تمتلئ قصص التاريخ بشخصيات تغيرت تمامًا بوصولها إلى موقع السلطة فاختلفت مواقفها، وقد حاول علماء الاجتماع وعلماء النفس البحث عن سبب لهذا التحول الذي دفع كثيرين ممن وصلوا للسلطة للتصرف بطريقة غير أخلاقية،  أو حتى مختلفة عما شاع عنهم قبل الوصول إليها.

 

ما الذي يوجد هناك – في السلطة – فيدفع بأغلب من يجدون أنفسهم فيها إلى أفعال مشتركة، تنبع – كما يشير علماء النفس – من خصائص السلطة ذاته، وليس من خصائصهم؟

«كل سلطة تتأرجح بين ما تعلنه وما تخفيه، بين الأيديولوجيا وهي الوجه المعلن للسلطة، والسيكولوجية وهي الوجه الخفي لها»  *سالم القمودي – سيكولوجية السلطة

 

بداية، فإن السلطة كما يرى علماء النفس، هي القدرة على السيطرة على الآخرين للحصول على شيء يخصهم، منعهم أو دفعهم للقيام بأفعال معينة، والمال والسلطة، وحتى تمتّع الناس بخيارات متعددة يمنح الأفراد نوعًا من السلطة، مهما كان المرء سيئًا، فإنه لا يؤذي من يريد إيذاءه، إنه يؤذي من يملك إيذاءه، وهذا هو سر السلطة ومكمن الاختبار فيها.

الثقة المفرطة بالنفس، والتسرع والتهور، وحتى جنون العظمة صفات معروفة عن معظم من وصلوا إلى السلطة، كما ترسمها أشهر التطبيقات العملية لصورة السلطة التي وضعها ميكيافيللي، ولا تزال تشكل  إلى جانب كتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف لوبون  أساس العلاقة بين الاثنين لدى كثير من الأنظمة المعاصرة.

كانت المحاولة الأولى لفهم ما يحدث للناس في السلطة عند الإغريق، إذ اعتبروا صفات، مثل التهور والجنون متلازمة تصيب كل من في السلطة، وقدّروا أنها عقاب من الآلهة للناس على عدم التزامهم بأوامره.

 

وكان أحد ما يفسر تغيّر الأفراد في مواقع السلطة هو أنهم يشعرون بالقوة، بينما يغلب الضعف على الآخرين، لذلك فإن محاولة تصور ما يشعر به  أصحاب السلطة لا يكون واقعيًا – في رأي البعض – إذ لن تتضح الصورة لنا إلا حين نكون في موقع السلطة.

 

«إننا نتفهم شعوركم»

 

في تجربة أجراها علماء دانماركيون على مجموعة من الأفراد، لدعم أحد الخيارات السياسية، وكان بعض أفراد المجموعة جائعين، ولدهشة العلماء فقد أثّر الجوع على خيارات الأفراد بالفعل، إذ كانوا أكثر ميلًا لسياسة المساواة والعدل في توزيع الثروات، بينما كان الآخرون أقل ميلًا للتعاطف.

كانت هذه الدراسة تفسيرًا غريبًا للميول السياسية للناخبين؛ إذ استنتجت أن التفكير المنطقي ليس وحده ما يحكم خياراتنا؛ الجوع يدفع الناس للتعاطف مع الأحزاب اليسارية، والمواطنون في الدول الغنية أقل ميلًا للتبرعات والأعمال الخيرية، من مواطني الدول الفقيرة، وتفسير ذلك هو أن مواطني الدول الغنية لا يختبرون شعور التعاطف والرحمة؛ إذ لا يرون احتياجات الناس حولهم.

 

وقد أثبت كثير من الدراسات النفسية أن الأفراد في السلطة غير قادرين على التعاطف مع الناس، وفي الطبقات الدنيا خاصة، وعلينا أن نشكّ كثيرًا حين نسمع منهم كلمات من قبيل «إننا نتفهم شعوركم» أو «إننا نعاني مثل الجميع»، لأنهم في الحقيقة لا يكترثون برغبات ودوافع الآخرين، فهم يكونون في موقع مختلف، ولديهم أدوات مختلفة، فيصيبهم ما يمكن تسميته بـ«العمى العاطفي» أو «العمى الاجتماعي» الذي يقف بينهم وبين الآخرين، وحتى بين أفراد أسرهم.

وقد أُجريت تجربة في جامعة كاليفورنيا أكدت أن من في السلطة يجدون صعوبة في التعرف على ما قد يشعر به الآخرون،  وأن السلطة تقلل كل أنواع التعاطف لديهم.

كيف يتغير المخ حين تزداد السلطة؟

يصبح بإمكان صاحب النفوذ أو السلطة التوصل لأفكار أكثر إبداعًا، إذ لا تكون متأثرة، إلا برأيه هو، وليس بأغلبية الآراء كما في السابق، تغيب هنا «العدوى» التي تحدث بين الناس وتتسبب في طغيان رأي ما على أغلبهم، بحيث يصبح الفرد في السلطة متأثرًا بصوته هو، ويكون في الغالب مخالفًا لرأي الأغلبية.

قد يكون أحد أيسر الطرق لفهم ما يحدث للناس في السلطة هو فهم ما يحدث للناس في صفوف الجماهير، كما قال غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير: «إن الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية» ويمكن فهم ما يحدث للفرد في موقع السلطة حين ينفصل عن الجماهير.

قالت ميشيل أوباما في أحد خطاباتها: «أن تكون رئيسًا لا يغير منك، إنه يكشف ما أنت عليه بالفعل»، وهذا صحيح في رأي الكثيرين؛ فتأثير السلطة يكون في الأساس لأنها تحمينا من الآخرين؛ من الاحتكاك  والتأثر بهم، فتكشف عمق شخصياتنا وآرائنا، وبالتالي يحدث التغير في مواقفنا الذي يبدو وكأن تغييرًا حدث لدينا.

أشارت دراسة نُشرت عام 2014 إلى أن الشعور بالقوة يغيّر طريقة عمل الدماغ وتفاعل الإنسان مع الآخرين، هناك نظام يُسمى مرآة الخلايا العصبية هو المسؤول عن مواقفنا تجاه الآخرين وتعاطفنا معهم وهذا النظام يتفاعل بطريقة ما مقلدًا أفراد المجموعة التي ننتمي إليها، فنكون مثلهم، لكن الفجوة الاجتماعية التي تفصل السياسيين عن الناس تؤثر على هذا النظام، بحيث لا يعود لأفعال الناس صدى لدى السياسيين، وبالتالي يقل تعاطف السياسيين في السلطة مع الناس لهذا السبب؛ جهازهم العصبي.

الانتهازية والنرجسية صفات طالما تغذّت على السلطة، ولا يمكننا القطع بما إذا كانت السلطة تنشئها أم فقط تنمّيها، على الأقل لا يمكننا القطع بذلك لدى الشخصيات التي وصلت إلى السلطة بالفعل، لكن بعض العلماء حاولوا معرفة الحقيقة من خلال تجربة تمت فيها مقارنة مجموعة من السجناء المدانين في جرائم ذوي الياقات البيضاء،  بمجموعة من المديرين، وخرجت التجربة بأن صفات النرجسية كانت أكثر حضورًا لدى السجناء، بالرغم من تمتّع المديرين بمواقع السلطة، وهو ما رجّح أنها تكون موجودة بالفعل لدى الأفراد ولا تنشأ بوصولهم إلى السلطة.

        «السلطة تغير طريقة عمل الدماغ جذريًا» *سوكفيندر أوبهي، عالم الأعصاب في جامعة ويلفريد لورييه- كندا

أمور خفية أخرى

هناك تأثيرات خفية تفعلها السلطة بالعقل، في التجارب التي أُجريت للمقارنة بين سلوك من هم في السلطة والآخرين، كان من في السلطة يطلبون معلومات أقل ولا يستغرقون وقتًا طويلًا في اتخاذ القرارات، وكانوا يحاولون لمدة أطول حل الألغاز الصعبة، ومستحيلة الحل، كما كانوا يتوقفون عن سماع من لا يتفق معهم في الرأي سريعًا بمجرد أن يبدو لهم هذا الاختلاف.

 

يشبه تأثير مذاق السلطة على الدماغ تأثير الكوكايين، فهي ترفع مستويات التستوستيرون لدى الرجال والنساء، ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الدوبامين، وهو النظام المسؤول عن المكافآت في الدماغ، والذي يقود إلى الإدمان، ويتخوف العلماء من أن يقود إفراز المزيد من الدوبامين إلى تأثيرات سلبية  مثل الغطرسة ونفاد الصبر.

كما يزيد وجودنا في السلطة من وضوح أهدافنا، وقدرتنا على التحرر من الاعتماد على الآخرين بما في ذلك مخاوفهم وتحذيراتهم، فيصبح بإمكاننا تجاهلها وصولًا إلى أهدافنا الخاصة.

المصادر

تحميل المزيد