عندما قامت مصر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 بتحرير كامل لسعر صرف عملتها، كان من أهم وأبرز أهداف التعويم هو القضاء على سوق الدولار السوداء «الموازية»، والوصول إلى سعر واحد للدولار دون وجود فجوة بين السعر في البنك، وفي أي مكان آخر.
كريستين لاجارد، مدير صندوق النقد الدولي، أكدت قبل التعويم بأيام في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) أن الفجوة بين سعر العملة الرسمي، وسعرها في السوق السوداء مختلف بنسبة 100%، إذ كان السعر الرسمي حينها نحو 8.88 جنيه للدولار، بينما كان السعر في السوق السوداء يتراوح بين 17 و17.20 جنيه.
وفي اليوم الذي قام فيه البنك المركزي بتعويم الجنيه، قال إن هذه الخطوة هدفها استعادة تداول النقد الأجنبي داخل القطاع المصرفي، والقضاء على السوق السوداء «الموازية» تمامًا، موضحًا أن تحرير أسعار الصرف جاء لإعطاء مرونة للبنوك العاملة في مصر لتسعير شراء، وبيع النقد الأجنبي؛ بهدف استعادة تداوله داخل القنوات الشرعية، وإنهاء السوق السوداء تمامًا.
التقديرات تشير إلى أن حجم السوق السوداء يشكل ضعف السوق الرسمية، إذ قدرها هشام رامز محافظ البنك المركزي السابق بنحو 35 مليار دولار سنويًّا في 2015، بينما تؤكد تقديرات غير رسمية أن الحجم أكبر من ذلك، إذ تراوحت التقديرات بين الـ 50 و70 مليار دولار.
وبعد تصريحات محافظ البنك المركزي المصري، الثلاثاء 3 يناير (كانون الثاني) الجاري، التي أكد فيها أن حصيلة التنازلات عن الدولار بالبنوك المحلية بلغت سبعة مليارات دولار، منذ قرار تحرير سعر الصرف، وحتى بداية يناير (كانون الثاني)، يتضح أن الجهاز المصرفي لم يستطع جذب الكثير من الأموال من السوق السوداء، وهو ما يجعلها السوق الأكبر حتى بعد التعويم.
التعويم لم يكبح السوق السوداء
عامر اعترف بعد أكثر من شهرين من قرار التحرير الكامل لسعر الصرف، بأن مشكلة وجود سعرين للدولار ما زالت قائمة، قائلًا: «إن التعويم لم يكن بالعصا السحرية القادرة على إخفاء التعاملات الموازية، إذ إن الأمر يتطلب المزيد من الوقت حتى تضبط السوق نفسها».
ورصدت «ساسة بوست» الفروق السعرية الموجودة بين السوق الرسمية، والسوادء. ففي صباح يوم 9 يناير (كانون الثاني) 2017، سجل سعر صرف الدولار في البنك الأهلي، وهو أكبر بنك بالبلاد، 18.05 جنيه للشراء، و18.15 جنيه للبيع.
من جانبه، قال أحد المتعاملين في السوق السوداء، لم يود عرض اسمه، لـ«ساسة بوست» إن «المعاملات ضعيفة، ولكن هناك يقين بالسوق أن السعر سيواصل الارتفاع»، موضحًا أنه يشتري الدولار بـ19.45 جنيه، ويبيعه بنحو 19.70 جنيه، إلا أنه توقع أن يتغير الوضع في النصف الثاني من يناير (كانون الثاني) 2017، متوقعًا أن السعر سيصعد بقوة لأن الطلب سيرتفع.
وعندما تحدثت «ساسة بوست» إلى صاحب محل ذهب بالقاهرة، ذكر أنه يشتري الدولار بسعر 19.55 جنيه، ولا يبيعه؛ بل يشتريه لغرض شراء الذهب فقط، واعتادت شريحة كبيرة من المصريين على بيع الدولار إلى محلات الذهب، إذ تقدم أحيانًا أسعارًا أعلى من التي تقدمها كثير من الصرافات، والمتعاملين بالسوق الموازية «السوداء».
ومن خلال هذا الرصد يتضح أن الفجوة بين السوق الرسمية، والسوداء وصلت إلى نحو 1.75 جنيه، وهو ما لم يكن موجودًا بعد التعويم؛ مما يكشف عن عودة السوق السوداء للانتعاش مرة أخرى، إذ تزامن هذا الأمر مع تصريحات محافظ البنك المركزي.
البنوك تشارك في عودة السوق السوداء
أحمد ذكر الله، الخبير الاقتصادي، والأستاذ بكلية تجارة جامعة الأزهر، رأى أن انتعاش السوق السوداء مرة أخرى هو أمر طبيعي في ظل انسحاب البنك المركزي من إدارة المشهد النقدي، والاتكال على البنوك التجارية للوفاء باحتياجات بعضها، واحتياجات العملاء، قائلًا: «بالطبع لم تستطع هذه البنوك حتى الآن الوفاء باحتياجات المواطنين».
وقال ذكر الله خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، إن «عدم فتح البنوك باب بيع الدولار، والاكتفاء فقط بالشراء، يجعل من المنطقي أن يعود المواطنون والتجار والمستوردون للسوق السوداء مرة أخرى، ولكن التعويم الكامل سيبقي الفارق بين السعرين الرسمي، وغير الرسمي منخفضًا إلى حد كبير».
ورهن الخبير الاقتصادي اختفاء السوق السوداء من المشهد بقدرة البنوك على الوفاء باحتياجات العملاء، الأمر الذي يتوقف بدوره على قدرة الاقتصاد على جلب العملة الأجنبية، وهو وضع غائب حتى الآن، متوقعًا استمرار تصاعد سعر الدولار في الربع الأول من العام الجاري.
وتابع ذكر الله، قائلًا: «إن حالة انعدام الثقة في الاقتصاد المصري أصبحت عامة بين عوام المصريين، والتجار، ورجال الأعمال، وهو الأمر الذي يخلق طلبًا إضافيًّا على الدولار كمخزن للقيمة، ولأغراض المضاربة»، مشيرًا إلى أن المستقبل منعقد على الخارج سواء القروض، أو الاستثمار الأجنبي، أو شراء الشركات المزمع طرحها للبيع قريبًا، أو حتى شراء السندات الدولارية.
وعن النظرة الإيجابية التي تتحدث عنها الصحف الأجنبية، والتقارير العالمية، قال ذكر الله إنها تبنى على العوامل الخارجية السابقة، وليس على عوامل داخلية، موضحًا أن هذه العوامل هي مسكنات مؤقتة، سينتج هنا استقرارًا هشًّا قد يدوم لأشهر معدودات، يفيق بعدها الاقتصاد على كارثة، على حد تعبيره.
السعر الحالي غير مقنع
علي عبد الرؤوف الإدريسي، الخبير الاقتصادي، يرى أن الظهور الجديد للسوق السوداء يجعلنا نعود إلى الأسباب الأساسية لوجودها، وهي تنقسم إلى قسمين: الأول هو عدم قدرة الجهاز المصرفي على تلبية احتياجات السوق، والثاني يعود إلى التجارة غير المشروعة التي تريد كميات ضخمة من الدولار، ولا يمكن أن تلجأ للبنوك؛ لذلك تبحث عن مصادر بديلة، والسوق السوداء مناخ مناسب لمثل هذا النوع.
وقال الإدريسي خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، إن «التوقعات الحالية تشير إلى مزيد من الصعود في سعر الدولار، إلا أن هناك توقعات دولية تقول إن السعر سينخفض خلال هذا العام»، مردفًا، لكن هذه التوقعات مرهونة بأمرين: الأول دخول كمية كبيرة من العملة الصعبة إلى الجهاز المصرفي، والثاني علاج المشاكل المتعلقة بالمصادر الدولارية، وعلى رأسها «السياحة– إيرادات قناة السويس– الاستثمارات الأجنبية».
وتابع: «لكن يبقى الجزء الأول صعب التحقيق؛ لأن حائزي الدولار في مصر يتوقعون ارتفاع الدولار أكثر، إذ إن السعر الحالي غير مقنع لهم، لذلك السعر يستمر في الصعود»، مضيفًا أن التعويم المدار كان من الممكن أن يجعل السيطرة على السوق أسهل، لكن ما حدث كان تعويمًا حرًّا، وهو ما يحتاج إلى فترة أطول، إذ يراهن محافظ المركزي على أن يضبط السوق نفسه، وهذا الأمر يستغرق وقتًا.
الاحتياطي خارج حسابات سوق الصرف
وعن عدم تأثير ارتفاع الاحتياطي في سعر الدولار، أكد الإدريسي، أن الاحتياطي لم يعد ضمن المؤثرات في سعر الدولار منذ التعويم، فالمركزي تخلى عن دعم العملة، موضحًا أن الأمر برمته الآن متعلق بالبنوك، وقدرتها على السيطرة، وكذلك عودة الإنتاج، وشفافية القرار الاقتصادي في البلاد.
وكان البنك المركزي قد أعلن مؤخرًا ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي بقيمة 1.2 مليار دولار خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مقابل نوفمبر(تشرين الثاني)، حيث بلغ 24 مليار و265 مليون دولار في ديسمبر، وهو أعلى مستوى منذ عام 2011.
ورغم ارتفع الاحتياطي إلا أن سوق الدولار لم تتأثر بهذا الخبر، ويرجع ذلك إلى أن البنك المركزي أعلن عن قفزة غير مسبوقة في الديون الخارجية، في نفس اليوم الذي كشف فيه عن ارتفاع الاحتياطي، إذ أظهرت النشرة الشهرية للبنك، ارتفاع الديون الخارجية لتتجاوز 60.1 مليار دولار في الربع الأول من عام 2016/ 2017 بنهاية سبتمبر الماضي، مقابل 55.7 مليار دولار في نهاية العام المالي السابق.
الديون تنعش السوق السوداء
وبحسب بيانات المركزي، فإن الدين قصير الأجل ارتفع ليسجل 7.9 مليار دولار في الربع الأول من العام المالي الحالي، مقارنةً بـ7 مليارات دولار تقريبًا في نهاية العام المالي السابق المنتهي في يونيو الماضي، فيما شهد ارتفاعًا بنسبة 173% تقريبًا بنهاية عام 2015/ 2016، مقارنةً بالعام السابق عليه.
وكان محافظ البنك المركزي طارق عامر قد قال إن مصر مطالبة بسداد أقساط عدة قروض في 2017، أبرزها القرض التركي بقيمة مليار دولار، بالإضافة إلى 3.6 مليار دولار مستحقات متأخرة لشركات البترول الأجنبية العاملة في مصر، وكذلك استكمال سداد ديون نادي باريس البالغة 3.5 مليار دولار.
ويرى محللون أن هذه الديون تجعل سوق الدولار في مصر يواجه ضغوطًا مستمرة، وهو ما يدفع الجنيه للانخفاض أكثر، وذلك بعد أن كان ثاني أكثر عملة انخفضت قيمتها في العالم خلال 2016، بحسب تقرير لبلومبرج بعنوان «أفضل وأسوأ أداء للأصول في عام 2016»، إذ انخفض الجنيه بنسبة %58.84 خلال 2016، ليكون العملة الوحيدة التي خسرت أكثر من نصف قيمتها في 2016.