غالبًا ما نسخر من الحلول المعتادة التي يقترحها علينا موظفو خدمة العملاء في شركات الإنترنت عندما نتصل بهم لنشكو من بطء الخدمة، وغالبًا ما يفقد المتصل أعصابه أثناء حديثه مع ممثل «الكول سنتر» بسبب ما مر به من مشكلات في الإنترنت، خاصة إذا كان يباشر عمله من المنزل وبطء الإنترنت يعرضه للتعنيف من مديريه، فيبحث بدوره عمن يعنفه، وتعد الحادثة التي وقعت في مركز خدمة عملاء واحدة من شركات الاتصالات الشهيرة في مصر، حين تعدى موظفو خدمة العملاء بالضرب على أحد العملاء؛ نموذجًا دالًّا على التوتر القائم بين المتصل ومتلقي الاتصال في خدمة العملاء.
فالعملاء لا يعرفون الكثير من الكواليس التي يتعرض لها موظفو «الكول سنتر»، وفي هذا التقرير ومن خلال سرد الشهادات الحية والاستفادة من الدراسات الموثقة؛ نفتح لك عزيزي القارئ نافذة صغيرة على الكواليس النفسية للعاملين بـ«الكول سنتر».
الجانب الآخر من القصة
الشخص الذي يحدثك أثناء اتصالك بخدمة العملاء، ويبدو الود في صوته، وربما يحاول أن يلقي دعابة ليخفف من حدة توتر الاتصال؛ هو بنسبة كبيرة يعاني من مشكلات نفسية تمنعه من النوم وممارسة حياته بشكل طبيعي، ويعاني بعض العاملين في «الكول سنتر» من متلازمة «احتراق الكول سنتر» أو متلازمة «إرهاق الكول سنتر» و«اكتئاب الكول سنتر»؛ وغيرها من المصطلحات النفسية التي حاولت شرح التأثير النفسي والجسدي الذي يتعرض له موظفو «الكول سنتر» بعد سنوات من العمل في تلك الوظيفة.
وأكدت دراسة نُشرت عام 2014 تحت عنوان «Health Issues Amongst Call Center Employees» أن لوظيفة «الكول سنتر» العديد من الآثار النفسية والجسدية على العاملين بها، من أهمها القلق، والتوتر، والعصبية، والأرق، والاكتئاب، ولكل تلك الآثار النفسية أثر جسدي بجانب الإجهاد البدني.
ووجدت الدراسة أن أمراضًا مثل آلام الظهر، وآلام الكتف، ومشكلات الجهاز الهضمي، وزيادة الوزن، والصداع بسبب إجهاد العين والأذن، من الأمراض الشائعة بين موظفي «الكول سنتر»، فيما أفادت بعض الدراسات التي تركز على المرأة العاملة في هذا المجال، بأنها تعاني من ارتفاع ضغط الدم، واضطرابات النوم، ومشكلات صحية متعلقة بالدورة الشهرية، وأمراض الجهاز التنفسي، والجهاز الهضمي أيضًا.
مجدي، 40 سنة، عمل في مهنة «الكول سنتر» ما يزيد على 15 عامًا حتى ترقى وأصبح مديرًا لفريق عمل بالشركة، يؤكد لـ«ساسة بوست» أنه استطاع تأمين نفسه ماديًّا في هذه المهنة بعد أن قرر ألا ينفق المال مثلما يفعل زملاؤه على الطعام طوال مدة العمل، لأنه كان يعلم أن هذا العمل يستنزف صحته وشبابه؛ فكان لا بد على الأقل من مقابل مالي يشعر بأنه ضحى بكل هذا من أجله.
«عندما أعود إلى البيت؛ لا أريد أن أسمع صوت أحد حتى لو كان صوت زوجتي وأبنائي»، يقول مجدي لـ«ساسة بوست» ويؤكد أنه كثيرًا ما عاد المنزل وتصيَّد المشكلات حتى يصرخ في وجه أسرته لما يعانيه من ضغطٍ عصبي ونفسي، خاصة في السنوات التي كان يرد فيها بنفسه على المكالمات الهاتفية، ولكنه بعد أن ترقى ولم تعد المكالمات الهاتفية من صميم عمله، شعر بأنه تحرر من هذا العبء، ولكنه كان ينظر كل يوم إلى الشباب الجدد الذين يأتون للعمل، بشفقة، ومع ذلك لا يكون متهاونًا معهم؛ فعليهم أن يخوضوا التجربة نفسها كاملة، كما يقول.
العاملون في «الكول سنتر»: لسنا أكياس ملاكمة
حين تُجري اتصالًا بخدمة العملاء يرد عليك «الكول سنتر» بآلية وكأنه يردد كلامًا حفظه طويلًا ولا يفكر فيه أثناء نطقه، ولأنك في العادة تتصل وأنت غاضب من سوء الخدمة، ولا تعلم على من تصب جام غضبك، سترى في الصوت شبه الآلي على الجهة الأخرى من المكالمة «فريسة» يمكن تنفيس غضبك بإساءة معاملتها، أنت في هذا الموقف مثل الرياضي الذي يقف أمام حقيبة ممتلئة بالرمل يفرغ فيها غضبه وطاقته، هكذا يحول العميل –دون وعي منه في كثير من الأحيان – متحدث خدمة العملاء لـ«كيس ملاكمة» يصب عليه غضبه، وتلك الظاهرة عبر عنها الباحثون النفسيون بـ«استخدام موظف الكول سنتر كيس ملاكمة».
في كتابه «The Squeaky Wheel» بحث الطبيب النفسي الأمريكي جاي هنش التأثيرات النفسية في موظفين «الكول سنتر» من التنمر الذي يتعرضون له من طرف المتصلين الغاضبين من الشركة التي يمثلها متحدث خدمة العملاء، وفي كتابه خصص هنش مساحة لموظفي «الكول سنتر» للحديث عن الإثارة التي يتعرضون لها خلال ساعات عملهم، والتي وصفها الطبيب بأنها «دراماتيكية».
وقد أكدت إحدى الشهادات لهنش أن الانفجار في البكاء أثناء الحديث مع عميل متنمر يُعدُّ حدثًا يوميًّا بين صفوف موظفي الـ«كول السنتر»، وصرحت امرأة في شهادة ضمنها الكتاب قائلة: «لقد وُصفت بالغبية والفاشلة والمتخلفة عقليًّا من المتصلين، كنت أبكي يوميًّا قبل النوم»، ولم تستطع تلك المرأة ترك العمل لأنها كانت شابة صغيرة وأم عزباء لطفلة في حاجة لرعاية مكلفة ماليًّا.
«هل شعرت في يوم بأنك كيس للملاكمة يصب العميل غضبه عليك أثناء ساعات عملك؟» هكذا سألت «ساسة بوست» خالد محمد 35 سنة (اسم مستعار)، والذي عمل في شركة لخدمة العملاء لمدة تزيد على 10 سنوات، فأجاب: «نعم، معظم الوقت».
وأضاف خالد: «في يومٍ ما لم أكن قادرًا على رد الإهانات التي أتعرض لها من جانب المتصلين، ولم أكن أتحمل أصواتهم الصارخة التي تطالبني باسترداد أموال ليست من حقهم لمجرد أنهم لم يقرأوا شروط الشراء جيدًا قبل الدفع، كنت أكظم غيظي ولا أشتكي حتى لزملائي بما أتعرض له».
في السنوات الأولى بدأ خالد يشعر بآلام جسدية أثناء عمله «كول سنتر»، سواء بسبب الغضب المكبوت، أو الجلوس على المقعد من الساعة 11 ليلًا إلى الثامنة صباحًا؛ وهو ما دفعه لتناول عقار «الترامادول» باستمرار، هذا العقار الذي أدمنه لسنوات ولم يكن يستطيع الاستغناء عنه، بل ينفق أموالًا طائلة شهريًّا لشرائه، كي يعينه على تحمل أعباء تلك المهنة.
ما أخبرنا به خالد ليس غريبًا على طبيعة «الكول سنتر»، فقد أكد بعض الباحثين أن رصد أساليب الحياة المدمرة للجسم والصحة بين موظفي خدمة العلماء في الهند؛ أكدت أن 56% منهم يدخنون أثناء العمل في تلك الوظيفة بمعدل قد يصل إلى ما يزيد على علبة في اليوم الواحد، والأهم هو ما رصده الباحثون من شيوع حالات الإدمان للمخدرات والكحول، والتي صاحبها الابتعاد عن الأسرة والأصدقاء على أرض الواقع، والانغلاق على الذات، والإغراق في الإدمان.
يشرح علم النفس أن المواجهة التي تجري بين المتصل وممثل «الكول سنتر» تكون بين جهتين تعرضوا للظلم بسبب الشركة التي يتعاملون معها، فالمتصل غاضب من سوء الخدمة ووقت الانتظار الطويل الذي كان أمامه للوصول لممثل خدمة العملاء، والطرف الآخر (موظف الكول سنتر) يتعرض للظلم من جانب الشركة نفسها من خلال ساعات العمل الطويلة والمراقبة التي تخضع لها مكالماته.
ولكن في هذه الحالة، هناك شخص واحد فقط هو الذي يستطيع أن يفرغ غضبه، وهو المتصل، لأن وظيفة متحدث «الكول سنتر» تمنعه قانونًا من إهانة المتصل أو الانفجار فيه غاضبًا، ولذلك يحدث التنمر من جانب المتصل على ممثل خدمة العملاء وكأنه يعاقبه على ما يعانيه من سوء خدمة، فليس أمامه غيره وهو الآن «كيس الملاكمة» الذي سيفرغ فيه غضبه.
طلاق وقطيعة.. تدمير الحياة الاجتماعية
«لقد طلبت زوجتي الطلاق مرتين بسبب عدد ساعات عملي»، هكذا يقول أحمد، 37 لـ«ساسة بوست» والذي أكد أنه خلال فترة عمله في واحدة من شركات خدمة العملاء، والتي يعمل فيها من الساعة الثانية ظهرًا وحتى الساعة 11 مساءً؛ كادت زيجته أن تنهار مرتين بسبب مواعيد عمله، فزوجته تشعر بأنها «وحدها» في الحياة، بسبب قضائه اليوم خارج المنزل.
يضيف أحمد: «عندما كنت أعود إلى المنزل لم أكن أريد أن أتحدث عن أي شيء، حتى ولو مشكلة تخص زوجتي، فقد تشبعت بالمشكلات عبر مئات المكالمات الهاتفية، فضلًا عمَّا تعرضت له من تعنيف وتنمر سواء من المتصلين أو من مديري»، ويقول متابعًا: «لم تستقر حياتي الزوجية إلا بعد أن تركت هذا العمل وقررت العمل مع أبي في تجارته».
في دراسة نشرت بعام 2017 تحت عنوان «The relationship and effect of role overload, role ambiguity, work-life balance»، وضح الباحثون أن الارهاق في العمل وعدم القدرة على التوفيق بين العمل والحياة الشخصية أمر شائع في جميع الوظائف، ولكن تلك الدراسة ركزت العمل في مراكز خدمة العملاء – الكول سنتر- مؤكدة أن في هذه المهنة يعد من النادر أن تجد عاملًا بها قادرًا على أن يدير حياة اجتماعية أو عاطفية ناجحة.
«بعض الشركات لا تخصص «شيفت» بعينه للموظف» يقول بهاء، 33 سنة، لـ«ساسة بوست» فبعض أيام الأسبوع كان دوامه الوظيفي ليلًا، وفي أحيان أخرى يكون نهارًا، وفي بعض الأحيان كان يعود للمنزل غير مدرك أي دوام سيقضيه في اليوم التالي، ويؤكد أن علاقته بأصدقائه انهارت بسبب هذا العمل، وحياته الزوجية مرت باضطرابات كثيرة كادت أن تنهيها، ولكنه في النهاية اختار أن يترك الوظيفة ويبحث عن عمل آخر بعد أن قضى ما يقرب من 10 سنوات في هذا العمل.
تؤكد واحدة من الدراسات التي رصدت تأثير العمل في خدمة العملاء – الكول سنتر- في الحياة الاجتماعية، أن عدد ساعات العمل والضغط النفسي الذي يتعرض له الموظفون في هذا العمل، تجعل من الصعب عليهم التواصل والتفاعل اجتماعيًّا مع أصدقائهم وأفراد أسرتهم.
وحتى في فترة وجودهم «الجسدي» في المنزل، كما وصفته الدراسة، فإن ذهنهم وعقلهم يكون مُرهَقًا للدرجة التي تجعلهم غير قادرين نفسيًّا على التفاعل مع أفراد الأسرة، ووجدت دراسة أجريت في الهند أن 90% من العاملين في خدمة العملاء لا يجدون الوقت الكافي أو القدرة على التوفيق بين عملهم وحياتهم الأسرية.
«أعمل ما يقرب من تسع ساعات كاملة، السماعة على أذني دائمًا، مديري المباشر يراقب مكالماتي، أتعرض للتنمر يوميًّا، وإن لم أتعرض للتنمر، سيكون عليَّ احتواء غضب الطرف الآخر في المكالمة، فالزبون دائمًا على حق، والذي عادة ما يتصل وهو غير مدرك للعديد من تفاصيل المشكلة ويشعر بأنه على حق دون أن يفهم ماهية حقه»، هكذا يخبرنا مجدي عن طبيعة العمل في وظيفة «الكول سنتر» وما يتعرضون له من مصاعب فيها، فحسب أحمد: «يجب أن تعرفوا أيها الناس أن مشكلتكم الأساسية مع الشركة، وليست مع من يرد على الهاتف».