لا تترك الحكومة المصرية أي مناسبة إعلامية دون التفاخر باستثمارات الأجانب في أذون الخزانة المصرية، والحديث عن نجاح تحرير سعر صرف الجنيه خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، في إحداث طفرة كبيرة في هذا النوع من التمويل، ولكن على الجانب الآخر يتساءل البعض عن الفائدة الاقتصادية التي يحققها هذا النوع من التمويل؟ هل يستحق كل هذا الاحتفاء؟ وهل هي ثقة فعلًا بالاقتصاد المصري؟ ولماذا يسمى استثمارًا وليس ديونًا؟ وما هو الفرق بين هذا النوع من الاستثمار وغيره من الاستثمارات في قطاعات الاقتصاد الأخرى؟ وسنحاول خلال هذا التقرير الإجابة على هذه التساؤلات.
في البداية يجب أن نتعرف أولًا على أذون الخزانة، والتي هي ببساطة نوع من أنواع الديون، فهي إحدى أدوات الدين الحكومية، وتصدر لحاملها ولآجال تتراوح بين ثلاثة أشهر و12 شهرًا، لذلك تعد أداة مالية قصيرة الأجل، كونها لمدة ولأجل أقل من العام، ويتم التعامل بها في أسواق المال الثانوية والتداول عليها بيعًا وشراء.
وتعتبر أذون الخزانة أدوات مالية استثمارية منخفضة المخاطر، إذ إن المستثمر يمكن بسهولة أن يتصرف فيها دون أن يتعرض لأية خسائر رأسمالية، وعند حلول تاريخ الاستحقاق تلتزم الحكومة بدفع القيمة الاسمية لهذه الأذون، وهي تختلف عن السندات فقط في أجل الاستحقاق، كونه يراوح بين سنتين و20 عامًا في حالة السندات الحكومية، بالتالي فهو أجل طويل.
على الجانب الآخر، يمكن استخدام أذون الخزانة في السياسة النقدية، ففي حال أراد البنك المركزي إحداث انكماش في النشاط الاقتصادي لتجنب التضخم أو لجمع النقود من السوق لأي غرض مالي، فإنه يقوم برفع سعر الفائدة على أسعار أذون الخزانة؛ ليحد من القوة الشرائية للأفراد، وليمتص أكبر سيولة متاحة في السوق، وهذا الأمر يختلف عن استخدامها في سد عجز الموازنة.
وحول تساؤل هل أذون الخزانة استثمار أم ديون، فيمكن القول بوضوح إن الأذون هي ديون بالنسبة للحكومة، لكنها أحد أنواع الاستثمارات بالنسبة للمستثمر، ولكنها بالنسبة للدولة لا يمكن اعتبارها استثمارًا لأنها تختلف عن الاستثمار الحقيقي، إذ إنها لا تضيف فرص عمل جديدة للبلاد، ولا تنشط قطاعًا إنتاجيًا بالاقتصاد، بل هي تشكل عبئًا إضافيًا على كاهل المواطن، كلما ارتفعت أسعار الفائدة عليها.
التعويم نقلة نوعية في استثمارات الأجانب في ديون مصر
تربط الحكومة بين الاستثمارات في أذون الخزانة وتعويم الجنيه بشكل مباشر، وهذا الأمر يرجع إلى أن فقدان الجنيه لنصف قيمته، ساعد في إنعاش التدفقات الأجنبية إلى السندات وأذون الخزانة الحكومية، إذ إن مصر قد جذبت استثمارات أجنبية في أدوات الدين الحكومية بلغت نحو 17.6 مليار دولار منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وحتى منتصف سبتمبر (أيلول) الجاري، وذلك حسبما قال أحمد كوجك نائب وزير المالية المصري، مؤخرًا.
بينما يتوقع وزير المالية عمرو الجارحي، أن تبلغ استثمارات الأجانب في أدوات الدين 20 مليار دولار بنهاية 2017، وكان المركزي المصري قال إن الاستثمار الأجنبي زاد في أذون الخزانة ليحقق صافي شراء بقيمة 686.7 مليون دولار في النصف الأول من السنة المالية 2016-2017 مقابل صافي مبيعات 38.3 مليونًا قبل عام.
أسعار الفائدة: سر إقبال الأجانب على ديون مصر
في الوقت الذي تروج فيه الحكومة المصرية لفكرة أن شراء الأجانب لأذون الخزانة دليل على الثقة في الاقتصاد المصري، يرى الخبراء أن السبب الأساسي في جذب المستثمرين الأجانب لأدوات الدين، هو رفع أسعار الفائدة الأساسية على الإيداع والإقراض بنحو 700 نقطة أساس في خلال عشرة أشهر، إذ رفع البنك المركزي المصري في يوليو (تموز) الماضي سعر فائدة الإيداع لليلة واحدة إلى 18.75% من 16.75%، بينما زاد سعر فائدة الإقراض لليلة واحدة إلى 19.75% من 17.75%.
اقرأ أيضًا:
يرى مصطفى عبد السلام، الكاتب الصحفي المتخصص في الشئون الاقتصادية، ورئيس قسم الاقتصاد بصحيفة العربي الجديد، أن شراء المستثمرين الأجانب لأدوات الدين المصرية ليس ثقة في الاقتصاد المصري، فالأجانب يعرفون أكثر من المصريين أزمات الاقتصاد وأسبابها، ولكن السبب الحقيقي هو البحث عن سعر فائدة مغرٍ يصل إلى 20% وربما أكثر من ذلك في بعض الأوقات، بالإضافة إلى أن هذه الأدوات مضمونة السداد من الحكومة، وهو ما يزيد الإقبال عليها إضافة إلى استقرار سوق الصرف وتلبية البنوك احتياجات المستثمرين الأجانب وحل مشاكل التحويلات كل ذلك يزيد من جاذبية أدوات الدين المصرية خاصة قصيرة الأجل كالأذون.
يرى أحمد ذكر الله، الخبير الاقتصادي المصري، ورئيس قسم الاقتصاد والإدارة في الجامعة العالمية للتجديد (غير حكومية) بإسطنبول، يرى هو الآخر أن ارتفاع استثمارات الأجانب في أذون الخزانة المصرية، يأتي نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة التي تعتبر من أعلى معدات أسعار الفائدة في العالم، إذ إن المستثمر المالي يحصل بعد أشهر على أرباح تقارب ربع المبلغ المستثمر.
50% من الاحتياطي النقدي «أذون خزانة»
ويقول عبد السلام، خلال حديثه لـ«ساسة بوست»، إنه بالرغم من أن أدوات الدين ساهمت بشكل كبير في استقرار سعر الدولار حيث وفرت سيولة دولارية كبيرة للسوق المصري، وكذلك دورها في زيادة احتياطي البلاد من النقد الأجنبي حيث تشكل هذه الاستثمارات أكثر من 50% من حجم الاحتياطي، إلا أنها تظل خطرة على الاقتصاد في حال انسحابها المفاجئ من البلاد حال حدوث أي خطر، ومن هنا يجب على البنك المركزي ألا يضيف حصيلة هذه الاستثمارات للاحتياطي النقدي وأن يودع الحصيلة في حساب خاص لديه حتى يتمكن من تلبية احتياجات المستثمرين الطارئة في حال سحب أموالهم من البلاد.
وتابع: «على الحكومة أن تعمل وبشكل عاجل على تنفيذ خطة يتم من خلالها استبدال استثمارات حقيقية ومباشرة في مشروعات وإيرادات نقدية حقيقية بأموال الأذون والسندات الساخنة، حتى تتفادى عمليات مضاربة على الدولار كما كان يحدث قبل قرار التعويم».
يشار إلى أنه في السادس من سبتمبر (أيلول) الماضي، قال البنك المركزي المصري إن احتياطي البلاد من النقد الأجنبي ارتفع إلى 36.143 مليار دولار في نهاية أغسطس (آب) من 36.036 مليار في نهاية يوليو (تموز)، ليسجل زيادة طفيفة بعد قفزة كبيرة قبل شهر، وارتفع الاحتياطي نحو 4.73 مليارات دولار في الفترة بين يونيو (حزيران) ويوليو (تموز)، ليتجاوز للمرة الأولى مستواه قبل انتفاضة 2011، إذ بلغت الاحتياطيات وقتها نحو 36.005 مليار دولار في ديسمبر (كانون الأول) 2010.
فوائد أخرى للمستثمرين وأضرار على الاقتصاد
ويقول ذكر الله خلال حديثه لـ«ساسة بوست» إن أرباح المستثمرين لن تقف عند نسب الفائدة فقط، بل إن ارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار الشهر الماضي، تتسبب في أرباح أخرى للمستثمر الذي تنازل عن الدولار بحوالي 18 جنيهًا ليشتري أذون الخزانة، واليوم بعد أن يبيعها يحصل على الدولار بأقل من 17 جنيهًا، كما يرجع الإقبال على أذون الخزانة وأدوات الدين الحكومية بصفة عامة، إلى ضمان الحكومة لهذه الأموال وحرص السلطة المصرية على الالتزام بمواعيد السداد حتى لو كان على حساب إفقار الشعب، على حد تعبيره.
وحول الأضرار على الاقتصاد المصري، يقول الخبير الاقتصادي إن المشكلة الأساسية أن هذه الأموال تعتبر أموالًا ساخنة يمكن استخدامها كنقطة ضغط سياسي على الدولة في أي وقت، إذ إنها تشكل نقطة ضعف اقتصادي لأن سحبها المفاجئ سيسبب أزمة، إضافة إلى أن خفض قيمة الجنيه وهو ما تعتبره السلطة إنجازًا سيؤدي إلى التأثير السلبي على الإقبال على هذه الأذون.
وعن الإقبال على الاستثمار الإنتاجي الحقيقي في مصر، يرى «ذكر الله» أنه ما زال ضعيفًا جدًا ويعكس النظرة الحقيقية للمستثمرين الأجانب للأوضاع في مصر، خاصة مع عدم الاستقرار السياسي الذي هو السبب الرئيس في الإحجام عن الدخول إلى السوق المصري، وما يؤكد ذلك هو ثبات التصنيف الائتماني لمصر للمرة الثانية على التوالي وهو ما يفند كل ما تروج له الحكومة وتدعيه من نجاحات.
ويساهم زيادة شراء الأجانب لأذون الخزانة المصرية في رفع نسب الدين العالم، إذ ارتفع الدين الخارجي والمحلي في مصر إلى 135.9% من الناتج المحلي الإجمالي في مارس (آذار) 2017 مقابل 110.3% في نفس الفترة المقابلة من 2016، بحسب آخر بيانات المركزي المصري، ومن المتوقع أن تكون هذه النسبة ارتفعت بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، فيما سجل الدين الخارجي لمصر نحو 38% على أساس سنوي في مارس (آذار) 2017، بواقع 73.8 مليار دولار، مقابل 53.4 مليار دولار في نفس الفترة من 2016.
بينما ارتفع الدين العام المحلي إلى 3.073 تريليون جنيه (172 مليار دولار) في مارس (آذار) 2017، مقابل 2.496 تريليون جنيه (140 مليار دولار) في مارس (آذار) 2017، مرتفعًا إلى 94.7% من الناتج المحلي الإجمالي في مارس (آذار) الماضي، مقابل 92.2% في نفس الفترة المقابلة.
اقرأ أيضًا:
في المقابل، تستحوذ فوائد ديون مصر على 35.1% من إجمالي نفقات الحكومة المصرية في الميزانية، خلال 11 شهرًا من السنة المالية الماضية 2016/2017، إذ بلغت 277 مليار جنيه، من إجمالي المصروفات البالغة 787.1 مليار جنيه، منذ يوليو (تموز) 2016 – مايو (أيار) 2017، وذلك حسبما قالت وزارة المالية المصرية في تقرير حديث لها، ونسبة كبيرة من هذه الفوائد تذهب لأذون الخزانة، بمعنى أن التوسع في شراء الأجانب لهذه الديون يعني مزيدًا من فوائد الديون التي ستتحملها الموازنة.
وبعيدًا عن استثمارات الأجانب في الديون، لا يمكن إهمال حقيقة أن الاستثمارات الأجنبية الحقيقية في مصر تواصل التراجع، إذ أعلن البنك المركزي المصري في أحدث تقرير له، عن تراجع صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى البلاد بنسبة 17.8% في مارس (آذار) 2017، مقارنة بنفس الفترة من عام 2016، إذ بلغ صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى البلاد 2.278 مليار دولار في نهاية مارس (آذار) 2017، مقابل 2.772 مليار دولار في نفس الفترة المقابلة، وهو ما يدل على أن شراء الأجانب لأذون الخزانة لا يعكس الثقة بالاقتصاد المصري، بحسب الخبراء.