ما إن نصل إلى سن الخامسة والثلاثين، حتى نشعر بخواءٍ يجبرنا على إحداث بعض التغيرات الحياتية؛ فعادةً ما يتبع هذا السن ما يسمى بـ«أزمة منتصف العُمر»، في تلك الفترات الانتقالية التي نتعثر فيها بحثًا عن أنفسنا ومعنى حياتنا.
لكن الأهم هو ما يحدث تاليًا؛ إذ إن أزمة منتصف العمر هي الخطوة الأولى على طريق النضج، والتي نودع معها «الأنا» القديمة لأنفسنا أو تصوراتنا غير الناضجة عن الذات، ونكون على استعدادٍ لبناء ذاتٍ جديدة، تملك خبرة أكبر، تناسب المراحل التالية من الحياة.
ما لا تعرفه عن «الأنا» وياء الملكية
في المجتمعات الحضرية، يعد امتلاك «الأنا» أو «الإيجو» أمرًا ضروريًّا، خاصةً في الجزء الأول من الحياة؛ إذ تحتاج الطفولة إلى بناء الكفاءة والمهارة وفيما تقوم المراهقة على تكوين الهوية، فيما نحتاج في مرحلة النضج المبكرة من حياتنا إلى إيجاد مهنة مناسبة وتكوين علاقات اجتماعية.
كل هذه المحطات تنتمي إلى مرحلة النصف الأول من عمرنا، التي تتمحور حول أهمية بناء «أنا» الفرد، لكنها مع ذلك ضرورية لما يجب أن يحدث تاليًا في منتصف العمر وهو «إماتة الأنا» حتى نتخلص من العوائق التي تقف حائلًا بيننا وبين النضج الكامل.
ويطلق المتصوفة على تلك العملية «اليقظة الروحية»، أما علم النفس فيطلق عليها اسم «انحلال الذات» اللازم للتحول الذاتي وخلق نفس جديدة أكثر وعيًا بعد الوصول إلى منتصف العمر، لكن قبل أن نتحدث عن مسألة «موت الأنا» باستفاضة، سنتاول أولًا مسألة «بناء الأنا»؛ فهي الخطوة الأولى من أجل الوصول إلى النضج واليقظة الروحية.
وكان عالم النفس الألماني، سيجموند فرويد، أول من أدخل مصطلح «الأنا» إلى علم النفس، وبالنسبة إليه تعد «الأنا» جزءًا من الشخصية يقع بين الرغبات الحيوانية التي تحكم الهوية الفردية، والمعايير الأخلاقية والاجتماعية التي تحكم «الأنا العليا»، و«الأنا» هي الجزء الواعي من الشخصية القادر على اتخاذ القرارات والمعبر عن ذواتنا، مثل أن تقول: «أنا أحب أمي»، أو «أنا أريد تغيير وظيفتي»، فكلاهما يظهر فيهما صوت الذات عاليًا وواضحًا بشكلٍ بارز.
لفظة «إيجو» الإنجليزية لم ترد في أعمال فرويد العلمية مطلقًا؛ إذ استخدم الطريقة التقليدية بوضع «أداة التعريف + أنا» عوضًا عن ذلك.
و«الأنا» في علم النفس، هي الهوية، أو مجموعة من الأفكار والدوافع والعواطف المتمركزة حول الذات، وتحتاج «الأنا» إلى الرعاية والحب من أجل تنشئة سوية، أما تلك الذوات التي لم تتلقَ في سنوات النشأة ما تحتاجه من رعاية لازمة؛ فإنها تنمو وتصبح معطوبة بالوصول إلى منتصف العمر، وهو ما ينتج أجيالًا من الضائعين المرتبطين بالهواتف وألعاب الفيديو من أجل الشعور بوجودهم في مكانٍ ما، وهم إما معزولون عن المجتمع وغير مشاركين في علاقاته التبادلية، وإما عدوانيون.
«يكبر هؤلاء حاملين الذوات الضعيفة نفسها، ذوات فارغة، لا يمكن أن تطبق عليها عملية التخلص من الأنا، لأن هناك فرقًا كبيرًا، بين عدم الأنانية، والأنا الفارغة، والتي نجدها اليوم منتشرةً على نطاق عريض بين الناضجين، وتجعلهم عرضة للتلاعب من الآخرين الذين يعرفون نقاط ضعفهم وقوتهم».. هكذا تقول دارسيا نارفيز، أستاذة فخرية بقسم علم النفس في جامعة «نوتردام».
من هنا تنبع أهمية بناء «الأنا» أولًا قبل إماتتها من أجل النضج في منتصف العمر، وإلا يصبح الأفراد ورقةً في مهب الريح، عرضة للتلاعب من السياسيين والرأسماليين الذين يستثمرون في حماستهم، ويحددون أصواتهم في الصناديق وطرق صرف نقودهم في السوق.
ويُعد ضمير المُتكلم – أنا – اللفظة الأكثر استخدامًا في اللغة (أي لغة)، هي والكلمات المرتبطة بها مثل، لي ومعي وبي، وفي كتب «الصحوة الروحية» تعد تلك الأنا الأكثر استخدامًا، ذاتًا مُتوهمة، فعندما تقول مثلًا: «أنا أريد أن أشرب»، فأنت بالطبع لا تختزل ذاتك في هذا الفعل، إلا أن كثرة استخدام تلك الكلمة وما يعادلها، يشوش العقول، ويجعل الذات تتماهى مع أشياء وأغراض ليست في الحقيقة جزءًا أصيلًا منها.
تمامًا مثل قولك «هذا القلم لي»، فأنت بذلك تنسب القلم إليك، وتعده جزءًا من هويتك، فعبر إضافة ياء الملكية إلى القلم فأنت تعلن تماهيك معه، وعندما تفقد ما تظن أنه ملكك، تبرز المعاناة الشديدة، وهنا يلقي الكاتب الألماني إيكهارت تول في كتابه «أرض جديدة» الضوء على أن سبب المعاناة ليس القيمة الفعلية لما فقدته، لكن لأنه لك، ولأنك جعلته جزءًا من هويتك، ومن ثم أصبح جزءًا من إحساسك المتنامي بالذات، وهو ما يبرر حزنك العميق لفقدانه.
«إماتة الأنا».. هكذا تسللت الصوفية إلى علم النفس
عندما صُلب الحسين بن منصور الحلاج، وهو من أقطاب الصوفية في التاريخ الإسلامي، وصف «لويس ماسينيون» مشهد الإعدام في كتابه «آلام الحلاج»، وفسر الروايات التي أشيعت عن سبب مقتله، ومنها الروايات التي ذكرت الحادثة التي صاح فيها الحلاج من سكرته قائلًا: «أنا الحق»، فاتُّهم بأنه يدعي الربوبية لأن الحق اسم من أسماء الله الحسنى.
وأفرد ماسينيون جزءًا من كتابه للحديث عن المعنى الكامن لمقولة «أنا الحق» والثقافة الصوفية، والتي تعني فناء ذات العاشق في ذات المعشوق؛ إذ لم يقصد الحلاج مقارنة ذاته بالذات الإلهية، بل تخلى، حسب ماسينيون، في تلك اللحظة تحديدًا عن ذاته تمامًا، ليدرك الله في وحدة الموجودات كلها؛ فلا موجود إلا الله؛ هذا ما يمكن أن يوصف بـ«إماتة الأنا».
وفي العقد السادس من القرن العشرين، ظهر فرع جديد من فروع علم النفس، يسمى بـ«علم نفس ما وراء الشخصية-Transpersonal Psychology»، واستخدم أساليبه علماء نفسيون لأول مرة من طرف إبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل.
ويدرس هذا الفرع من علمِ النفس الجوانب الروحانية للحياة البشرية، وفي هذا الإطار استخدم نظريات علم النفس وأساليبه من أجل تحليل الروحانيات، سيرًا على نهج «المدرسة اليونجية» في علم النفس لمؤسسها عالم النفس الشهير كارل يونج ودراساته التي اهتمت بالجوانب الروحية للطبيعة البشرية.
اهتم علم نفس ما وراء الشخصية بدمج «الحكمة القديمة» المتمثلة في الحضارات والثقافات المختلفة مع أساليب علم النفس الغربي الحديث، وذلك لفهمِ التجارب الروحانية بصورةٍ أدق وأفضل، وبطريقة تستند إلى أسس علمية، ونتج من ذلك العديد من الأوراق البحثية والدراسات التي تحلل كل ما يخص التجربة الإنسانية، بما في ذلك الحالات المختلفة للوعي البشري.
وكان من ضمن تلك الحالات، موضوع «الأنا» وتطوراتها وصولًا إلى «موت الذات الأنوية»، وهي المرحلة التي يطلق عليها البعض «اليقظة الروحية»، في حين يطلق عليها علماء نفس ما وراء الشخصية «تحولًا في الوعي» في منتصف العمر وهي مرحلة يتجاوز فيها المرء أناه؛ إذ يمثل انحلال «الأنا» جزءًا من التطور النفسي والروحي للإنسان.
وقد تناول مايكل واشبرن، وهو من رواد علم نفس ما وراء الشخصية، موضوع موت «الأنا» في كثيرٍ من مؤلفاته؛ حتى إنه وصف أزمة منتصف العُمر بأنها تعبر عن تحول في حركة «الأنا»، فإذا كان النصف الأول من الحياة يعتمد بشكل أساس على بناء «أنا» الفرد، بوصفها مهارة لازمة لخوض تحديات تلك الفترة، فإن النصف الثاني منها يركز على العالم الداخلي للفرد عوضًا عن التركيز على الإنجازات الخارجية التي كانت تشبع حاجة «الأنا» في إثبات جدارتها.
«اليقظة الروحية».. أن تبني «الأنا» كي تدمرها مع منتصف العمر
«لا يمكن أن تميت شيئًا غير موجود» هكذا يدلل منظرو علم نفس ما وراء الشخصية عن أهمية بناء «الأنا» أولًا قبل إماتتها، ففي الممارسات الدينية، تعد القدرة على بناء ذات قوية، بالأهمية ذاتها للتخلي عن تلك المكانة وهذا النفوذ الذي يهدف للإعجاب بالنفس من أجل تحول جذري حقيقي في منتصف العمر، كما يحدث مع الصوفية.
وهنا يبدأ في الظهور «جانب الظل» أو «الجانب المظلم» من الشخصية، وهو الجزء الذي نحاول جاهدين إخفاءه ليس عن الآخرين، ولكن عن أنفسنا أيضًا، ويضم الجانب المظلم جوانب الذات المرفوضة؛ لذا يتجنب الأفراد التعامل معه عند الوصول إلى منتصف العمر، ومن ثم بدلًا عن احتوائه والعمل على معالجته ودمجه مع جوانب الشخصية الأخرى، يسعون لإقصائه، ومن ثم يصبح الفرد عرضة للتعالي والغرور والكذب، وغير ذلك من أمراض «الأنا»، التي تترك الأفراد منغمسين داخل أنفسهم بشكلٍ كبيرٍ، وتصبح «الأنا» هي ما تحدد عواطفهم وسلوكياتهم.
ولا يمكن اختزال ذلك في مصطلح «الأنانية»، والتي استقر مفهومها في أذهاننا بأنها اهتمام الفرد بما يريده فقط دون الالتفات إلى المحيط الخارجي؛ إذ إن هناك معاني أخرى تشملها الأنانية أيضًا في علم النفس، مثل الانتقاد الدائم للذات وعدم تقديرها حق قدرها.
فسواء كنت تبالغ في تقدير الذات وتضخمها أم تحط من قدرها، ففي الحالتين أنت منغمس حول ذاتك بطريقة غير صحية، وهو جزء من الجانب المظلم الذي عليك أن تتعامل معه من أجل تطوير الذات مع بلوغ منتصف العمر، وغالبًا ما يكون ذلك جزءًا من عمل الأطباء النفسيين.
ويعمل المعالجون النفسيون مع مرضاهم على «الذات»، من أجل تطويرها وبناء الثقة بالنفس؛ إذ يبحث المعالج مع المريض عن الجرح العميق الذي كان سببًا في إعاقة التطور الصحي للأنا، ويسعون معًا لمعالجته، من أجل تصحيح مسار الذات قبل منتصف العمر.
كيف تحول «الصدق مع الذات» الصوفي لـ«تطوير الذات» في علم النفس؟
في كتابه «طعمٌ واحد» الصادر عام 1999، كتب عالم النفس كين ويلبر أن للأديان عامةً وظيفتين أساسيتين: أولًا تقديم القصص والحكايات التي تعزز تكوين الذات والهوية لدى الأفراد، والثاني التشجيع على التحول الجذري، إلا أن معظم الأديان تتوقف عادةً عند الخطوة الأولى بحسب ويلبر، وهو ما يخلق أشخاصًا متمحورة حول ذاتها.
هذا التمحور حول الذات، حسب ويلبر، غالبًا ما يتبعه تمحور حول القومية والعرق ووجهة نظرنا عن الله، وغير ذلك من الآفات الضارة التي تعمل على التفرقة وتكرِّس الحواجز بين البشر بدلًا من الوحدة؛ إذ لا يدرك هؤلاء المصابون بالتمحور حول ذاتهم أنهم يدمجون «الإيجو» الخاص بهم داخل عالم الروح، وهو ما يفرز العنصرية التي تعبر عن ذات زائفة وصغيرة.
المعنى ذاته تجده داخل الاتجاهات الصوفية التي تشجع التخلي عن تلك «الأنا» الزائفة الصغرى من أجل الفناء في رحاب الله والوصول إليه، ففي نصوص كتاب الخراز البغدادي، وهو واحدٌ من أهم صوفيي عصره بالقرن التاسع الميلادي، المسمى بـ«كتاب الصدق» حدد الخراز مجموعة من الصفات الأخلاقية التي يجب على المسلم الحق اتباعها، منها الصدق، الذي اختاره عنوانًا لكتابه.
أكدت رسائل الخراز أن التطور الروحاني يجب أن يصحبه عمل صالحً، وأن العمل الخارجي والنية الداخلية للفرد يجب أن يصبحا متناغمين، وهو أمر يساعد عليه الصدق مع الذات، وعد الخراز الدرب الصوفي طريقًا يساعد الراغب في القرب من الذات الإلهية، ويرشد المرء بأمان في رحلته التي يمر فيها بعدة محطات، يطلق عليها المتصوفة المسلمون «المقامات»، وفي كل مقامٍ يبلغ المؤمن الصادق حسن النية درجة من القرب الإلهي تكسبه هي الأخرى جوانب مختلفة للصدقِ.
وتتمثل تلك الدرجات في رحلات عدة يخوضها المتصوف المحب داخل نفسه، مثل التوبة، ومعرفة النفس، والقدرة على ضبط النفس، والتمييز بين الحلال والحرام، والزهد، والتوكل على الله، والشعور بالعرفان تجاه الخالق، والإيمان بالقضاء والقدر، والحب الإلهي غير المشروط أو المحدود، وفي نهاية تلك الرحلة يأتي القرب من الله.
تلك الرحلة الروحانية التي يصفها علم النفس الحديث بعملية «تطوير الذات»، من خلال التعامل مع الجانب المظلم منها، ومعالجة صفات الذات المرفوضة عوضًا عن تجنبها ودفنها عميقًا داخل النفس، من أجل الوصول إلى حالة من النضج والسلام الداخلي مع الوصول إلى منتصف العمر.
عن الموت قبل الموت.. دليلك إلى السعادة الداخلية في منتصف العمر
دعمت الصوفية الإسلامية عملية «إماتة الأنا» قبل الجسم، عملًا بالأثر النبوي: «موتوا قبل أن تموتوا»، وقد ورد الحديث في الجزء الثاني من كتاب العجلوني «كشف الخفاء»، إلا أن البعض يشير إلى أن هذا الأثر ينتمي إلى كلام الصوفية الذي يعني الموت اختيارًا بالتخلص من الشهوات قبل الموت الفعلي.
لكن هناك حديثًا نبويًّا يحث على «إماتة الأنا» ونص على: «من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض؛ فلينظر إلى أبي بكر الصديق»؛ إذ شهد له أنه مات قبل أن يجرب الموت الفعلي، أي جرب الفناء، ومن ثم أصبح باقيًا؛ إذ واتته الفرصة لأن يولد من جديد، والولادة الثانية هنا تعني الخروج عن الصفات الحيوانية وارتقاء النفس إلى مرتبة أخرى.
وبالنسبة إلى موت «الأنا» فلا يختلف حديث المتصوفة المسلمين كثيرًا عن المرشدين الروحيين في الثقافة الغربية أمثال إيكهارت تول، الذي ينادي بضرورة التخلص من الذات الأنوية عن طريق الرياضات الروحية، حتى تبلغ «اليقظة»، وقد تناول في كتابه «أرض جديدة» بعض الطرق للتخلص من الأنا، فأصبح كتابه في حد ذاته تمرينًا على الصحوة الروحية.
لكن علم نفس يؤكد أن «الأنا» مثلها مثل أي شيء يقاوم موته، بل تتسلح في ذلك ببعض الوسائل الدفاعية مثل أن تصبح شخصًا هجوميًّا أو دفاعيًّا بخصوص التمسك بهوية معينة؛ إذ تركز الذات المتمحورة حول نفسها على الإعجاب بالنفس والقوة والمكانة والامتلاك، وتكون في حاجة دائمة لنيل القبول المجتمعي، دون أن تنجح أبدًا في الوصول للرضا عن النفس حتى مع بلوغ منتصف العمر، وهنا يمكن للذات أيضًا أن تتصرف بغضب أو بتعالٍ وغرور.
يشير علم نفس ما وراء الشخصية، إلى أن الأفراد يتمسكون بتلك الذات الزائفة حتى بعد تجاوز منتصف العمر، والتي يمكن أن تشيخ دون المرور باليقظة الروحية، فإن تلك الذات تصبح أكثر تطلبًا وتسلطًا مع الوقت، ولذا يشجع هذا الفرع من علم النفس على التحول الجذري وتحرير الوعي من خلال ممارسات مثل التأمل الذي يعلمنا قيمة اللحظة الراهنة، وكيفية الوجود في الوقت الحاضر عوضًا عن الانغماس في الماضي أو المستقبل.
وتعمل تلك الممارسات والتمارين الروحية على تعزيز شعور الفرد بالسعادة الداخلية بدلًا من البحث عنها في العالم الخارجي، هذه السعادة لن تجدها متأرجحة بين الانخفاض والزيادة، لأنها راسخة في النفس، إنها حالة الرضا التي كثيرًا ما نقرأ عنها في الكتابات الصوفية.
وفي العشر سنوات الأخيرة بدأ علماء النفس يهتمون بظاهرة التحول الجذري الروحاني، ودراسة تاريخ التحول النفسي في سيكولوجية الدين، ونظرًا إلى تعقيد هذا الموضوع سيحتاج علماء النفس في المستقبل للتواصل مع رواد العلوم الإنسانية والدينية، من أجل تطوير نظريات وأساليب جديدة تتناسب والمادة موضوع البحث.
من أجل حياة أكثر هدوءًا بعد منتصف العُمر
إذا كان الجزء الأول من الحياة يتمحور حول بناء الذات من أجل خلق ذوات قوية بإمكانها التعامل مع المجتمع؛ فإن الفرد ما إن يبلغ الخامسة والثلاثين؛ يبدأ في الشعور بعدم الراحة وعدم الرضا عن الإنجازات التي حققها في الحياة على مدار العقود السابقة، وهو الأمر الذي قد يفجر أزمة منتصف العُمر لدى البعض، فمشاعر مثل اليأس والإحباط والإحساس بإهدار العُمر قد تجتاح بعض الأفراد في تلك الفترة العُمرية، والتي إذا تجاهلناها سنظل مسكونين بها إلى الأبد، فكيف يمكن أن نتخلص منها؟
في علم النفس اليونجي (نسبة إلى كارل يونج) يُعرف موت الأنا بـ«الموت النفسي»، والذي يعني تحسين المرء لحياته من خلال عمل تغييرات جذرية مع الوصول لمنتصف العمر، كما لو كان قد ولِد من جديد، وهذا التحول يعد أمرًا حاسمًا لإعادة بناء البشر لحياتهم.
ويبدأ العمل على النفس من تقبلها في المقام الأول، يقول عالم النفس كارل يونج: «لا يمكننا تغيير أي شيء ما لم نتقبله»، ومن ثم فإن تقبل علات النفس والاعتراف بالحاجة إلى التغيير يعد الخطوة الأولى، ويرى يونج أن مشاعر الندم والذنب والقلق والاكتئاب هي في الغالب إشارات تحثُّ على ضرورة التغيير، ونتيجة مباشرة لعيش نهج غير ملائم للحياة، فإدراك تلك المشاعر والعمل على التصالح معها هو الحافز الأهم من أجل تنمية الشخصية.
لكن أغلب الأفراد ينزعجون من تلك المشاعر السيئة، لذا يختارون الطريق السهل المتمثل في الهروب من مشاعرهم عوضًا عن تغيير سلوكياتهم، لكن ما يحدث على المدى الطويل هو تفاقم المشكلة، بحسب كارل يونج.
لكن إذا كانت لديك القابلية للتغيير، هنا يأتي السؤال الثاني: ما التغيير الأكثر ملاءمة لحياتك وسلوكياتك في منتصف العمر؟ يجيب عن ذلك عالم النفس إبراهام ماسلو، قائلًا: إن الأفراد الأكثر نجاحًا وصحة هم أولئك الذين حركتهم دوافع إيجاد هدفٍ لحياتهم، والتي تختلف عن دوافع الذات الأنوية، التي تعتمد على (الإيجو) الذي يهدف لإرضاء المجتمع.
فهؤلاء الذين يقصدهم ماسلو يؤمنون حقًّا بوجود هدفٍ لحياتهم ومعنى، نابعَين من التصالح مع كينونة الإنسان واحتياجه فعلًا، يتجهون نحو هدفهم بسلاسة، ومن هنا تأتي الخطوة الثانية، المتمثلة في إيجاد هدف للحياة، وإذا كانت أفكارك الحالية لا تسعفك في البحث عن هدف، فلتجرب أكثر من شيء، حتى تجد الشغف الذي يناديك حقًّا، دون خوف من الفشل.
لكن أي هدف نريد تحقيقه يتطلب منا بذل المجهود، ومهارات يجب أن نصقلها، وهو ما قد يتطلب تغيير العادات والسلوكيات الخاصة بنا، واكتساب أخرى تتناسب مع الهدف الجديد، وعلى الرغم من صعوبة تلك المرحلة عند الوصول إلى منتصف العمر، فإنها تكشف لنا تدريجيًّا ما نقدر عليه، بعكس ما كنا نعتقده من عجز أنفسنا.
إذ عادةً ما تنمو مشاعرنا السيئة المليئة باليأس والإحباط نتيجة لاتباع أنماط سلوكية خطأ حتى منتصف العمر؛ والتي ما إن نهمُّ بتغييرها ومواجهة مخاوفنا والتحديات التي تواجهنا بشجاعة، حتى نبدأ في ملاحظة النمو الشخصي وأثره في ذواتنا.