فلاح فلسطيني يحرث أرضه في طرف «الَبلَد»، يهب مسرعًا لجامع القرية الصادح بالأذان في غير موعد صلاة أو إقامة، ليصل إلى الجمع الذي باغته خبر مقتل فلاح فلسطيني على يد مهاجر يهودي. اختلط الغضب من المظلمة بالخوف من ضبابية المستقبل القادم، ومجهولية «الآخر» الذي يسعى لانتزاع أرض الفلاح وقتله. كان هذا عام 1908 حين خرج فلاحو قريتي الشجرة وكفركنّا، المُحتلتين الآن، وهاجموا محاصيل «يهودية» كما يسميها الفلسطينيون آنذاك، وأتلفوها ردًا على مقتل فلاح فلسطيني.
هذا الحادث واحد بين حوادث كثيرة بدأت مع بدء الهجرة اليهودية لفلسطين العثمانية عام 1882، ولعل طفلًا فلسطينيًا يتساءل: لمَ لَم يتحرك أجدادنا فورًا عند بداية الهجرة؟ في هذا التقرير جواب عن السؤال، وعرض للمقاومة الفلسطينية في بداياتها ضد الهجرة اليهودية ابتداءً وحتى الانتداب البريطاني ومقاومة الحركات الصيهونية السياسية والمسلحة في فلسطين الانتدابيّة.
محراث الفلاح أمضى من الخُطب
بدأت أولى الهجرات اليهودية لفلسطين العثمانية عام 1882، وكان أول القدوم الصهيوني لفلسطين يتجه للعمل في الزراعة. يأتي المهاجرون اليهود ليحرثوا الأرض ويزرعوها، بمال يضخه رجال أعمال في أوروبا بأدوات وأساليب زراعية أحدث بمرات من التي يمتلكها الفلاحون الفلسطينيون.
وعلى رأس الهجرة اليهودية الموجهة للزراعة البارون إدموند جيمس دو روتشيلد، وهو داعمٌ أساسيّ للصهيونية في بواكيرها، ورجل استثمر أمواله في المستوطنات اليهودية الزراعية الأولى، وأسلوب عمله: انتزاع الأراضي الفلسطينية من أهلها، وإحلال يهود ليفلحوها مكانهم وتصبح مستوطناتهم مُنتجةً ومكتفية ذاتيًا.

البارون إدموند جيمس دي روتشيلد عام 1930
واجهت الصهيونية في بداية مشروعها أبسط مكونات الشعب الفلسطيني، الفلاحين، وأكثرهم خطورةً عليه وأسبقهم وعيًا. فالفلاح، ببساطة، ابن الأرض التي أرادت الصهيونية انتزاعها منه.
لم يكن المشروع الصهيوني خطر «أمن قومي» أو «خطرًا استراتيجيًا»، أو خطرًا مقنعًا بأي مصطلح تزيفيّ بالنسبة للفلاح الفلسطيني. لم يكن خطرًا قابلًا للتأجيل، وإنما خطر مباشر يمكن للفلاح أن يمسكه بيده كما يمسك تراب الأرض. خطر رائحته الدم، يطمس رائحة برتقال يافا، ويقترب يومًا بعد يوم ويزداد نفاثةً ومع مرور الوقت وتراكم تجربة المقاومة لدى الفلاحين، أصبح وعيهم بالاستيطان الصهيوني أشدّ وطأة عليهم. ومن هنا كان الرد الفلاحيّ هو الأول، وكانت المواجهات بين الفلاحين والمستعمرات اليهودية أول أشكال المقاومة الفلسطينية ضد الحركة الصهيونية.
يمكننا الاستعانة بمذكرات بهجت أبو غريبة، ولعلها من أثرى المصادر التي تصف طبيعة تلك المرحلة، فكاتبها لُقّب بـ«شيخ المجاهدين» الفلسطينيين وأحد أهم المناضلين القدامى، الذي بفضل قواته تأخر سقوط القدس من حرب 48 وحتى حرب النكسة عام 1967. في مذكراته المسمّاة «في خضم النضال العربي الفلسطيني 1916-1948»، يبيّن أبو غريبة سياق الهجرات اليهودية لفلسطين ويتحدث عن أولى الصدامات الفلسطينية -الصهيونية، بين الفلاحين والمستوطنين اليهود، عام 1886، حيث هاجم فلاحون فلسطينيون طُردوا من أراضيهم المستعمرات التي بنيت عليها. لم يكتفِ الفلاحون بالهجوم، واعترضوا سياسيًّا لدى السلطات العثمانية التي سنّت قوانين للحد من الهجرة، أُلغيت لاحقًا بضغط أوروبي.

رسمٌ لبهجت أبو غريبة، الملقّب ب«شيخ المناضلين الفلسطينيين». مصدر الصورة: هنا.
وأما بيع الأراضي الفلسطينية، الذي يؤكّد أبو غريبة ودراج في دراسته أنها كانت عملية ضيقة النطاق ولا علاقة للفلاحين بها، فقد وضعت الدولة العثمانية قوانين تمنع نقل ملكية الأراضي لليهود المهاجرين، الذين تحايلوا على القانون مستعينين بالقنصليات الأوروبية التي كان يحقّ لها أن تمنح جنسياتها وصفتها الدبلوماسية لمن تشاء، ما يعطي الممنوحين من اليهود حقّ التملك وحقوقًا إضافية في التجارة والتنقل.
الفلاح: المقاوم الفلسطيني الأول
يوضّح الباحث الفلسطيني فيصل دراج، في بحثه «الفلاحون وولادة الوطنية الفلسطينية»، أن الوعي الفلسطيني بالخطر جاء في بداياته «فلاحيًا» إن صحّ التعبير. فالفلاحون كانوا حائط الصدّ الأول والأصلب أمام الهجرة الاستعماريّة الصهيونية بهدفها الواضح: الاستيلاء على الأرض. الأرض، كلمة واسعة الأبعاد وثقيلة المعنى عند الفلاح الفلسطيني، «الأرض هِيِّ العرض» كما يقول المسنون الفلسطينيون، والمحيط الواقعي والملموس الذي يعيش فيه الفلاح، فيها يقضي طفولته وشبابه وفيها يدفن، عليها ومنها يعيش، ووجوده مرتهن بوجودها.
مقاومة الفلاحين؛ من الهجوم على المستوطنات إلى مقاضاة سكّانها قانونيًا. عملية سماها دراج بـ«الإقلاق» المستمر للمستوطنات، وملاحقة دؤوبة وراء كل حق ضاع سهوًا أو سطوًا. وكان على الفلاحين فعل ذلك مبكرًا جدًا، منذ 1886، لوحدهم دون دعم فعال من النخب المدنية والسياسية في المدن التي لم يشعر أهلها بالخطر مبكرًا كما شعر أهل القرى، برأس مال ضعيف وضرائب قاسية من النظام العثماني إلى ضرائب حكومة الانتداب المُفقرة. والعنصر الأهم في مقاومة الفلاح إدراكه أن الحل الأساسي هو المواجهة، وبعدها يمكن للقضاء أن يتكلم.
من المهم إدراك الفرق بين الفلاح والمدني، يرسمه دراج: الفلاح يجني رزقه من الأرض بشكل موسميّ، أما المدني فهو يعيش بالمدينة ولا يعرف عن الأرض التي يملكها ويفلحها آخرون لا يعرفهم، ويجني منها «أرباحًا» تُضاف لراتبه الشهريّ وثرواته، لا «رِزقة» على الفلاح أن يتكبد ويعاني لتحصيلها. بعيدًا في مدنهم لم يشعروا بالأراضي الصغيرة والمزارع تسحب من تحتهم.
ثم هنالك الفرق التعليمي وفرق في مستوى الحياة ونمطها وطبيعتها، وفرق طبقيّ عنصري له ترسبات حاضرة اليوم في وعي الفلسطينيين وتفريقهم بين المدني والفلاح. ولهذا التفريق مشهد ظريف بين الفلسطينيين اليوم، إذ عندما تتزاوج الفئتان، يلمز بعضهم بعضًا مازحين: «يا فلاح»، أو «يا مدنية»!
هذا الفرق في نمط الحياة يفسّر الفارق الزمني الواسع بين أول الصدامات الفلاحية في ثمانينيات القرن التاسع عشر واضطرابات يافا عام 1908، وهي الصدامات «الأولى من نوعها» في المدن. ولما التحقت النخب المدنية بالنضال الذي بدأه الفلاحون، كانت أشكاله الأولى مرتبكة وأقل وضوحًا، بأدوات ضعيفة: المؤتمرات، واللجان والخطب السياسية الرافضة لوعد بلفور وللانتداب، ووفود سياسية مبعوثة لبريطانيا تعود دائمًا خالية الوفاض.
جنود بريطانيون يفتّشون فلسطينيًا. تعود الصورة -غالبًا- لعام 1938.
أما المقاومة الشعبية في المدن فقد كانت مختلفةً في فحواها وشكلها، من اضطرابات موسم النبي موسى التي قتل فيها من خمسة إلى تسعة صهاينة وجرح 500 على أقل تقدير، إلى اضطرابات يافا عام 1921 التي عمّت المدينة إلى قضائها وهاجم فيها الفلسطينيون المستوطنات المحيطة بالمدينة، إثر مظاهرات يهودية فيها، ومثلها كثير حتى اضطرابات عام 1929 التي يعتبرها أبو غريبة «أوسع اضطرابات وقعت في فلسطين منذ الانتداب». ومع الصدام اتضحت رؤية الفلسطينيين. كانت اضطرابات أغسطس (آب) 1929 مؤشرًا واضحًا: نظّم اليهود مظاهرات «شبه عسكرية» وأخرى عسكرية في تل أبيب وفي القدس، سارت حتى وصلت حائط البراق ومارسوا هناك شعائر دينية فجّرت غضبًا عربيًا مما حصل.
كل أشكال المقاومة، الفلاحية والشعبية والنخبوية، لم تتحول لعمل مؤسسي ومنظم إلا متأخرًا في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، ومع اضطرابات عام 1929 ظهر أن للصهيونية قوات مسلحة، «الهاغناه»، بمقرٍ رئيسي ووحدات سريعة الحركة والتنفيذ. انتهت الاحتجاجات بمئات القتلى من العرب واليهود، ولكن العقوبة من الحكومة الانتدابية وقعت قاسيةً، ككل مرة، على رؤوس الفلسطينيين؛ سجن وضربٌ وعقوبات مالية، كالتي فرضت على الخليل وأُلزم أهلها جماعيًا بدفعها.
من المحراث للرصاص
انكسرت براميل سقطت أثناء إخراجها من باخرة رَسَت في ميناء يافا، ويا للمفاجأة: سقطت مسدسات وذخائر من البراميل المكسورة أمام العمال والشرطة. وقعت هذه الحادثة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1934، ويحدّد أبو غريبة نوعية المسدس بأنها «مازور»، القابل للتحول لرشاش خفيف من «أحسن أنواع الرشاشات الخفيفة في ذلك الوقت». نُقلت الشحنة وسرعان ما اختفت عن الوجود و«تسترت» عليها حكومة الانتداب كما يقول أبو غريبة، أو هذا ما راج بين الفلسطينيين على الأقل.
قبل ذلك، في 26 آذار (مارس) 1933 عُقد «مؤتمر الشباب» في يافا بحضور كبير، خرج المؤتمر ببرنامج نضالي يشمل كل فلسطين، يُمتنع فيه عن دفع الضرائب مع إضراب عام ومظاهرات حاشدة كل أسبوعين تبدأ من القدس.
مهاجرون يهود ينزلون في ميناء حيفا عام 1936
«حزب الاستقلال»، وهو حزب أسسه فلسطينيون تعاونوا مسبقًا مع جمعية «العربية الفتاة» السرية، وذوو توجه عروبيّ قومي، ركّز في تلك الفترة على توجيه الفلسطينيين لمحاربة الاستعمار البريطاني على أنه أصل البلاء والأب الروحي للمشروع الصهيونيّ، ودعم هذا التوجه «الحزب العربي الفلسطيني» بزعيمه الشهير الحاج أمين الحسيني، وتلقّف الشعب الفلسطيني الدعوة.
مرّت مظاهرة القدس وتلتها مظاهرة في يافا راح فيها 100 شهيد على يد البوليس البريطاني، فخرجت بعدها بيومين مظاهرة جديدة في القدس شهدَ فيها أبو غريبة الرصاص يخترق جسد القتيل الأول ليدخل في جسد آخر بعد أن اكتظ المحتجون في أزقة القدس الضيقة، وينهي شهادته قائلًا: «منذ اليوم نشأ في صدري حقد عميق على الإنكليز، صارت معه أمنيتي الكبيرة أن أقتل إنكليزيًا أو أكثر». تصاعدت الاحتجاجات واستمر معها الإضراب العام الذي توسع ليشمل الموظفين العرب، ذوي المناصب الصغيرة، في حكومة الانتداب، ما شلّ عمل الحكومة البريطانية.
كما سبق الفلاح نخبه السياسية، سبقهم أيضًا الشيخ السوري، عز الدين القسام، القادم من جبهات القتال في سوريا ضدّ الاستعمار ليستقرّ في قرية الياجورة قرب حيفا. كانت دعوته واضحة ومباشرة، وجذرية في أهدافها وأدواتها: لن تتحقق مطالب التحرر إلا بالقتال ومواجهة العدو بالسلاح. ومن خطبه في جامع القرية صحّ له اتصال قوي بالفلاحين والعمال من أهل القرية الفقراء، وبدأ سعيه منذ ذلك العام لتشكيل حلقات مقاومة، تشترط أمرين: استعداد المنخرطين للثورة و«الاستشهاد»، واقتناء سلاح على النفقة الشخصية لكل فرد. هذا النداء البسيط والواضح اشتعلت به فلسطين وبيوتها بعد حادثة اكتشاف الأسلحة المهربة عام 1934، وبدا نداء القسام نداء واقعيًا أمام تدفق السلاح لليد الصهيونيّة، وفي تلك اللحظة «ثارت الخواطر وتوتر الجو في فلسطين إلى حد بعيد».
سوريّ يشعل فتيل الثورة الفلسطينية الكبرى
بعد قتاله للاستعمار، حكم على القسام بالإعدام من الانتداب الفرنسي فهربَ إلى حيفا شمال فلسطين. بدأت عمليات تنظيمه السرية في أواسط عام 1935، استهدفت حراس مستعمرات صهيونية. وفي أثناء العمليات طال من وقعت يد الانتداب البريطاني عليه أذى شديدًا؛ تعذيب يليه الإعدام. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) أعلنَ القسام ورفاقه «قيام الثورة المسلحة ضد الاستعمار والصهيونية».
وبدأت بريطانيا الرد بحملة مضادة وشاملة هاجمت فيها الثوار في كل فلسطين لتصل الحملة إلى ذروتها في معركة يعبُد، وجاء خبر استشهاد القسام: «معركة هائلة بين عصبة الثائرين والبوليس». كان استشهاد القسام خبرًا صاعقًا للبعض، ومحفزًا لآخرين كبهجت أبو غريبة، الذي أسّس منذ 1934 تنظيمًا مسلحًا صغيرًا، لم ينفذ عمليات مسلحة إلا بعد رحيل القسام، الذي تحول لقدوة وطنية ومثلًا أعلى لما يكون عليه النضال.
عمل تنظيم أبو غريبة في القدس بشكل أساسي، وتعاون مع تنظيمات مماثلة في فلسطين، والمثير في أبناء تنظيمه أنهم حرفيّون ومعلمون، لا تاجر فيهم أو سياسي أو وجيه؛ من الحذَّائين إلى الخياطين والمعلمين والعمال، وبعضهم حدادون ونجارون.
لم يكن وعي الفلسطينيين بأنفسهم بوصفهم «فلسطينيين» بقدر ما كانوا يسمون أنفسهم العرب، ولمّا يكن بعد قد تشكّل وعي وطني فلسطينيّ إلا بعد الصدامات والتجارب الكبرى التي مرّ بها الفلسطينيون معًا.
كان لتنظيم أبو غريبة شروط والتزامات، مثل السرية والتجهز للقتال وشراء السلاح. وبعض مبادئ على أبناء التنظيم الاقتناع بها، فمثلًا عملت المجموعة على تغيير توجه الثأر لدى الفلسطينيين: «كنا نعجب لعائلة يُقتل أحد أفرادها من قبل عرب أو حتى أقارب، فتهب للأخذ بالثأر من العائلة المعتدية ولو كانت من أقرب الأقربين»، ولا يحدث المثل لو قتلَ صهيونيٌ ابنهم. ورأى أبو غريبة أن مهمتهم هي الثأر للفلسطينيين من الصهيونية، حتى لو كان «العربيّ» المقتول من أبعد نقطة في فلسطين. وعلى خطا القسام: بوصلة المقاومة كانت شاملة للانتداب البريطاني والحركة الصهيونية.
«الموت ولا المذلّة»
تهريب السلاح للحركات الصهيونية المسلحة، التي بدأ عرب فلسطين يشعرون بوجودها ويرون آثارها، مع مقتل القسام والهجرات اليهودية المتتابعة، التي وصلت لـ62 ألف مهاجر رسمي عام 1935، كل ذلك مع ضغط اقتصادي موروث من أيام الحكم العثماني شدّده البريطانيون، تفجّرت عنه ثورة فلسطين الكبرى عام 1936 في غمرة إطباق الظروف المحلية والإقليمية والدولية على حقوق عرب فلسطين.
ثوار فلسطينيون، عام 1938
في مطلع عام الثورة أضربت سوريا لإنهاك الاستعمار الفرنسي إضرابًا دام 60 يومًا وسُمّي بـ«الإضراب الستيني»، وبنجاحه وصل صداه لفلسطين التي ترددت فيها دعوات الإضراب وانطلق بالفعل. ولكنه لم يكن ستينيًا وطال لستة أشهر، كان شعبيًا بامتياز. وكالعادة جاءت النخبة متأخرةً بعد أسبوع من انطلاق الإضراب لتعقد اجتماعًا تعلن فيه زعامتها للأحداث التي انطلقت بالأصل من دونها.
مع مجموعات العمل المسلح السرية المنتشرة في المدن والقرى أُوجدت لجان لتنسيق عمل الإضراب، بدأت عفويًا من الناس، تحفز أهل المدن على الإضراب، وأخرى للإسعاف. ولجأ الثوار للجبال في القرى المقطوعة عن المدن لفقر البنية التحتية للمواصلات والتنقل، وصارت «حصنًا» للثورة كما يصفها أبو غريبة.
تنوّعت أشكال القتال المسلّح ورموزه؛ تنظيم أبو غريبة ركّز جهده على حرق المتاجر اليهودية في القدس وتحديدًا في الحي اليهودي. تنظيمات فلسطينية أخرى ركّزت على استهداف الجنود البريطانيين وتصفيتهم، ومهاجمة مراكز الشرطة والحكومة الانتدابية. كان التسلّح واجبًا على كل شخص القيام به فرديًا على نفقته الخاصة، فركّز المقاومون على خطف الأسلحة من الجنود البريطانيين أو من مراكز الشركة ونقاط تجمعهم. وتحوّلت وردية الحراسة لكابوس بالنسبة لقوات الانتداب. عملت التنظيمات المختلفة في تلك اللحظة بشكل لامركزي متوزّع على كل فلسطين.
استهدفت المقاومة البنى التحتية لحكومة الانتداب، فعملت على قطع الاتصالات وتدمير السكك الحديدية للقطارات ونسفت الجسور. وفي العام الأول للثورة خاض الثوار معارك عدّة واجهوا فيها سلاح البريطان المتطور وطائراته تستهدفهم من السماء. وظلّ العمل على حاله حتى قدوم فوزي القاوقجي، القائد العسكري ذي الخبرة التنظيمية الذي بدأ يعيد تنظيم العمل المسلح تحت قيادة واحدة.
وفي المقابل كان رد الاستعمار البريطانيّ قاسيًا؛ عقوبات جماعية، على القرى والمدن، مالية وعينية، واعتقالات بالجملة، وتطويق للقرى وأهاليها ومنعهم عن الطعام والشراب، وأقسى العقوبات كان نسف البيوت وإخراج أهلها منها. أما الثوار، أو من يعثر على سلاح في بيته فله الإعدام مباشرةً.