مشهد واحد هو الذي كان يطارد «مصطفى.س» بضراوة، كأنه لم يعش غيره، ولم يخض في حياته سواه، ذلك المشهد المتكرر القاسي حينما يقف أمام والده  ليحصل منه على ثمن الدروس الخصوصية خلال سنتي الثانوية العامة، لم يكن الأب يُعلِّق بأي شيء، ولكنّ الموقف بأكمله كان صعبًا على مصطفى، فهو يعرف جيدًا أن المال الذي يأخذه مقابل دروسه الخصوصية مقتطع من مصروفات البيت، أو مقتطع من المصروفات التي يجب أن تنفق على تجهيزات زواج أخته الكبرى.

كان المشهد الشهريّ هو كل ما نالته ذاكرة مصطفى – الذي أصبح الآن طبيبًا بسنة الامتياز – من الحياة، ولا يحلو لهذا المشهد أن يمر من أمام عينيه، إلا وهو يحمل كيس الدم في يده ليذهب به إلى معمل التحاليل بالمستشفى الجامعي التي يؤدي بها سنة الامتياز، تلك المهمة التي يُكلفه بها أستاذه دون أن يستطيع مصطفى الرفض، بالرغم من معرفته أنه يقوم بتلك المهام التي يرفض العمال بالجامعة القيام بها؛ لأنها تُكلفهم جهدًا إضافيًا، دون الحصول على مقابل مادي لها، وهو ما يُصطلح على تسميته بين مجتمع الأطباء باسم «الديرتي»، في إشارة لكلمة dirty الإنجليزية، أي «الأعمال القذرة» التي يترفع عن أدائها الأساتذة الكبار، أو الذين يعتبرون أنفسهم كبارًا.

Embed from Getty Images

أطباء مصريون يحاولون إسعاف ضحايا حادث مرور

قبيل هذه الحال بسنوات قليلة كان مصطفى قد استطاع أن يجبر نفسه على الكفاح بأقصى درجة حتى تمكن من الحصول على مجموع يؤهله للالتحاق بكلية الطب، وأخيرًا تحقق الحلم، ورد الدين للوالد المسن الذي خرج من الوظيفة الحكومية بعد سنوات طويلة من الخدمة بقليل من المال، كمكافأة لنهاية خدمته، الرجل الذي لم يحظ بأي تقدير على الجهد الذي قدّمه طوال حياته يمكنه أن يرفع رأسه الآن عاليًا، فقد أصبح «أبو الدكتور»، وستقف الناس بالطوابير أمام عيادة ابنه الذي سيصبح بالطبع طبيبًا ماهرًا يساهم في شفاء الناس من أمراضهم ويُخفف من أوجاعهم،، ولم يكن مصطفى ووالده يدريان ما هما مقدمان عليه.

حلم الغد ووجع اليوم

تعتبر كلية طب القصر العيني أول مدرسة قومية للطب في مصر، ألحقت بالمستشفى العسكري في «أبو زعبل»، وكان الفضل في ذلك إلى الطبيب الفرنسي أنطوان كلوت، الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب كبير أطباء وجراحي الجيش المصري عام 1827.

ثم تم إلحاق الكلية بباقي الجامعات المصرية؛ لتشمل جامعة الإسكندرية، وعين شمس، وأسيوط، والمنصورة، والأزهر- بنين، والأزهر- بنات فرع القاهرة، وجامعة الفيوم، والمنيا، وبنها، وبني سويف، وكفر الشيخ، والمنوفية، وجنوب الوادي، وقناة السويس، بجانب جامعة طنطا، والزقازيق، وسوهاج، وبورسعيد، ودمياط، وبعد ذلك أضيفت جامعة حلوان إلى تلك الجامعات، بداية من العام الجامعي 2016/ 2017.

هنا كلية الطب جامعة عين شمس، يمكنك الوصول إلى هنا بعد خوض معركتين: المعركة الأولى التي يعرفها الجميع، وهي بالطبع الحصول على مجموع في الثانوية العامة يُمكنك من أن تحقق حلم عائلتك وأقاربك وجيرانك ربما، بأن تصبح طالبًا مقيدًا في هذه الكلية، وطبيبًا في الغد القريب، لكن  ليس القريب جدًا لو شئنا الدقة، هذا الغد يبعد عنك ما لا يقل عن سبع سنوات، لكن بمجرد أن تخطو قدماك أرض هذه الكلية كطالب فيها، فإن هذا سيضمن أن الغد الذي تنتظره، سيأتي وإن تأخر، طالما ستظل على قيد الحياة، أما المعركة الثانية فهي أن تستقل المترو أو المواصلات على شراستهما حتى تصل إلى محطة الدمرداش العزيزة جدًا على أنفس أولئك الذين حصلوا على شهادة الثانوية العامة، وقُيدوا لتوهم كطلبة بكلية الطب.

Embed from Getty Images

أطباء أثناء إجراء عملية جراحية.

خلال عام 2016/2017 تم قبول 8 آلاف و125 طالب وطالبة بقطاع الطب بالجامعات المصرية الحكومية. تعتبر كلية الطب البشري من أعلى الكليات في هرم التنسيق الجامعي؛ فهي تتربع على قمته، وبالرغم من صعوبة الدراسة بها، وصعوبة تحصيل كل هذه الدرجات اللازمة للالتحاق بها، إلا أنها تعتبر من أكثر الكليات الجامعية، سواء الحكومية أو الخاصة إقبالًا، والأكثر كثافة بين كثير من الكليات، فوصل الحد الأدنى لتنسيق كلية الطب في عام 2016 إلى 98.17%، وفي عام 2015 إلى 98.2%، أما في عام 2014 فكان الحد الأدنى لكلية الطب 98.5%، وفقًا لشبكة الجامعات المصرية.

هنا كليات الطب.. حيث لا تعليم

مرّت الأيام الأولى سريعًا، ليست الأيام على وجه الدقة، ولكن ربما الأسابيع والشهور، ولنكون منصفين قليلًا يمكننا أن نقول سنوات، سنتان، فثلاث، فأربع سنوات، ولا تعليم حقيقي بعد. لا تستطيع «بسنت كمال» أن تشخص مرضًا، لا تسطيع وهى بعد وصولها إلى سنة الامتياز أن تقول إنها قد تعلمت أي شيء، وجدت نفسها تخرج من دوامة الدروس الخصوصية للثانوية العامة؛ لتدخل في دوامة الدروس الخصوصية بكلية الطب.

الآن ترى أن المدرجات والسكاشن تمتلئ حتى آخرها بالطلبة، ولا يمكنها حتى التنفس، وليس التعلم، لا تستطيع أن ترى الجثة التي يشرح الدكتور عليها؛ في ظل تكالب كل زملائها أمامها في محاولة مستميتة للرؤية، كان ما أمامها هو أن تحاول الحصول على الدروس الخصوصية؛ لتجد ما تكتبه في ورقة الامتحان، أما التعلم فحتمًا سيأتي مع الأيام، وبعد هذه المعاناة وجدت «بسنت» نفسها في سنة الامتياز، لتذوق مرارًا آخر لم يكن في الحسبان للحصول على اللقب الذي طال انتظاره، ومزاولة المهنة التي تمنعت أكثر بكثير مما استجابت.

تبلغ سنوات الدراسة بكليات الطب المصرية ست سنوات، بالإضافة إلى سنة الامتياز؛ والتي عادة تكون مرتبطة بمستشفى جامعي تعليمي لتدريب الطلاب، وتقديم الخدمة الطبية للجمهور، وإجراء الأبحاث العلمية، ويُعد عام الامتياز بمثابة «الرخصة» التي ستمكن طلبة كلية الطب من العمل كأطباء، وليس مجرد طلبة أو مساعدين للأطباء، وبدون إتمامها لا يحصل الطالب على تصريح مزاولة المهنة ليصير طبيبًا حقيقيًا.

«إحنا كنا بنذاكر ونحفظ وندخل الامتحانات، سواء الشفوي أو التحريري عشان نسمع اللي حفظناه، حتى امتحانات العملي كان المرضى هما اللي بيجاوبوا على الامتحان» هكذا يعبر مصطفى لـ(ساسة بوست) عما ناله من الدراسة بكلية الطب خلال ست سنوات.

Embed from Getty Images

أطباء أثناء عملهم بمستشفى.

يضيف مصطفى: «المهم إني فضلت أقول مش مهم التعليم، والمهم إني أنجح وأعدي، وبدأت أعشم نفسي إني خلال سنة الامتياز هأحاول  اتعلم أشياء أفضل بصورة عملية أكثر، لكن للأسف حتى الأمل ده مقدرتش أحققه؛ لأني اكتشفت أن أطباء الامتياز مجرد «بوابين»! يقومون باصطحاب المرضى من مبنى لآخر، فمثلًا يطلب الدكتور بعض الأشعة وتحاليل معينة من المريض؛ فيطلب من دكتور الامتياز أن يرافقه إلى المبنى الذي سيجري فيه الأشعة، وبعد إجرائها يقوم باصطحاب المريض ومعه نتائج تحاليله مرة أخرى للطبيب، بخلاف الذهاب بأكياس الدم لتحليلها في معمل التحاليل، فهذه إحدى وظائف طبيب الامتياز، بالطبع مهمة التوصيل دي للمرضى أصحاب الوسايط والمعارف – المتوصي عليهم – بخلاف المشاوير الخاصة بالأساتذة».

يتساءل مصطفى – بغض النظر عن التعب والإرهاق المضني الذي يناله من هذه المهام اليومية، عن الفائدة العلمية أو المهنية التي ستعود عليهم من تلك المهام التي يمكن أن يقوم بها أي عامل؟ وهل هم بهذا يؤهلون أن يصبحوا أطباء معترف بهم بعد عام الامتياز؟

يتفق مصطفى وبسنت أن تلك الأعمال التي يُكلفون بها في سنة الامتياز هي «dirty works» – على حد تعبيرهما – فمهمة توصيل المرضى وعمل المشاوير لتحاليل الدم ومعامل الأشعة هي مهمة يرفض حتى العمال بالكلية أو المستشفى القيام بها؛ معللين ذلك بأنها «مش شغلانتهم»، ولكنها من الممكن أن تكون «شغلانة» دكتور الامتياز من وجهة نظر أساتذته.

حلم التفوق في كلية الطب والتحول من صفة طالب إلى صفة طبيب مشهور، هو ما يداعب خيال وأحلام كل طلبة كليات الطب، ولا مجال للاستثناء هنا، إلى الحد الذي يدفع أحدهم للانتحار؛ لأنه ربما سيتأخر عامًا، أو لن يحقق النجاح المطلوب.

ففي عام 2010 شهدت مدينة أكتوبر مأساة بقيام طالب بكلية الطب بالانتحار أمام سوبر ماركت شهير بوسط المدينة، على الرغم من كونه في عامه الأخير بالكلية، حيث أصيب بحالة نفسية سيئة جراء خشيته من عدم الحصول على التقدير الأعلى في عامه الأخير كما تعود في الأعوام السابقة.

«الإهانة» كسبيل وحيد للتعلم

لا تتناسب أعصاب الطلبة المتعبة ولا أحلامهم العريضة ولا رغباتهم المحمومة في الحصول على لقب الطبيب مع ما يلاقونه من إهانات خلال عام الامتياز، الذي يتحولون خلاله إلى ما يشبه «الخدم» الذين يقضون حوائج أساتذتهم التي يحتاجون لها أثناء الكشف على حالات المرضى، بالإضافة إلى الإهانات المتكررة التي يتعرضون لها من قبل الأساتذة أمام المرضى.

«روحي هاتي الأمن» هكذا تلخص هدى – طبيبة بعام الامتياز بجامعة عين شمس – لـ«ساسة بوست» أسوأ موقف حدث لها على الإطلاق منذ بدء عام الامتياز. وأضافت هدى «كان هناك أحد المرضى بقسم علاج الإدمان، اكتشفت الدكتورة أن أخاه يحضر له المخدرات أثناء زيارته له، وهنا ثارت الدكتورة وأمرت بطرده من المستشفى، لكنه رفض الخروج بشدة، وهنا نظرت لي الدكتورة، وكنت أقف معها أنا واثنان من الأطباء المقيمين، ثم اختارتني من بينهما لتقول لي (روحي هاتيلي الأمن من على البوابة تحت)، ففوجئت واحمر وجهي خجلًا، وقلت لها سأبحث عن أحد الممرضات أو الفراشين ليحضر الأمن، لكنها قالت بحدة أكثر (روحي إنتِ هاتي الأمن)، خرجت طبعًا أحضر الأمن والدموع في عيني، لكن ما كان بيدي حيلة».

تقول وكيل نقابة الأطباء، الدكتورة منى مينا، لموقع طبيب مصر، إن طبيب الامتياز هو الطبيب الذي أنهى دراسته لمدة ست سنوات، والمفترض أنه في سنة التدريب العملي، وخلال هذه السنة يواجه هؤلاء الأطباء مشاكل عديدة؛ لأن الطبيب لم يعد طالبًا بعد إنهاء امتحانات البكالوريوس، وفي نفس الوقت هو ليس موظفًا في الدولة، وليس له الحق في العمل في أي مكان خاص.

وتوضح مينا أن طبيب الامتياز ليس له طريقة للتعبير عن نفسه بها، فمثلًا الطلاب في وقت الدراسة لهم اتحاد طلاب يمكنهم التوجه له في حالة وجود مشكلات لديهم، والأطباء لهم النقابة التي تمارس نفس المهام، ولكن طبيب الامتياز ليس له عضوية في اتحاد الطلبة، ولا عضوية كاملة في نقابة الأطباء.

لا تقتصر السلطة في عام الامتياز على الأساتذة فقط، ولكن كل من يعلوك ولو درجة، يحاول أن يفرض سيطرته ويبسط سطوته ويحكم قبضته، فيشكو أيضًا أطباء الامتياز مما يفعله بهم زملاؤهم من النواب.

فتروي سمر- طبيبة بعام الامتياز جامعة القاهرة – ما حدث لها مع إحدى النائبات بقسمها لـ«ساسة بوست» قائلة «تشاجرت مع إحدى النائبات؛ لأنها حاولت التطاول عليّ أمام مريض وأسرته، ربما أحتمل تطاول الدكاترة بحكم كونهم أكبر سنًا وأكثر خبرة، وفي النهاية هم أساتذتنا، لكن النواب دول بيبقوا زينا بالظبط، وكل الفارق أنهم قدروا يطلعوا بتقديرات مرتفعة أهلتهم أن يكونوا من الأوائل، فكيف تعاملني زميلتي التي درست معي في نفس دفعتي على أساس أنها هي الطبيبة وأنا الممرضة؟»

تقارن أماني – طبيبة بعام الامتياز جامعة عين شمس – بين الوضع الذي ينبغي أن يكون قائمًا في عام الامتياز، والوضع الواقع بالفعل قائلة «من المفترض أنه خلال عام الامتياز يتم تقسيمنا بين الأقسام المختلفة بالمستشفيات التعليمية، ونظل في كل قسم مدة زمنية محددة، حتى نأخذ خبرة عامة عن طبيعة العمل في كل الأقسام، هذه الخبرة لا نأخذها أبدًا في الوضع القائم بطبيعة الحال، فبغض النظر عن إهانات الدكاترة والنواب، لا يصبح لنا أي مجال أو بارقة أمل في تعلم أي شيء؛ لأننا طول الوقت إما أن نكون جالسين في فراغ تام، أو بنمرّ مع الدكاترة، أو بنصطحب المرضى أثناء عمل الإشاعات والتحاليل». وتضيف أماني لـ«ساسة بوست» «بنفضل نلف على رجلينا طول النهار مع كل حالة بين المباني المختلفة».

في عام 2011 قرر أطباء الامتياز بمستشفيات كلية طب قصر العيني الإضراب عن العمل في حالة ما لم يتم توصيف مهامهم كأطباء الامتياز‏، والتوقف عن استخدامهم في أعمال غير طبية، كنقل الدم والتحاليل بين مستشفيات الجامعة.

ورفع شباب الأطباء مذكرة إلى وزير التعليم العالي ورئيس جامعة القاهرة طالبوا فيها بعمل نظام تدريب حقيقي لتأهيل الأطباء للعمل في المستشفيات على أن يلتزم أساتذة كلية الطب بتطبيقه، وقصر حضورهم إلى المستشفيات على أيام النوبتجية فقط، وتوافر الأمن اللازم لحمايتهم من أهالي المرضى، وعدم استخدام أطباء الامتياز في أعمال مهنية لا علاقة لها بالطب، وتوفير العاملين اللازمين لتلك الأعمال.

وعن المنطق الذي يغلف به الأساتذة والنواب إهاناتهم للأطباء بعام الامتياز، تقول زينب – طبيبة بعام الامتياز جامعة عين شمس – لـ«ساسة بوست»: «الدكاتره يعاملوننا بصورة سيئة جدًا؛ فقط لأنهم يدركون أننا أمام تجربتنا العملية الأولى، ولا نستطيع فعل شيء بمفردنا، بخلاف كون الأساتذة مقتنعين أننا يجب أن نُهان حتى نتعلم، فقد قال لي أحد الأساتذة نصًا: «لو ماتبهدلتوش مش هتبقوا دكاترة كويسين».

لا تنسى زينب أبدًا الموقف الذي أهانتها فيه أستاذتها أمام أحد المرضى وأسرته، لم تستطع زينب الصمت، ولم تستطع التحدث أيضًا، كل ما حاولت فعله هو أن تلفت انتباه أستاذتها أن صوتها يعلو عليها أمام الحالة، وكأنها طفلة صغيرة، ظلت زينب تردد لأستاذتها «يا دكتور من فضلك وطي صوتك.. يا دكتور لو سمحتِ.. إحنا قدام الحالة».

تضيف زينب قائلة «لم تستمع وكأن ما تفعله عادي تمامًا، وبعدما أنهينا المرور ذهبتُ إلى الحجرة المخصصة لأطباء الامتياز وبكيت، وبعدها بقليل استدعتني الدكتورة لتعتذر لي، وتقول إن أعصابها كانت مضطربة وقتها، وكان عليّ أن أحتمل تفريغ شحنة غضبها».

عرض التعليقات
تحميل المزيد