في عهد الرئيس الأمريكي الحادي والثلاثين هربرت هوفر، الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة في الفترة من العام 1929 إلى 1933، ولم يكن محظوظًا بما يكفي ليمكث في السلطة أكثر من مدة رئاسية واحدة لوجوده في فترة تعد من أحلك فترات الاقتصاد الأمريكي، وهي الكساد الكبير؛ عمل الرئيس على إنعاش قلب الاقتصاد الأمريكي المريض ليخرج من حالة الكساد التي تضرب أوصال الدولة، لاسيما وهي الدولة الفتية التي تبحث عن الخروج من الحرب العالمية الثانية بأقصى استفادة ممكنه، فكان الكساد الكبير هو عائقها الوحيد.
من رحم الفكاهة
قام هوفر بتنفيذ العديد من برامج الإنعاش، منها القيام بمشاريع حكومية كبرى، مثل سد هوفر، ودعى المستثمرين وأربابَ الأعمال إلى الحفاظ على مستويات الأجور، وعدم إجراء تخفيضات عليها، ولكن لم تؤدِ إجراءات هوفر، إلا إلى المزيد من غرس أقدام الاقتصاد الأمريكي في الوحل، وبينما كانت الأمور تزداد تدهورًا، خرج الفكاهي الأمريكي ويل روجرز ساخرًا من جهود هوفر للإنعاش، فقال عبارته الشهيرة التي لم يكن يريد بها سوى إضحاك الجماهير: «تم تخصيص كل الأموال للطبقات الغنية، على أمل أن تنساب إلى المحتاجين»، لم يكن روجرز، الذي مات بعد عام من خروج هوفر من السلطة، يعلم أن مزحته ستصبح بعد أعوام قليلة عقيدة اقتصادية لدى رؤساء الولايات المتحدة الجدد ستتم بلورتها فيما بعد في نظرية اقتصادية شهيرة.
في عام 1963 خرج جون كينيدي في أحد خطاباته؛ ليقول أحد الأمثال التي تم اعتبارها فكرة مماثلة لمزحة روجرز، وهي أن «ارتفاع المد يرفع كل القوارب»، وتعني أن النمو الاقتصادي سوف يساعد الجميع، سواء من يملك يخت بطول 100 قدم أو من يملك زورق. وحتى ذلك الوقت، لم تكن مزحة روجرز قد تبلورت بعد ليتم تداولها في الأدبيات الاقتصادية كنظرية شهيرة.
ريجان يؤسس للنظرية
لم تتحول المزحة إلى اتجاه اقتصادي يحكم من قبل الإدارة الأمريكية، إلا في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة في الفترة من 1981 إلى 1989، ويعتبر الشخص الأكثر صلة بجذور مزحة روجرز، حيث تم تحويلها في بداية عهده إلى نظرية ما يعرف بـ«الإنسياب الاقتصادي التدريجي»، لتصبح تلك النظرية في غضون عقدين من الزمان عقيدة اقتصادية لدى مناصريه ومن يسير على دربه في حكم الولايات المتحدة، لتنتشر النظرية فيما بعد إلى أنحاء العالم علمًا ونقدًا، وربما تطبيقًا في بعض الأحيان.
وتقوم فكرة نظرية الانسياب الاقتصادي التي أصبحت محور الإدارة الاقتصادية في عهد ريجان؛ على أن الفوائد الاقتصادية التي تُمنح للمستثمرين الأثرياء والشركات ورجال الأعمال، تنساب تدريجيًا على أفراد المجتمع الأفقر، مما يهيء فرصًا جديدة للمحرومين اقتصاديًا لتحقيق مستوى معيشي أفضل، وتمثل تلك الفوائد الاقتصادية التي يجب أن يحصل عليها الأغنياء، حتى تعود بشكل مباشر على الفقراء، خفض الضرائب على نطاق واسع، وذلك ضمن حزمة من السياسات تتضمن انخفاض الإنفاق الحكومي، وزيادة الإنفاق العسكري، وإلغاء القيود المفروضة على الأسواق المحلية، وقد انتهج ريجان نظرية الانسياب الاقتصادي في محاولة منه لتحفيز النمو للخروج من الركود الاقتصادي الذي بدأ في عهد الرئيس جيرالد فورد في عام 1976.
وبالتالي فوفقًا للنظرية فإن ازدهار الأغنياء يؤدي إلى ازدهار الجميع، كما يعتقد معتنقي ذلك الفكر، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي رونالد ريجان. وبناء على ذلك، ينبغي على الإدارة الأمريكية أن تُعجل في إجراء التخفيضات الضريبية، خاصة للشركات من أجل تحفيز النمو الاقتصادي؛ لأن تخفيض الضرائب يعمل على انخفاض نفقات الشركات، وبالتالي تتولد وفرة يتم إعادتها إلى الاقتصاد من جديد في صورة توسعة لمشاريع قائمة أو بدء أنشطة استثمارية جديدة، وبالتالي توظيف العديد من الأفراد ومنحهم رواتب يقومون بإنفاقها ليرتفع النمو الاقتصادي من جديد.
اقتصاديات ريجان
عرفت سياسات الرئيس ريجان الذي جاء إلى سدة الحكم والاقتصاد الأمريكي يعاني من سنوات من الركود، حيث ترافق ارتفاع معدلات التضخم مع ارتفاع معدلات البطالة؛ مما دفع ريجان إلى اقتراح سياسة اقتصادية ذات أربعة محاور تهدف إلى خفض التضخم وتحفيز النمو الاقتصادي والوظيفي، وهي: 1) تخفيض الإنفاق الحكومي على البرامج المحلية، 2) خفض الضرائب للأفراد والشركات والاستثمارات، 3) الحد من أعباء اللوائح التجارية، 4) دعم تباطؤ نمو الأموال في الاقتصاد، عرفت تلك السياسات بـ«اقتصاديات ريجان» (Reaganomics) والتي تقوم في مجملها على عبارة الممثل الكوميدي روجرز.
وقد أطلق جورج بوش الأب قبل أن يعمل نائبًا للرئيس ريجان في ذلك الوقت؛ على «اقتصاديات ريجان» مرادفًا لم يقل شهرة عن الأول، وهو «اقتصاد الفودو» (Voodoo Economics).
خفض ريجان الضرائب بشكل كبير، وانخفضت الشريحة الضريبية الأعلى من 70% لمن يزيد دخله عن 108 ألف دولار إلى 28% لكل من يمتلك دخل يزيد عن 18.5 ألف دولار، كما خفض ريجان معدل الضريبة على الشركات من 46% إلى 40%، وذلك تماشيًا مع نهج النظرية، كما زاد ريجان من حجم الإنفاق الحكومي بنسبة 2.5% سنويًا، ولكن معظمه كان يذهب للإنفاق العسكري؛ مما رفع من حجم الدين الاتحادي بنسبة ثلاثة أضعاف تقريبًا، حيث نما الدين من 997 مليار دولار عام 1981 إلى 2.89 تريليون دولار عام 1989.
لم تنته نظرية الإنسياب الاقتصادي عند نهاية فترة ريجان وفقط، وإنما قام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن باستخدامها عام 2001، فقام بتخفيض الضرائب على الدخل، وبعدها بعامين قام بالمزيد من تخفيض الضرائب التجارية، ولم تزل النظرية تمثل اعتقادًا صلبًا في الفكر الاقتصادي المحافظ داخل الولايات المتحدة وخارجها، حتى صدور بحث صندوق النقد الدولي أو لنقل زلزال صندوق النقد المتعلق بنتائج تلك النظرية.
وحتى بعد تيقن الغالبية العظمى ممن أيدوا وناصروا النظرية، من فساد منطقها، بحسب تقرير صنوق النقد الدولي الشير عنها، جاء الرئيس ترامب في حملته الانتخابية وطرح برامج في مضمونه يعود إلى نظرية الانسياب الاقتصادي، وصرح بذلك في أكثر من موضع حيث أراد تقليل الضرائب عن الأغنياء وإنهاء الضرائب على الأرباح الرأسمالية لكل شخص يقل دخله عن 50 ألف دولار؛ ليصبح مثار انتقاد حاد من الديمقراطيين، وعلى رأسهم غريمته هيلاري كلينتون، خاصة خلال أول مناظرة بينهم؛ حيث قالت هيلاري: «إن نوع خطة ترامب الاقتصادية ستكون نظرية الانسياب الاقتصادي من جديد. في الواقع ستكون النسخة الأكثر تطرفًا، حيث سيقوم بأكبر تخفيضات ضريبية لأعلى فئات المجتمع أكثر مما حدث من قبل»، وقالت هيلاري ردًا على تصريحات ترامب بشأن سياساته الاقتصادية المقترحه «أنا أسميها (ترامبد الانسيابية)؛ لأن هذا هو بالضبط ما سيكون عليه الوضع».
المفاجأة.. الانسياب لأعلى لا للأسفل
أما عن الأمر المنطقي المتعلق بنتائج نظرية الانسياب الاقتصادي التي حولها ريجان من عبارة مسلية للضحك إلى نظرية اقتصادية، فهو أنها يجب أن تساعد الناس عند مختلف مستويات دخلهم، وخاصة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، حيث ينجم في نهاية المطاف مساواة في الدخول بين الأغنياء والفقراء؛ لأن الفوائد الاقتصادية التي حصل عليها الأغنياء من المفترض أن تنساب تدريجيًا إلى الطبقات الأقل كما تقول النظرية، ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، ففي الفترة ما بين 1979 إلى 2005 ارتفع دخل الأسرة من الشريحة الخامسة من أسفل مستويات الدخول بنسبة 6%، بينما ارتفع دخل الأسرة من الشريحة الخامسة من أعلى مستويات الدخول بنسبة 80%، وهو ما يعني أن اللامساواة بين الدخول أضحت فجة بشكل لافت بعد تطبيق النظرية، فما الذي حدث لمزحة روجرز؟
بدأت المسامير تُدق في نعش النظرية من خلال العديد من الأبحاث والدراسات الاقتصادية التطبيقية التي ذهبت جميعها في نهاية المطاف إلى هدم النظرية التي تحكمت في قوت الملايين على مدار عقود، بسبب ظهور النتائج التي تفيد بعكس ما تريده النظرية تمامًا.
وفي تحليله لتوزيع مكاسب الدخل خلال فترات التوسع الاقتصادي، أورد بافلينا تشيرنيفا من معهد ليفي إكونوميكس، رسمًا بيانيًا مستعينًا ببيانات اقتصادية من الحرب العالمية الثانية، يوضح الرسم انقلاب التوازن في توزيع الثروات من غالبية مواطني الدولة إلى أعلى 10%، من الشرائح الأكثر دخلًا خلال إدارتي ريجان وبوش، وبالرغم من أن التفاوت في الدخول كان ينمو بالفعل في الولايات المتحدة، إلا أن سياسات ريجان وتحديدًا نظرية الانسياب الاقتصادي، دفعت هذا التفاوت إلى حدوده القصوى.
يوضح الرسم البياني بالأسفل كيف تضخم العمود الأحمر الذي يمثل نسبة 10% من الأكثر دخلًا، مقارنة بالعمود الأزرق الذي يمثل 90% من بقية الشعب، بالرغم من وجود التوازن بشكل مرضي عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، ليبدأ التوازن في الاختلال بشكل كبير خلال عهدي ريجان وبوش الابن، ومن ثم كان تحليل تشيرنيفا أحد مسامير نعش النظرية.
لم يكن تحليل تشيرنيفا الأول أو الأخير، فوابل من سهام النقد تم توجيهه للنظرية. فالرسم البياني بالأسفل أيضًا الذي تم عمله من قبل «ذي إيكونوميست»، مستندة في ذلك إلى بيانات من إيمانويل سايز من جامعة كاليفورنيا بيركلي وجابرييل زوكمان من كلية لندن للاقتصاد، يوضح كيف أصبحت الثروة تتركز بشكل متزايد في أيدي الأغنياء.
صندوق النقد ينعي النظرية
وفي يونيو (حزيران) 2015 أطلق صندوق النقد الدولي زلزالًا مدويًا بخصوص النظرية التي كانت مزحة في أول الأمر، من خلال دراسة قام بها خمسة باحثين من صندوق النقد؛ مما تم اعتباره آخر مسمار في نعش النظرية التي حكمت لعقود وتحكمت في مصائر ملايين الأشخاص، وكانت نتيجة الدراسة أن زيادة حصة الدخل لأغنى الأشخاص تؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي، وليس تحفيزه كما قال أرباب النظرية، وعلى رأسهم ريجان.
فيقول أصحاب الدراسة: «إن الفوائد لا تنساب»؛ مما يتناقض مباشرة مع النظرية التي اتخذها ريجان عقيدة اقتصادية في الثمانينات، وتبعه المحافظين بعد ذلك. ويركز باحثو صندوق النقد الخمسة على ضرورة زيادة دخل الفقراء والطبقة الوسطى، فتقول الدراسة: «إن توسيع التفاوت في الدخل هو التحدي الأكبر في عصرنا. ففي الاقتصادات المتقدمة، وصلت الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى أعلى مستوى لها منذ عقود».
ويبدو أن رفع مستوى دخول الفقراء له تأثير كبير أيضًا كما تقول الدراسة؛ فارتفاع حصة الدخل بمعدل 1% في الخمس الأسفل من أصحاب الدخول، يؤدي إلى زيادة قدرها 0.38% في الناتج المحلي الإجمالي، وفي الوقت نفسه فإن زيادة بنسبة 1% في حصة الدخل لأعلى 20% دخلًا، تؤدي إلى انخفاض بنسبة 0.08% في نمو الناتج المحلي الإجمالي.
ومنذ صدور كتاب توماس بيكيتي الذي يعد الأكثر مبيعًا حول العالم «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، بدأ العالم ينظر بإهتمام لمسألة تفاوت الدخول الكبير، حيث خلص الكتاب إلى اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء بشكل مخيف، وفي خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2013 وصف فيه عدم المساواة في الدخل «بالتحدي الرئيس في عصرنا»، وفي الوقت نفسه، ندد البابا فرانسيس بنظرية الانسياب التدريجي الاقتصادي، وذلك في بيان شديد اللهجة، حيث قال: إن النظرية تعبر عن ثقة ساذجة في خيرية القوى الاقتصادي الحاكمة، ويقصد بها المستثمرين ورجال الأعمال والأثرياء.