بعد عام من اندلاع النزاع المسلح بين الحكومة الإثيوبية و«جبهة تحرير تيجراي»، والتي انتهت وفقًا للتصريحات الإثيوبية الرسمية بهزيمة التيجراي، وسيطرة الحكومة على الوضع ميدانيًا، تحولت دفة الأمور مؤخرًا لصالح «جبهة تحرير تيجراي»، وذلك بعد تحالفها عسكريًا مع غريمها السابق «جيش تحرير أورومو»، بالإضافة إلى سبع فصائل مسلحة أخرى، وهو ما مكّن «جبهة تحرير تيجراي» من الزحف نحو العاصمة، مع وعود من جانبهم بسقوط وشيك لنظام آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، وهو الأمر الذي قابله جانب معتبر من الرأي العام المصري باحتفاء كبير في ظل تعنت رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد فيما يخص مفاوضات سد النهضة مع مصر والسودان.

Embed from Getty Images
الجيش الإثيوبي في إقليم تيجراي

إذ يتابع الرأي العام المصري تطورات الوضع في إثيوبيا باهتمام كبير، وهناك جدل مفتوح لدى الجمهور المصري حول إمكانية تقليل انتصار «جبهة تحرير التيجراي» من الخطر الذي يهدد المصريين ممثلًا في سد النهضة، فيما تكتفي السلطات المصرية بالمراقبة والصمت، وفي هذا السياق يرى بعض الخبراء المصريين أن تفكُّك إثيوبيا يخدم مصر على المستوى الإستراتيجي، على عكس بقائها موحدة تحت قيادة آبي أحمد، فهل من مصلحة مصر سقوط آبي أحمد؟ أم استمرار الحرب؟ أم أن تطورات الوضع العسكري لن تؤثر على قضية مصر في «سد النهضة»؟

عقاب مستحق؟.. هل يرى المصريون هزيمة الحكومة الإثيوبية انتقامًا لهم؟

على مدار العام الماضي كانت الحكومة الإثيوبية تتهم مصر بالعمل على زعزعة استقرار البلاد، في محاولة لتبرير اضطرابات الداخل، وفي ظل توتر العلاقة بين القاهرة وأديس أبابا على خلفية تعثر مفاوضات سد النهضة، وفي يوليو (تموز) 2021 ذكر المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي أن إثيوبيا تحاول التصدي لما أسماه «التهديدات الخارجية التي تستهدف سد النهضة»، وفي هذا الصدد اتهمت أديس أبابا القاهرة والخرطوم، بدعم أعمال العنف بإقليم «بني شنقول جومز»، الذي يحتضن سد النهضة.

وغالبًا ما كانت الحكومة المصرية تنفي هذه الاتهامات، أو تلتزم الصمت، وحاليًا تسير الحكومة المصرية على نفس هذا النهج خلال أزمة الحكومة المركزية الإثيوبية، فلم تُعلّق على مجريات الأحداث، كما أن الإعلام الرسمي ملتزم بعرض تطورات الأحداث هناك، دون تناول المصالح المصرية من قريب أو بعيد.

وفيما يتعلق بارتباط المصالح المصرية بتطورات الأحداث في إثيوبيا نجد أن هناك اتجاهًا قويًا داخل الرأي العام المصري يرى أن سقوط نظام آبي أحمد يصب في صالح مصر، خاصةً في ظل السياسات الصدامية التي اتّبعها رئيس وزراء إثيوبيا فيما يخص مفاوضات سد النهضة، وإغلاقه لمنافذ التفاوض، ومحاولة فرض الأمر الواقع على مصر، وأنه من الطبيعي «عدم البكاء» على نظام الرجل الذي تحدى الرأي العام المصري وأغضبه، وربما ما يلقاه حاليًا هو «عقاب مستحق».

وعن استفادة مصر من سقوط آبي أحمد يرى هذا الاتجاه أن الاضطرابات العسكرية والسياسية التي تشهدها إثيوبيا ستعمل على تعطيل مشروع سد النهضة، وأنه في حال إفلات نظام آبي أحمد من السقوط ستستمر أزمته، وبالتالي سيكون موقفه على الصعيد الخارجي ضعيفًا، وربما يدفعه ذلك إلى التخفيف من حدة موقفه المتشدد تجاه مصر، بالإضافة إلى أن أمد الأزمة الإثيوبية الراهنة سيعطي مصر الفرصة لإعادة ترتيب أوراقها، بما يسمح بالتحرك في مسارات أخرى مختلفة أكثر نجاعة، وتصب في صالح القاهرة.

وضِمن هذا الاتجاه ذهب البعض إلى أن «بقاء الدولة الإثيوبية من عدمه ليس مهمًا لمصر» بقدر حلول الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، سواء تضمن هذا الاستقرار الإبقاء على دولة واحدة مستقرة، أو عدة دول مستقرة ترث الدولة الإثيوبية، وهو الرأي الذي عبّر عنه وزير الري المصري الأسبق محمد علام.

وفي الوقت نفسه ظهر اتجاه مقابل يضم عددًا من الأكاديميين، وينفي الارتباط الشرطي بين سقوط «آبي أحمد» وبين تحقق المصالح المصرية في قضية سد النهضة، ويدعو للالتفات إلى حالة السيولة التي يعاني منها المشهد الإثيوبي، والتي تفتح المستقبل أمام عددٍ من الاحتمالات قد يصب بعضها في صالح مصر، ولكنها أيضًا قد تَحُول دون تأثر سد النهضة بسقوط آبي أحمد، كما أن سيناريو «اندفاع إثيوبيا نحو المزيد من التعنت تجاه مصر» قد يكون حاضرًا ضمن هذه الاحتمالات أيضًا.

لذلك قد يكون من المهم الإشارة إلى بعض الاعتبارات التاريخية والسياسية، والتي قد تساعد على قراءة المشهد الإثيوبي، واستشراف مستقبل المصالح المصرية في قضية سد النهضة هناك.

1. النظرة التاريخية الإثيوبية تجاه مصر

هناك قناعة تاريخية لدى إثيوبية بأنها دولة مسيحية تقع في محيط عربي مسلم يناصبها العداء، ومصر – داخل الوعي الإثيوبي – ليست مجرد جزء من هذا المحيط، لكنها طرف تاريخي في الإضرار بمصالح إثيوبيا؛ إذ ترى أديس أبابا أن القاهرة فرضت أوضاعًا تاريخية ظالمة فيما يتعلق بمياه نهر النيل.

ولم يكن تعنت «آبي أحمد» تجاه مصر إلا انعكاسًا لهذه القناعات التاريخية؛ إذ صرّح دبلوماسي إثيوبي لوكالة الأناضول في يناير (كانون الثاني) 2021 بأن «الحكومة المصرية عمدت إلى تبني سياسة طويلة الأمد لزعزعة استقرار إثيوبيا وإضعافها من خلال تقديم الدعم الكامل للعناصر المناهضة للسلام».

Embed from Getty Images

ميلس زيناوي

كما أن رئيس الوزراء التاريخي لإثيوبيا، ومؤسس الدولة الفيدرالية بشكلها الحالي، ميلس زيناوي، كان يرى في مصر «خصمًا إستراتيجيًا»، وأعرب في أكثر من مرة عن مخاوفه من طموحات مصر للهيمنة على المنطقة، وسعيها للإبقاء على إثيوبيا دولةً ضعيفة، وكان يرى أن مصر لطالما دعمت حركات المعارضة التي كانت متمركزة في إريتريا، ويُشار إلى أن زيناوي هو المؤسس الفعلي لمشروع سد النهضة، وينتمي في الوقت نفسه إلى قومية «التيجراي» التي تحاول إسقاط آبي أحمد حاليًا.

ويبدو أن لدى الشارع الإثيوبي نفس مخاوف القادة السياسيين تجاه مصر؛ إذ إن التقارير التي تتناول الرأي العام في إثيوبيا تُعبّر عن عدم ثقة الشارع الإثيوبي في مصر، فيرى الكثير من الإثيوبيين أن مصر قد تُقدِم على ضرب سد النهضة عسكريًا في أي وقت، دون مراعاة مصالح الشعب الإثيوبي واستقراره.

2. علاقة «التيجراي» بمشروع سد النهضة

بدأت فكرة سد النهضة عام 1964 بناءً على دراسة قدّمها «مكتب الاستصلاح الأمريكي» (وهي وكالة فيدرالية تابعة لوزارة الداخلية الأمريكية تشرف على إدارة الموارد المائية) للحكومة الإثيوبية حينئذ، وكان المشروع هادفًا إلى بناء سد (في موقع السد الحالي) باسم «سد بوردر» أو السد الحدودي، وذلك بسعة تخزينية تبلغ 11.1 مليار متر مكعب.

وظلت الفكرة حبيسة الأدراج إلى أن أعادها إلى الحياة مرة أخرى ميلس زيناوي، حينما أعلن عام 2011 عن بناء السد، ولكن باسم «مشروع إكس»، وبسعة تخزينية تبلغ 14 مليار متر مكعب، وفي نفس العام جرى تغيير الاسم وسعته التخزينية؛ ليصبح «سد الألفية الإثيوبي العظيم» بسعة 17 مليار متر مكعب، وفي عام 2012 جرى الإعلان عن الاسم الحالي للسد (سد النهضة)، وزيادة سعته التخزينية لتبلغ 62 مليار متر مكعب، ثم وصلت إلى 74 مليار متر مكعب.

Embed from Getty Images

سد النهضة

فكانت الصيغة النهائية لمشروع سد النهضة من وضع رئيس الوزراء التاريخي للتيجراي، لذلك فإن التيجراي يحتفون ببناء سد النهضة أيضًا، ولهذا السبب سيكون من الطبيعي أنهم إذا عادوا إلى الحكم، فسوف يتمسكون باستكمال بناء سد النهضة وملئه، وقد يعتبرونه مشروعهم القومي الذي سيوِّحد الشعب الإثيوبي خلفهم، مثلما حاول «آبي أحمد» أن يفعل ذلك.

3. تعطل مسيرة المفاوضات

هناك شبه اتفاق بين الخبراء أنه مع مرور الوقت ستتقلّص فرص مصر في استخدام الخيار العسكري في مواجهة سد النهضة؛ إذ إن ضرب سد النهضة عسكريًا بعد الملء سيؤدي إلى تدفق مليارات المترات المكعبة من المياه، وهو ما سيتسبَّب في اقتلاع «سد الرصيرص» السوداني، وإحداث دمار هائل، أي أن الآمال المصرية تنعقد على طاولة المفاوضات، وحلحلة الموقف الإثيوبي المتشدد، وهو أمر يراه بعض الخبراء مستحيلًا في ظل الفوضى الإثيوبية حاليًا.

Embed from Getty Images
دينا مفتي المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية

فكلما طال أمد «آبي أحمد» في الحكم، بالتوازي مع استمرار أزمته السياسية، فلن يتوقف عن استخدام «ورقة سد النهضة» لحشد التأييد الشعبي، وتحويله إلى «معركة وجود» بالنسبة للشعب الإثيوبي، وهو ما يعني مزيدًا من التعنت تجاه مصر.

وفي حال نجاح التيجراي في إسقاط آبي أحمد، فلا يبدو أن الاستقرار سيكون وشيكًا، بل من المتوقع أن تتستمر حالة الانقسام الإثيوبي، وترجِّح بعض التحليلات أن التيجراي – حال استيلاءهم على الحكم – سيكون أمامهم مشوار طويل من أجل إعادة توحيد البلاد مرة أخرى، وإعادة بناء البنية التحتية للدولة وهويتها الوطنية في نفس الوقت.

Embed from Getty Images

مظاهرة في السودان ضد سد النهضة

وفي غضون ذلك قد يتمسّك التيجراي بورقة سد النهضة أيضًا من أجل لمّ شمل الداخل، أو على أقل تقدير لن يكونوا قادرين على صياغة اتفاق أو معاهدة مُلزمة تضمن المصالح المصرية، وحتى مع افتراض قدرتهم على توقيع مثل هذه الاتفاقية، فقد يُمثِّل رفض الرأي العام عائقًا أمامهم إذ قد يُعتبَرون خائنين للشعب الإثيوبي بتقديمهم تنازلات لمصر.

أمّا في حالة استمرار الوضع الراهن، لا غالب ولا مغلوب، فمن المؤكد أن مسيرة المفاوضات لن تتقدم لشهور أو لسنوات، وخلال هذا الأمد من غير المُرجَّح أن تتوقف أعمال بناء سد النهضة، وذلك لأنه من جهة بعيد جغرافيًا عن نقاط الاشتباك، ومن جهة أخرى هناك جهات أجنبية تشرف على عمليات البناء والتشغيل، وسيكون من المهم لها استمرار العمل بسد النهضة.

المصادر

تحميل المزيد