«اسمعيني يا إسرائيل، إن ربنا واحد»، هكذا قال نائب قائد كتيبة في وحدة جولاني وأحد الضباط الأوائل الذين أسسوا وحدة الإيجوز «روي كلين»، قالها وهو يثب إلى القنبلة و«يضحي بنفسه لحماية جنوده في حرب لبنان الثانية من قنبلة يدوية» حسب الرواية الإسرائيلية.

ما الذي فعلته إسرائيل لـ«كلين» بعد موته؟ قلِّد ميدالية من رئيس هيئة الأركان، وسمِّيت المؤسسات والمدارس والمراكز الثقافية باسمه تيمنًا، تمركزت حوله محاضرات القيادة والجيوش، وألفت عنه الكتب، وعرضت أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية أفلامًا عن ذكراه، كما تناولت مسرحيات الحانوكاه في المدارس الإعدادية بطولته، ولم يكن كلين الذي ارتكب الكثير من المجازر بحق الفلسطينيين سوى عسكري إسرائيلي يُفعل له ما يفعله لغيره.

 التراث القتالي.. إسرائيل تدرِّس سيرة عسكريين مجرمين

يعرف القدامى من الإسرائيليين جيدًا، الضابط الإسرائيلي السابق في وحدة (101)، مئير هارتسيون، فهو بالنسبة لهم «بطل قومي» تعمَّد في مسيرته الحافلة قتل المدنيين الفلسطينيين والعرب.

مئير هارتسيون (المصدر: وكالة الوطنية)

لم تكن سيرة هذا الرجل، الذي يعد المسؤول الأول عن تنفيذ مجزرة «قبية» المرتكبة عام 1953، لتفتح الآن إلا لخروج قرار إسرائيلي بتدريس سيرته الذاتية، فقد أقر تدريس سيرة هارتسيون في مدرسة الضباط في الجيش الإسرائيلي، وأصبح على كل ضابط جديد استيعاب مواده، ضمن مادة «تراث المقاتلين»، وهي مادة إجبارية.

وتحتوى يوميات مئير هارتسيون التي قُرِّرَ على الضباط الجدد دراستها على حثّ على قتل المدنيين الفلسطينيين العزل، ويقول هارتسيون الذي يصفه وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، موشيه ديان بـ«الجندي الأسطوري» بأنه قتل أسرى فلسطينيين من مسافة صفر، ويبدي تفاخره بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل «إرييل شارون»، أثنى على صنيعه، كما تفاخر بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل «بن غوريون» كرمه على «شجاعته الاستثنائية»، عندما قتل 15 مواطنًا أردنيًّا عام 1961 بشكل فردي ودون تكليف من قيادته، وذلك انتقامًا لمقتل شقيقته، يصل «هارتسيون» إلى حد الإقرار بأن رغبته الجامحة في قتل العرب دفعته إلى استخدام سكين في قتل فلسطيني بنابلس، في يونيو (حزيران) عام 1954.

أدي دربان (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)

وتعدُّ أبشع المجازر التي ارتكبتها الوحدة (101) هي مجزرة قريبة قبية (رام الله)، إذ قام هارتسيون عام 1953 بتكليف من شارون بتفخيخ منازل القرية ومدرستها ومسجدها، وقتل المصلين أثناء صلاة الفجر في المسجد. ستدرس أيضًا سيرة العسكري الإسرائيلي «أدي دربان» الذي اشتهر بتنفيذ الإعدامات الميدانية لأسراه من العرب في الخمسينات والستينات، حتى سمي بـ«المصفي الوطني» لدوره في تصفية أسرى الحرب عربًا وفلسطينيين، يقول عنه الكاتب الإسرائيلي، ياكوف سيرل: «أخبرنا أدي دربان بعض القصص العظيمة عن كيفية وصوله إلى الخليل في عام 1954، لقد قام بتشغيل قوات الأمن، لقد كان ملهمًا جدًا وقدم لنا جميعًا إحساسًا بالفخر الذي كنا نلتقي به مع مثل هذا المقاتل العظيم».

إعادة روح الانتقام تجلب «الردع»

«الثقافة التي تربينا عليها هي الانتقام بغرض الردع»، بهذا المبدأ برر مئير هارتسيون تعمده قتل المدنيين الفلسطينيين والعرب، لقد كان نموذجًا يمثل السياسة الإسرائيلية في خمسينيات القرن المنصرم، القائمة على ارتكاب المجازر من أجل ردع العرب.

وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه ديان (المصدر: جريدة الوطن)

تحدثنا إلى الناقد والمختص بقضايا التعليم «أمين دراوشة» فقال إن نظرية الردع الإسرائيلية تقوم على المس بالمدنيين لإحداث أكبر ضرر ممكن، وتقليل زمن الحرب، وقد أنشأت وحدة (101) بقيادة إرييل شارون لتحقيق هذه الغاية، وكان أحد قادتها القساة مئير هارتسيون الذي كان يجد متعة في قتل المدنيين الفلسطينيين والعرب، ويؤكد دراوشة المقيم في رام الله أن أمر تدريس سير هؤلاء المقاتلين الذين مارسوا القتل بأبشع صوره ونالوا المديح من أجل ذلك، يعود إلى إعادة روح الانتقام الذي يجلب الردع، بعد أن أصبح بعض الجنود القلائل يرفضون الخدمة في جيش الاحتلال والمس بالمدنيين، فكان لا بد من إعادة التذكير بسير هؤلاء القتلة لينشأ الجندي وحكمته الأبدية «العربي الطيب هو العربي الميت».

ويوضح لـ«ساسة بوست» أنه: «إذا كنا نحن العرب نعتبرهم مجرمين، فإنهم في نظر القادة الإسرائيليين والمجتمع أبطال أسطوريون واجهوا الموت، وساهموا في بناء الدولة، لذا لا غرابة أن يوصف هارتسيون بأنه بطل أسطوري، وأن يعتبره شمعون بيريز مثالًا للبطولة والشجاعة».

مجندة إسرائيلية في تدريب عسكري (المصدر: رويترز)

ويرى دراوشة أن المجتمع الإسرائيلي يسير بخطى سريعة نحو اليمين المتطرف الذي ما زال ينفي وجود الشعب الفلسطيني، ويعمل على تهجيره، واستطاع اليمين الوصول إلى مراكز الدولة المهمة، وما زالت سياسية مكافئة القاتل بدم بارد قائمة، فما زال المواطنون العزَّل عُرضة لمزاج الجنود، وتعرض الكثير منهم للقتل ولم تجد السلطات الإسرائيلية سببًا لمحاكمتهم، مضيفًا: «إن تدريس ما يسمى التراث القتالي لهؤلاء الضباط دعوة صريحة إلى مزيد من القتل والتهجير، ومحاولة لخلق جيل لا يعرف التهاون مع العرب حتى ولو كانوا مدنيين، الذين يوصفون دائمًا بالمجرمين والقتلة واللصوص».

قادة إسرائيل الآن غير معنيين بإظهار «الوجه التجميلي»

في الثاني عشر من أبريل (نيسان) عام 1984، أقدم أربعة فلسطينيين على تنفيذ عملية خطف حافلة إسرائيلية، تحمل رقم 300، ويتحدد خط سيرها بين مدينتي تل أبيب، وعسقلان باتجاه غزة. سرعان ما أعلنت القوات الإسرائيلية التي هاجمت الحافلة المختطفة أنها قتلت الفلسطينيين الأربعة، لكن صورة نشرتها صحيفة «حدشوت» العبرية، أظهرت أنّ اثنين من الأربعة وهما «صبحي أبو جامع» و«مجدي أبو جامع»، لم يقتلا خلال الاشتباك؛ بل تم اعتقالهما من قبل الشاباك الإسرائيلي أحياء، ثم تم ضربهما بالحجارة وبأدوات حديدية على الرأس حتى الموت، تلك الصورة التي أثارت الرأي العام الدولي، دفعت إسرائيل لإغلاق صحيفة «حدشوت» عدة أيام، واضطر وزير الأمن في حينه «موشيه آرنز» إلى تشكيل لجنة تحقيق زوَّرت الحقائق بغية التهرُّب من المسئولية عن الجريمة، وخداع الرأي العام العالمي.

رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو

هذه الحادثة تشير إلى أن إسرائيل لم تكن معنية بإظهار الرأي العام الإسرائيلي، والقوانين الإسرائيلية على أنها تسمح بقتل الفلسطيني حتى لمجرد الشك أنه سينفذ عملية ما ضد إسرائيل، لكن الواقع تغير الآن، ويرجع ذلك المحاضر الأكاديمي، محمد عبد الرؤوف محاميد، إلى أنَّ الحكومة الإسرائيلية الحالية، هي حكومة ذات طابع ديني وقومي، ولا تملك ما امتلكه السياسيون في إسرائيل من قبل من التملق السياسي، مضيفًا لـ«ساسة بوست»: «وزراء هذه الحكومة يتفوهون بما يشعرون، وبدون تردد، وهم غير معنيين بإظهار الوجه التجميلي، الذي تحلى به رجال الحكومات السابقة».

يتابع المحاميد القول: «هم يريدون تغيير الرواية الصهيونية الحديثة، والتي تخدم مصالحهم، ولذلك ساد في الآونة الأخيرة مصطلح جديد حين يتم تصفية الفلسطينيين الذين يقومون بعمليات طعن، أو أي عمل شبيه، فهم يطلقون على مثل هذه العملية اسم (تحييد = ניטרול) إذ تعطي القوانين الجديدة في إسرائيل الحق لأي شخص إسرائيلي المشاركة في قتل أي فلسطيني، يُشك أنه سيقوم بعملية ضد إسرائيلي، تحت مصطلح (تحييد المخرب)»، ويعقب «محاميد» المقيم بـ«أم الفحم»: «هكذا أصبحت عملية قتل الفلسطيني مباحة ومستباحة، وذلك على عكس ما كان في سنوات الثمانينات، وعليه لا غرابة في تدريس السيرة الذاتية لصهاينة، قاموا بعمليات قتل ضد أفراد عُزّل لا يملكون السلاح؛ بل لم يفعلوا أي شيء ضد إسرائيل، أمثال مئير هارتسيون أو آدي دربان؛ لأنه تم شرعنة قتل الفلسطيني دون محاكمة، ويتم قتله ليس بحالة الحرب؛ بل لمجرد الشك».

عناصر من جيش الاحتلال الإسرائيلي

ويشير المحاميد أيضًا إلى تراجع الاهتمام الرسمي الإسرائيلي باحترام القانون الدولي، الذي يتيح محاكمة أي شخص إسرائيلي يقتل فلسطينيًّا بدم بارد، ويضرب مثلًا بما حدث في قضية الجندي الإسرائيلي «اليؤور عزاريا» الذي قتل الفلسطيني عبد الفتاح الشريف، بالقرب من الخليل، فلمجرد القرار بمعاقبته، شنت قوى اليمين حملة مسعورة ضد الرئيس الإسرائيلي «رؤوفين ريفلين»، واتهمته بأنه منحاز لليسار الإسرائيلي، ويعقب «محاميد» بالقول: «هذه الحادثة تثبت مدى تطرف السياسة الإسرائيلية التي لم تعد تخفي حقيقتها في العداء لأي فلسطيني، ومن هنا فإن أشخاص مثل مئير هارتسيون، وأدي ديربان يعتبران بطلين قوميين، وليسا قاتلين، في نظر السلطة الإسرائيلية».

وينتقد الإسرائليون الآن ما يعتبرونه فصلًا بين التربية والسياسة في المؤسسات التعليمية الإسرائيلية، إذ يرون أن ذلك أدى إلى هروب الأجيال الإسرائيلية الشابة من السياسة، وله نتائج سلبيّة، يقول باحث كبير في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية ومحاضر في قسم التاريخ بجامعة تل أبيب، البروفيسور إيال نافيه، إنه بسبب الفصل بين السياسة والتربية: «تعامل الشباب الإسرائيليون مع السياسة على أنها تمثل الفساد والزيف وتفتقر إلى الجانب الأخلاقي، بالإضافة إلى أنّهم لا يعتبرون أنّ السياسة هي مركب جوهري في تحديد هويتهم. وفي محصّلة ذلك نشأ في إسرائيل جيل أو جيلان يفضّلان الهرب من السياسة، وفي ذات الوقت يتوقان إلى شخص قوي بإمكانه أن يفرض نظام».

كيف تغلغلت الروح العسكرية الإسرائيلية في التعليم؟

هو أحد قادة وحدة كوماندوز الأركان العامة وجنرال في «جيش الدفاع الإسرائيلي»، هاجر من فرنسا للعيش في القدس، وفي أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية تلقى تعليمه.

شهيد فلسطيني

إنه المقدم «إيمانويل مورانو» الذي كان جنديًّا قتاليًّا حتى سقط في حرب لبنان الثانية، لم تنتهِ سيرته بعد وفاته؛ بل تقلد بعدها جائزة القدس للبطولة اليهودية في مؤتمر القدس السنوي، وبغية إضفاء أسطورية وفردانية على شخصيته حظرت إسرائيل نشر صورته، عكس الضباط الآخرين، لم تكتف إسرائيل بتخليد «مورانو» في أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية؛ بل خلدت ذكراه في الأفلام والمسرحيات، فتناول فيلم «أسطورة مورانو» سيرته الذاتية، وقارنه الفيلم باليهودي «شمعون بار كوخبا»، الذي يزعم اليهود أنه ثار ضد الرومان، «مورانو» هو نموذج واحد يمثل ثقافة إسرائيلية قائمة على تخليد ذكرى الجنود الذين يسقطون أثناء خدمتهم العسكرية، ثقافة تحولهم من شخصيات خاصّة إلى أخرى عامة، بغية جعلهم نماذج محاكاة دائمة في الثقافة الإسرائيلية.

متطرف إسرائيلي

ويعد ذلك تمخض لما ارتأته الحركة الصهيونية من تطويع التاريخ وتجنيده لخلق مجتمع إسرائيلي متجانس، فنظرة يسيرة على قانون التعليم لعام 1957، يتضح منها أن هناك أهدافًا حكومية إسرائيلية تحققها المناهج الدراسية، تتمثل في إرساء التربية على قيم الحضارة الإسرائيلية، والإخلاص للدولة وشعب إسرائيل، والوعي لذاكرة البطولة، وتبين الباحثة هالة إسبانيولي في ورقتها «الأيديولوجيا الصهيونية وانعكاسها في كتب التدريس العبرية»، أن الأهداف الخاصة لتعليم التاريخ، هي: «تعليم التاريخ يجب أن يزرع في الطالب حب دولة إسرائيل، والرغبة في العمل من أجلها، والحفاظ على كيانها، فقد جاء في البرنامج المكمل للمدارس الثانوية أن الهدف من تعليم التاريخ هو تجذير الاعتراف القومي في قلب الطالب، وتعزيز الشعور لديه بالمصير اليهودي المشترك، وأن تغرس في قلبه محبة الشعب اليهودي»، أما الباحثة الإسرائيلية، حاجيت غور، فتوضح في كتاب «العسكرة في التعليم» أن: «مسار الارتباط بالجيش (الإسرائيلي) يبدأ منذ روضة الأطفال، ويستمر لغاية التجنيد للخدمة العسكرية، وذلك من خلال مواد ومواضيع التعليم والدروس التربوية والتهيئة لجيش الدفاع الإسرائيلي».

ولذلك كان ضمن مناهج التعليم الإسرائيلية، وبجانب بنود المواضيع الدراسية الخاصة بتاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، هناك مواضيع تتعلق بدراسة السير الذاتية لكبار القادة العسكريين الذين ترى إسرائيل أنهم حققوا «إنجازات» خلال الحروب مع الفلسطينيين والعرب، كما تشمل الأنشطة اللامنهجية قيام مؤسسات التعليم بتنظيم رحلات للطلاب للمتاحف التي تخلد ذكرى جنود وضباط قتلوا في حروب إسرائيل، وأشهرهم متحف «ياد لبنيم».

المصادر

تحميل المزيد