هل فكرت مرَّةً كيف تكون الحياة بعد الاعتداء الجنسي؟ بعد أن يُخترق الجسد وتُسلب السيطرة الأولية الفطريَّة عليه؟ لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال، لكنَّ الحياة التي نعرفها قبل الاعتداء تتشوَّه، يجتر العالم أمانه، وقد تدخل الضحية في حالة تروما، ويستحوذ على ضحية الاعتداء الجنسي شعور بالخوف والغضب والذنب ورغبة – ربما غير واعية – بمعاقبة الذات، وبحاجة التطهُّر مما يمثله فقدان السيطرة على الجسد من خيانة.
يُحوِّر الاعتداء الجنسي مفهوم الذات ومفهوم الآخر، وفي حال التعرُّض لاعتداءٍ في عمر مبكِّر تفضُّ براءة الطفولة وتتحطم الحدود ما بين الداخل والخارج، وقد يجعل الاعتداء الضحيَّة في خطرٍ أكبر لتطوير اضطراب طعام؛ لكن.. كيف يكون النهام والإفراط في الأكل والتقيؤ والحمية المزمنة «حلًّا» مغريًا للبعض بعد الاعتداء الجنسي؟
اضطراب الطعام يحميني!
يرتبط اضطراب الطعام بالعادة بمعايير الجمال المجتمعيَّة وبرغبة الفتيات بالحصول على جسد يتَّسق مع مقاييس الشاشات المسطحة؛ يتراءى للذهن اضطراب الطعام غالبًا بصورة فتاة نحيفة للغاية يكاد هيكلها العظمي يخرج من الجلد، تقف أمام مرآة وتحسب نفسها سمينة، بيد أنَّ هذا نوع واحد من اضطرابات الطعام (فقدان الشهيَّة العصبي مقابل اضطراب الشره العصبي أو اضطراب النهام أو اضطراب الاجترار)، إلَّا أنَّ التحكُّم بالأكل يمنح ضحية الاعتداء الجنسي سلاحًا مُتاحًا – في ظاهره – لاسترداد القوَّة وبذلك يؤدي غرضًا أبعد من الشكل الخارجي.
تلجأ الفتاة (أو الفتى) للحصول على المواساة والحماية والتخدير من الأكل؛ فالأكل، في نهاية المطاف، هو أكثر المخدرات وفرةً – والمباحة – لتعديل الحالة النفسيَّة؛ الأكل موجود ومناله سهل ولا يخذل، وبمقدور الأكل العاطفي كذلك أن يُحوِّل ويُشتت الانتباه عن الألم الداخلي، وأن يمنح القدرة على الاختفاء.
قد تواجه الفتيات ردود أفعال مختلفة في أعقاب الانتهاك الجنسي، قد تكون على شاكلة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة – خاصةً في الأسبوعين ما بعد الاعتداء – كالكوابيس والهواجس واسترجاع الأحداث بشكل مفرط، أو نوبات من الهلع والاكتئاب، وفقدان الشعور بالمتعة، أو الانفصال الانفعالي عن الشعور، مثل التهيُّج أو العزلة.
بعض الفتيات كذلك قد تلجأ للنكران في محاولة للتخفيف من وقع الحدث عليها، وعلى الرغم من الاختلاف في ردود الأفعال، فإنَّهن يتشاطرن في محاولة فهم ما حدث ومعالجة التجربة داخليًّا حتى يُدركن النجاة، وقبل هذا كلِّه، يتشاطرن تركيبة دماغ تعمل وفق مبدأ التخفف من الألم الجسدي والألم النفسي على حدٍّ سواء؛ هكذا، فالألم النفسي الناتج من الاعتداء الجنسي، يكون في أصله انتهاكًا للسيطرة على الجسد مما يؤدي لانتهاك الأمان والمساحة الشخصيَّة.
ومن ثم، قد يقعن ضحايا الاعتداء الجنسي في شباك اضطراب الطعام بوصفه قرصَ دواءٍ أوليٍّ للألم، فالانخراط في سلوكيات النهام والإفراط في الأكل أو الحميات القاسية المصاحبة لمبالغة في ممارسة الرياضة كفيلة بإفراز ناقلات عصبيَّة في الدماغ تستجيب للحاجة الملحَّة بالاحتيال على الألم أو تخديره، ولو بشكلٍ مؤقت.
في حالاتٍ أخرى، يكون في سلوكيات اضطراب الطعام استرداد للسيطرة على الجسد التي سُلبت عند الاعتداء الجنسيِّ؛ أي أننَّا حين نفقدُ السيطرة من الخارج نُحاول استرجاعها من الداخل؛ بخلق مساحة للتحكُّم بما يدخل إلى الجسد، وهنا تجدُ ضحايا الاعتداء الجنسي في الأكل أداة متاحة وسهلة – غير واعية في كثيرٍ من الأحيان – لاسترجاع ما نُهِب منهن؛ فالامتناع عن الطعام – في حالة فقدان الشهيَّة العصبي – يعني التغلُّب على الغريزة والحاجة الفطريَّة الأولى، كما أنَّه يستجيب أحيانًا لشعور الذنب اللاواعي بالحاجة لعقاب الذات وعدم احتلال حيِّز.
بالإضافة لذلك، قد يكون الانغماس في سلوكيات اضطراب الطعام – مثل اضطراب الشره المرضي العصبي – وسيلة لملء فراغٍ في داخل الضحية، بينما لا تكون عمليَّة التقيؤ التي تليها محاولةً للتخلص من الطعام المُفرِط فحسب، بل محاولة لتقيؤ الألم وندوب التجربة التي لا تحظى في كثيرٍ من الأحيان بملاذٍ غيره.
لا تقتصر قروح الاعتداء الجنسي على فقدان السيطرة فحسب، بل قد تطوِّر سلوكيات اضطراب الطعام – كالإفراط في الأكل العاطفي – استجابةً لرغبة الضحية في الاختباء وفي صرف النظر عنها نتيجة لشعورها بالذنب والخجل مما حصل، وقد يكون النزول بالوزن أحيانًا مخيفًا لما يسببه من شعور بالصغِر والعودة لحجم يحمل معه أحداثًا صعبة كنَّ فيها عُزَّل أمام الاعتداء، في حالات كثيرة، يُصبح الجسد الذي استبيح ممثلًا لكل ما تكرهه الضحية في تجربتها ومشاعًا لإسقاطات الاعتداء الجنسي غير المعالَج.
لفتت نسبة الفتيات اللاتي يُعانين من اضطراب في الطعام وتعرَّضن لاعتداء جنسي في الطفولة انتباه علماء النفس، فأخذوا يبحثون العلاقة ما بينهما، لا تشير الأبحاث لعلاقة سببيَّة بين الاعتداء الجنسي وتطوُّر اضطراب طعام، ولا لكون الاعتداء الجنسي شرطًا في تطوُّر الاضطراب، إنما لكون الاعتداء الجنسي في الطفولة يشكِّل عامل خطرٍ يحفز تطويره، تقترح بعض الأبحاث أنَّ 30% من البالغين الذين يعانون من اضطراب طعام – على طيف اضطراب الشره المرضي العصبي – يذكرون تعرَّضهم لاعتداء جنسيٍّ في طفولتهم، لكن يحذر الباحثون من الجزم في الأرقام والنسب لكونها تدرس الحالات الإكلينيكيَّة التي تتفق مع معايير التشخيصات المعتمدة.
عن الجوع وتروما الجسد
في كتابها «الجوع – Hunger» تسرد روكسان جي مذكرات جسدها منذ لحظة تعرُّضها للاغتصاب حين كانت في الثانية عشرة من العمر وصولًا للمرأة التي أصبحت عليها اليوم، والتي وفق تعبيرها تُصنَّف في قائمة السمنة المفرطة المرضيَّة، لم تكتب روكسان جي مذكرات جسدها لاستجداء بعض العاطفة أو لخداع القارئ، إنما ببساطة كتبت قصَّتها الحقيقيَّة.
فروكسان جي لا تجعل قراءة الكتاب عمليَّة سهلة، إنَّما تأسرك وتصفعك ألف مرَّة بوعيها الذاتي، وهي تسرد تجاربها في ممرات الطيارات الضيِّقة وفي كراسي صالات السينما والعروض، وتصفعك ألف مرَّة أخرى حين تغرس مرآة في وجه ممارسات المجتمع التي تُطلق عليها الأحكام والافتراضات، التي لا تتوانى في التعبير عن «القلق» على صحتها والإيمان المطلق أنها بوصفها امرأة – وامرأة سمينة- تشغل الكثير من الحيِّز.
روكسان جي – مصدر الصورة: لوس أنجلوس تايمز
تتحدث روكسان جي عن أمور – والتي لأسباب كثيرة – يمتهن المجتمع كنسها تحت الطاولة، تكشف روكسان جي الغطاء عن ثقافة الاغتصاب وعن السمنة وعن الحراكات المنادية لتقبل البدانة، كما أنَّها لا ترغب بأن يُطلق عليها لقب «ناجية» بعد تعرُّضها للاغتصاب، فهي ضحيَّة، تعرَّضت للانتهاك والأذى وما زالت تعاني من جرَّاء ما حدث ولا رغبة لديها في التحوُّل لشيء أقوى مما هي عليه في الحقيقة.
«لا أريد شفقة أو تقديرًا أو نصيحة، أنا لستُ شجاعةً ولا أمارس دور البطولة، أنا لستُ قويَّة؛ أنا لستُ مميَّزة؛ أنا امرأة تعرَّضت لتجربة تتعرض لها ما لا يمكن إحصاؤه من النساء؛ أنا ضحية استطاعت النجاة». *روكسان جي من كتاب «الجوع»
كثيرة هي الجوانب التي تتشابه بها اضطرابات الطعام والاعتداءات الجنسيَّة، فمثلما قد يكون الجميع عرضةً للعنف الجنسي، فاضطراب الطعام أيضًا لا يفرِّق بين الأعمار والجنس والهويات المختلفة، لا يمكن الإشارة بالبنان لعاملٍ واحدٍ لتطوير اضطراب طعام، لكن التروما محرِّك أساسيٌّ في طريق الألم.
قد لا يعي الكثير كيف توفِّر اضطرابات الطعام شعور الحماية والتخفف في أعقاب الاعتداء الجنسي، لكنَّ استخدام سلوكيات الاضطراب للتأقلم مع إسقاطات التجربة؛ وللاستجابة لحاجة التخدير يؤذي بدوره النفس والجسد، قد تمدُّ اضطرابات الطعام الضحية بالسكينة المؤقتة، لكنَّها لا تقدِّم حلولًا مستدامة تساهم في رحلة التعافي؛ هذه الرحلة التي تبدأ بالتصالح مع الجسد وباحتضانه والاعتناء به مهما كان شكله، ومن ثم الوعي بأنَّ الوسيلة التي استعان بها لاسترداد شعور السيطرة بوسعها أن تحكم قبضتها علينا للأبد، فالتحرر من تروما الجسد ممكنة، التعافي ممكن، وهنالك الكثير من الأيادي الممدودة والقادرة على احتواء الضحايا ودعمهم طوال المسير.