصدمة، ويتهم الأساتذة أنهم وضعوا له مخدرًا أو عقارًا هلوسة في الشاي الذي قُدّم له، فتشرح له الكاهنة الكبرى أنهم في هذا المكان، تعلموا كيف يحصدون طاقة الكون؛ لينتقلوا بها في عوالم أخرى موازية، وإلى بعد موازي تستطيع الروح فقط الانتقال إليه، كما يمكنهم استخدام هذه الطاقة للانتقال من مكان لآخر يبعد آلاف الأميال في لمح البصر.

وبعد أن تؤكد له كل ذلك بالتجارب العملية، تطرده الكاهنة الكبرى من المكان، بعد أن تشترط عليه للعودة، التخلص من غروره، والتحلّي بالتواضع.

يظل سترينج أمام باب قمر تاج لساعات طويلة، طارقًا الباب، متوسلًا كتوسل الدراويش على أعتاب الأولياء والصالحين، يطلبون العلم الظاهري واللدني. وبعد أن تتيقن الكاهنة من أنه أصبح جاهزًا، وقد كُسر غروره، تسمح له بالدخول.

العلم

يبدأ سترينج في التعلم والتخلص من أنانيته وغروره وتمسكه بعالمه المادي تدريجيًا، ويسمح له بالدخول للمكتبة العظمى، حيث كتب تعليم استخلاص الطاقة، والانتقال عبر المكان، والتحكم في الزمن، وتغيير الأبعاد، واستخدام التعاويذ في القتال.

ويفهم أن الكاهنة الكبرى مسؤولة عن عدة معابد كبرى في أماكن مختلفة من العالم، مثل لندن ونيويورك وهونج كونج، وغيرها من المدن الكبرى، تلك المعابد سويًا تقوم بحماية الأرض من مخاطر كيانات سوداء شريرة تقبع مترصدة للأرض في عوالم وأبعاد أخرى.

وهنا لا يُمكن بحال تجاهل واحد من أهم عناصر الفيلم، وهو المكوّن البصري المُبهر بمُؤثراته المُبدعة؛ حيث الكهنة وهم يُلقون بتعاويذهم، ويقومون بحركات تناسقية، ينتج عنها تجسيد بصري هندسي للطاقة، كخيوط من أشعة نارية مُتوهّجة، وكذلك انتقال سترينج والكهنة بين الأبعاد المُختلفة، والترتيب والتنسيق الهندسي المُعقد والممتع في نفس الوقت، فيما إبهار بصري، ربما لا يُضاهيه سوى ما كان في فيلم «Inception».

لا يشبع سترينج من اكتساب مزيد من العلوم والفنون، فهو لا يكاد ينام، يقضي كل وقته في التدريب والقراءة. بات الآن أفضل حالًا بعد أن تخلص من شعره الكث، وارتدى حلة نظيفة، مع لحية أنيقة وشارب منمق، في إشارة إلى أن العلم قد أضفى عليه ألقًا إضافيًا، كما أنه تعلّم كيف يتعايش مع يديه اللتين لا تزالان ترتعشان.

تصاعد الأحداث

تتصاعد الأحداث مع هجوم أحد التلاميذ المنشقين عن الكاهنة الكبرى على قمر تاج، هذا التلميذ هو «كاسيلياس» (يُؤدي دوره الممثل الدنماركي «مادس مكيلسن»)، والذي يقود مجموعة من تابعيه المنشقين أيضًا، للسيطرة على «العين»، وهي أداة تستخدمها الكاهنة الكُبرى، لفتح نوافذ على الأبعاد الكونية الأُخرى.

ويهدف كاسيلياس من وراء ذلك، فتح نافذة لكيان سودوي طاغي، للسيطرة على الأرض، وتحقيق الخلود الأبدي المزعوم لجميع سُكّان الأرض، حيث سينقلهم الكيان السودوي لبعد آخر لا يُصبح للوقت فيه أهمية.

في ذلك الهجوم، يتعرض الكثير من الكهنة والأساتذة للقتل على يد المنشقين، لكن الكاهنة الكُبرى، وبمساعدة «سترينج» و«مورود»، تستطيع صد المنشقين، الذين يُعاودون الهجوم مرة اُخرى؛ ما يؤدي إلى إصابة سترينج إصابة بالغة، ينقل نفسه على إثرها للمستشفى التي كان يعمل بها، لتساعده صديقته السابقة «كريستين» في إنقاذ حياته.

ووسط ذهولها لما يحدث، وظهور سترينج من العدم فجأة في هذه الملابس الغريبة، تلاحظ صديقته وحبيبته السابقة، أن الرجل الذي تركها بعد أن أهانها بغروره وغطرسته، قد تغير تمامًا، وأصبح أكثر تواضعًا وإشراقًا.

يعود سترينج مرة أخرى للمعبد؛ ليستعد مع أصدقائه الكهنة، للوقفة الأخيرة ضد الكيان الأسود وأتباعه الموهومين بخرافة الخلود كاسيلياس وتلاميذه.

ويمثل فيلم «دكتور سترينج» شريطًا سينمائيًا ممتع، واختراق حقيقي في الأداء البصري، يدفع المشاهد للتشوق لأجزاء جديدة من الفيلم، خاصة مع تقديمه جرعة روحانية، قد تبدو غريبة على الثقافة المادية التي عودتنا عليها السينما الأمريكية، بالرغم من أنّه تعاطى بدرجة ما، مع هذه الجرعة الروحانية بشكل مادي أيضًا.

وتجربة سترينج، ورحلته من البرج العاجي الذي كان يعيشه، إلى قمر تاج، مرورًا بفقدانه كل شيء ملموس، وانكسار نفسه، ليصل إلى الحكمة العُليا؛ قد تُعطي نموذجًا للمشاهدين للتخلص من ضغوط الحياة اليومية المُرهقة الغارقة في المادة والاستهلاك.

لمزيد من المعلومات عن الفيلم

تحميل المزيد