بمزيج من السخرية غير المتكلفة والواقعية المغلفة بالتشاؤم، يقدم لنا المخرج والكاتب آدم مكاي فيلمه السياسي الساخر «لا تنظر إلى الأعلى (Don’t Look Up)» في وقته تمامًا، حيث تلوث البروباجندا السياسية حتى أوضح القضايا المصيرية للبشر، مدفوعة بالرأسمالية التي تسعى لتتكسب من الأزمة بكل شكل ممكن وغير ممكن.

حاز الفيلم نسبة الأعلى مشاهدة على منصة «نتفليكس» للأسبوع المنتهي في 26 ديسمبر (كانون الأول) 2021، بمجموع مشاهدات وصل إلى 111 مليون مشاهدة! ويتتبع فيه قصة مرشحة الدكتوراة في علم الفلك، كيت ديبياسكي (جينيفر لاورنس)، التي رصدت مذنبًا بحجم قمة إيفرست، وبتحديد مداره واتجاهه بمساعدة د. راندال ميندي (ليوناردو دي كابريو)، يصدم العالمان من اكتشافهما أن المذنب متجه مباشرة إلى الأرض بعد ستة أشهر و14 يومًا تحديدًا، وهو ما يدفعهما للدخول إلى دوامات سياسية جنونية لتحذير العالم من ذلك الخطر المحدق، يلعب بطولة الفيلم مجموعة من ألمع نجوم هوليوود، من بينهم ليوناردو دي كابريو، وجينيفر لاورنس، وميريل ستريب، بالإضافة إلى كيت بلانشيت وجونا هِل.

لكن الفيلم يتعدى كونه عملًا ترفيهيًّا ساخرًا إلى كونه تمثيلًا واقعيًّا بدرجة كبيرة للواقع الذي يتضاءل فيه الفارق بين الحقيقي والساخر، خصوصًا في عالم ينهشه فيروس كورونا والتغير المناخي من جانب، والأيديولوجيات السياسية والاقتصادية الجشعة مثل الرأسمالية من الجانب الآخر، فكيف ذلك؟

الرئاسة ليس لديها وقت لنهاية العالم!

تبدأ رحلة العالمين من البيت الأبيض، حيث الرئيسة الأمريكية جايني أورلين (ميريل ستريب)، التي لا تعيرهما انتباهًا ليوم كامل قضياه في انتظارها بسبب انشغالها في أمورها الحزبية، حتى تقرر أن تقابلهما في اليوم التالي، وتطلب منهما أن يشرحا الأمر في عجالة، وهو ما يقابله العالمان بغضب لا يلبث أن يتحطم على صخرة لا مبالاتها وتسفيه ابنها جايسون (جونا هِل)، وبعد استيعابها الأمر، تقرر الرئيسة أن تؤجل إعلان الخطر للعامة واتخاذ القرار الواجب لصد ذلك الخطر إلى حين انتهاء انتخابات التجديد النصفي، حتى لا يخسر حزبها أصوات الناخبين لصالح الحزب المنافس.

بالسخافة المتضمنة في ذلك المشهد، يشير الفيلم بوضوح إلى فترة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي انسحب بالولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، وظهر في لقاءات عديدة ليسفه من آراء العلماء بخصوص التغير المناخي، ويصف العلم بأنه «لا يعلم شيئًا»، كما أعلن صراحة معاداته لنصائح الأطباء بشأن جائحة كورونا، حتى مستشاريه والهيئات الطبية الكبرى في البلاد مثل المركز الأمريكي للوقاية والسيطرة على الأمراض (CDC)، في الوقت الذي روج فيه للعديد من الممارسات غير العلمية في مواجهة الجائحة.

وهو ما أدى في نهاية فترة رئاسته إلى احتلال الولايات المتحدة للمركز الأول في عدد الحالات المصابة، والذي بلغ نحو 24 مليون حالة، كما أدى إلى تصدرها في الوفيات بعدد وصل إلى 400 ألف وفاة.

في مقابلة للمخرج آدم مكاي وليوناردو ديكابريو مع قناة «توداي» الأمريكية، يصرح مكاي بأن الفيلم جرى تصويره في فترة كورونا الأولى، حيث لم يكن هناك لقاح بعد، وهو ما جعل فريق العمل يتقمص شعور النهاية بشكل أكبر، ما انعكس على أدائهم في الفيلم. أما ليوناردو ديكابريو، فقد ربط بين تمثيله عالمًا يصارع لنشر العلم الحقيقي وبين دور د. فاوشي المستشار الطبي للرئيس الأمريكي في مواجهة تزييف دونالد ترامب للواقع وتحايله عليه.

الترفيه ضد الحقيقة.. من سينتصر؟

يقرر العالمان إعلان اكتشافهما للعالم لتحذيره بغض النظر عن أوامر الرئاسة، ويذهبان إلى أحد البرامج الأعلى مشاهدة في الولايات المتحدة؛ «ذا دايلي رِب»، ليُصدما من رغبة مقدمي البرنامج في الترفيه المحض وتحويل كل شيء يقولانه إلى دعابة لا وزن لها، وهو الشيء الذي تقابله ديبياسكي بالصراخ في وجه الكاميرا إننا جميعًا على وشك الموت، لكن ذلك أيضًا لا يلبث أن يتحول إلى دعابة أخرى.

في عالم يسخر من كل شيء، ويحول قضاياه المصيرية إلى مواد للترفيه، يصبح ذلك المشهد طبيعيًّا للغاية، ولا يبدو ذلك المشهد متكلفًا على الإطلاق؛ إذ يمكن بوضوح رؤية ما هو أشد منه سخافة في الواقع، وهو ما يبرزه الفيلم بشكل جيد جدًّا. 

لا يقف الفيلم عند انتقاده للسلطة أو الإعلام، بل يمتد انتقاده إلى العلماء أيضًا؛ إذ يركز من جانب على افتقارهم للغة سهلة توصل المعلومة بلا «رياضيات»، ومن جانب آخر يركز على إمكانية إغوائهم بالشهرة ليقللوا من واقعية رسالتهم إلى العامة وحدَّتها؛ ما يصب في مصلحة الإعلام الترفيهي الذي يبحث عما يشعر الناس بشعور جيد عن أنفسهم وعن العالم دون أي اعتبار لما يحدث في الواقع حقيقة.

بعدها، يفاجأ العالمان باستعداد الرئيسة أورلين لاتخاذ اللازم ومنع نهاية العالم، لكن سرعان ما يزول شعورهما بالمفاجأة عند علمهما بأن ذلك الاستعداد نابع من رغبة الرئيسة في التغطية على فضيحة جنسية طالتها، وليس لأن ضميرها قد استيقظ بغتة.

«لنستغل المذنب»! الرأسمالية تدخل على الخط

يقرر السير بيتر إشيرويل (مارك رايلانس)، مؤسس عملاق التكنولوجيا «باش»، والذي هو تمثيل لرأسماليي عالم اليوم، أن يقدم اقتراحًا للرئاسة باستغلال المذنب اقتصاديًّا عن طريق تفتيته، ولأنه كان ممول الحملة الرئاسية سابقًا للرئيسة أورلين، يقابل ذلك الاقتراح بحفاوة شديدة، وتلغى عملية حرف مسار المذنب عن الأرض لصالح ذلك الاقتراح.

يبرز هنا الدور الخطير الذي تلعبه الرأسمالية في الأزمات التي تتهددنا جميعًا اليوم، مثل جائحة كورونا أو التغير المناخي؛ إذ لا يكون التساؤل الأول لدى الرأسماليين هو كيف نتفادى الخطر، بل كيف نستغل ذلك الخطر ونجني الأرباح لأطول فترة ممكنة، وهو ما يعطل أي فعل جادٍّ للحد من تأثير تلك الأزمات، ويقود إلى النهاية.

«Don’t Look Up»: الدعاية السياسية لا تتوقف حتى في نهاية العالم

يصف أدولف هتلر في كتابه «كفاحي» الطريقة الأمثل لتوظيف الدعاية السياسية في المجتمع بقوله: «استقبال الجموع للمعلومات محدود جدًّا، ذكاؤهم ضئيل، وقدرتهم على النسيان هائلة؛ وبناءً على تلك الحقائق، كل الدعاية السياسية الفعالة ينبغي أن تركز على نقاط معدودة وتغني عليها بالشعارات حتى يفهم آخر شخص من العامة ما تريد أنت أن يفهمه بتلك الشعارات».

تلك المقولة لأدولف هتلر تجد صدى كبيرًا لها في كثير من الصراعات التي نحياها اليوم بمختلف أنواعها، فبين من يوظفها لتوصيل معلومة حقيقية للجموع، وبين من يوظفها للتزييف، تصبح الحقيقة مشوشة للغاية، لا يراها إلا من يسعى وراءها.

«ماذا لو أن العلماء يكذبون؟ ماذا لو أن لهم مصلحة خبيثة من إخبارنا بأن المذنب على وشك الارتطام بالأرض؟ هل يوجد مذنب أصلًا؟» كل هذه الأسئلة التي بثها الإعلام المعادي للعلم لاقت صدى بين العامة؛ ما جعلهم يشكون في حقيقة أي شيء مما يقوله العالمان، ومع اقتراب موعد الكارثة وظهور المذنب في السماء، أطلق العالمان شعار «انظر إلى الأعلى» أو  على وسائل التواصل الاجتماعي كي يدفعا العامة إلى التحقق بأنفسهم من أن كل ما يقولانه حقيقة فعلًا، لكن الدعاية السياسية المعادية دخلت على الخط.

«لا تنظر إلى الأعلى أو Don’t Look Up» كان الشعار المقابل الذي أطلقته الرئيسة أورلين لحث العامة على التصديق بروايتها الرأسمالية التي تهدف إلى استغلال المذنب وعدم الالتفات إلى ما يقوله العالمان بشأن ذلك، وبعد مؤتمرات كثيرة وصدى واسع لكلا الحملتين، أتت لحظة الحقيقة.

على الجهة الأخرى من العالم، حاولت روسيا والصين إطلاق صواريخ لحرف مسار المذنب عن الأرض، لكن قواعد الإطلاق جرى تدميرها بشكل غامض، ما ترك العالم كله في يد رأسمالية السير إشيرويل والولايات المتحدة، لكن الأشياء لم تسر على ما يرام، ولم تتمكن مركباته الفضائية من تفتيت المذنب، ما أدى إلى انتهاء العالم، فهل انتهت الرأسمالية معه؟

انتهى العالم؟ لا مشكلة لدينا

دومًا ما يجد الرأسماليون طريقهم للنجاة، فكما استطاعوا العودة من الموت عن طريق أموال دافعي الضرائب في عام 2008 بعد الأزمة المالية العالمية وإفلاس كبرى الشركات والبنوك الأمريكية، جهَّز السير إشيرويل مركبة فضائية يمكنها حمل ألفي شخص وتجميدهم في حال فشل المهمة لتفتيت المذنب، وذلك للذهاب بهم إلى الفضاء والسباحة فيه، حتى وجود حياة على كوكب ما في الفضاء الفسيح.

علوم

منذ سنة واحدة
تغير المناخ ليس أكذوبة صينية.. الانقراض يهدد الكوكب بعد ارتفاع حرارته 1.5 درجة

في دراسة أعدها علماء من «برنامج هورايزون 2020» البحثي للابتكار التابع للاتحاد الأوروبي، صرح أولئك العلماء بأن الرأسمالية، كما نعرفها اليوم، لا تستطيع دعم انتقال ناجح من الطاقة غير المتجددة إلى الطاقة النظيفة، بل تقودنا إلى عجز في الموارد التي يمكن استغلالها لتقليل الانبعاثات الكربونية في العالم؛ ما يدفعنا بخطوات ثابتة نحو السيناريو الأسوأ للتغير المناخي، هذا بالتحديد هو ما يصرخ به الفيلم في آذان المشاهدين؛ أن الساعة تدق نحو النهاية، وأنه عند نقطة ما قريبة، لن نستطيع إرجاعها إلى الوراء.

المصادر

تحميل المزيد