في الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) لعام 2013، وقف شيمون شامير، السفير الإسرائيلي السابق في مصر، وأحد أهم أساتذة وخبراء سياسات الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، ملقيًا كلمة في الندوة السنوية لرجل الأعمال الأسترالي اليهودي، جون جاندل، وهي الندوة السياسية التي تقيمها جامعة تل أبيب أيضًا.
في نصف ساعة تقريبًا، تكلم بروفيسور شيمون عن الوضع في مصر بشكل شامل، في مرحلة ما بعد سقوط الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وصعود جماعة الإخوان المسلمين للحكم، وتولي الرئيس المعزول محمد مرسي الرئاسة حينها. ركز شيمون بشكل كامل على العلاقات المصرية الإسرائيلية، التي وصفها بأنها «أفضل من المتوقع لكنها لم تصل حتى الآن إلى مرحلة العلاقات الجيدة»، مُوضحًا باختصار ما يحدث، بأن الاتصالات على المستوى القيادي بين الدولتين «ليست جيدة»، وأنه «ليس لدينا أي اتصال مع مرسي»، بينما في وقت مبارك كان المسؤولون الإسرائيليون يتمتعون بعلاقات دبلوماسية كاملة، «ومساحة للتفاوض»، وأن السفارة الإسرائيلية، والتي أغلقت بعد ثورة 25 يناير 2011، لم تفتتح حتى الآن مرة أخرى، ولم تجد حتى مكانًا جديدًا لها، وأن البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في القاهرة، تقتصر على بضعة ممثلين دبلوماسيين وموظفين يمثلون العمود الفقري للبعثة السابقة، ويمارسون عملهم من منزل السفير الإسرائيلي نفسه. حتى رحلات الطيران، والتي كانت أكثر من خمس رحلات أسبوعية، انخفض عددها إلى رحلة واحدة كل شهر تقريبًا.
واستطرد شيمون، قائلًا إنّه «بالرغم من كل ذلك، فإننا مازلنا نتمتع بعلاقات مقبولة على المستوى الاستراتيجي والأمني، ولذلك فنحن لم نصل في علاقتنا مع القاهرة لمرحلة الخطر التي كنا نخشاها»، لكن ما لم يتوقعه البروفيسور الإسرائيلي حينها، أن العلاقات فيما بعد الثالث من يوليو (تموز) لنفس العام، ستنطلق لآفاق لم يصل إليها ثنائي «القاهرة وتل أبيب» من قبل.
في 25 من فبراير (شباط) الماضي، أي منذ أقل من أسبوعين، احتل الإعلامي المصري الشهير ونائب مجلس الشعب السابق (قبل التصويت على سحب الثقة منه) توفيق عكاشة، قمة هرم الرأي العام المصري، بعد استقباله السفير الإسرائيلي في منزله، ودعوته لتناول الغداء معه، ثم جلوسهما عدة ساعات. وجاء استقبال عكاشة للسفير حاييم كورين، كخطوة تطبيعية لم تحدث منذ اتفاقية كامب ديفيد، على هذا المستوى الشعبي، بحكم كونه نائبًا عن الشعب. ورغم ذلك، ليس هذا الأمر هو مربط الفرس، فالأكثر أهمية ما كان يحدث في نفس الوقت عبر الحدود في القدس المحتلة.
في نفس يوم استقبال عكاشة لحاييم، كان الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، يشد على يد رجل ذي ملامح شرق أوسطية، في مقر إقامته الرئاسي (بيت هاناسي) بحي الطالبية بالقدس المحتلة. وسنعرف فيما بعد، عندما تحتفي وسائل الإعلام الإسرائيلية بالخبر، أن الرجل هو حازم خيرت، الدبلوماسي المصري، وأول سفير معتمد للقاهرة في تل أبيب منذ 2012 عندما سحب محمد مرسي، سفير بلاده وقتها من الأراضي المحتلة؛ ردًّا على اغتيال أحد قادة كتائب عز الدين القسام، أحمد الجعبري.
تسلم رؤوفين أوراق اعتماد السفير، وأكمل كلّ منهما مراسم الاستقبال الرسمي والاعتماد الدبلوماسي، مع احتفالية سريعة خاصة، ثم ذهب السيد «حازم» لممارسة مهامه مباشرة. عقب ذلك قال رؤوفين للصحافيين ومراسلي وكالات الأنباء الذين حضروا، إن السفير المصري «أخبرني أنه سعيد جدًا وفخور جدًا بتواجده في إسرائيل«. وأورد موقع تايمز أوف إسرائيل، أن الاحتفالية السريعة شهدت محادثة بطريقة «غير معتادة أو رسمية» بين الرئيس والسفير، وأنهما تناولا نخبًا لتحية العلاقات الجديدة، ثم أكد رؤوفين نفسه ما حدث قائلًا: «أراد المصريون أن يكون هذا الجزء غير الرسمي من الاحتفال وراء الأبواب المغلقة»!
منذ الثالث من يوليو (تموز) 2013، وبعد عزل الجيش لمحمد مرسي، الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، والعلاقات المصرية-الإسرائيلية تتجه نحو الأفضل بشكل متصاعد، وبلا توقف، حتى أن مظاهرها وصلت لتطبيع كامل رسمي، وتعاون استخباراتي وأمني على أعلى مستوى. ولم تخل جوانب هذه العلاقات من التعاون الاقتصادي، أو التنسيق الدبلوماسي الذي حشدت له تل أبيب – في بعض الأحيان – قوتها الناعمة هائلة التأثير في واشنطن؛ للحفاظ على امتيازات الجيش المصري هناك، فضلًا عن دفع الولايات المتحدة في كل مرة للمحافظة على علاقات جيدة مع النظام المصري الحالي، وهو أمرٌ لا تفعله تل أبيب كل يوم ولأي نظام حاكم عربي، أو حتى دولي. يبدو هذا كله مكونات لصورة كبيرة تحدث للمرة الأولى تاريخيًا، وتستحق نظرة مقربة بالتأكيد.
البداية
في 20 يونيو (حزيران) 2012، وقبل ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية بأربعة أيام فقط، والتي قدمت حينها المُرشح محمد مرسي رئيسًا للجمهورية، كانت الأمور ضبابية، ولم يكن معروفًا من الفائز على الرغم من إعلان جماعة الإخوان المسلمين فوز مرسي على حساب المرشح المنافس أحمد شفيق. ولأنها كانت أوقات تتسم بعدم وضوح، فقد أرسل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في هذا اليوم مبعوثه الخاص ومستشاره الأقرب يتسحاق مولخو، والذي يعد أحد مهندسي العلاقات المصرية الإسرائيلية القلائل، إلى القاهرة.
عند وصول مولخو قابله عدد من جنرالات المجلس العسكري في جلسة مباحثات مغلقة، بعدها خرجت تقارير صحافية إسرائيلية، تحدثت عن اللقاء، كان أبرزها تقرير معاريف، والذي قالت فيه إن الجنرالات بعثوا برسالة تهدئة إلى نتنياهو والنظام الإسرائيلي، أبلغوهم فيها أنه «أيًا كانت نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية، فلن يتم المساس بالعلاقات المصرية الإسرائيلية، سواء أمنيًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا، وأن الجيش المصري سيظل هو الجهة المسؤولة عن هذه العلاقات، وعن حماية اتفاقية السلام بين الدولتين». بعدها بأسبوع واحد، وبعد أداء مرسي للقسم الدستوري، عاد يتسحاق إلى القاهرة ليقابل مدير المخابرات العامة، مراد موافي، والمشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع آنذاك، وليسلم رسالة من نتنياهو لمرسي، مع تكرار التأكيد على أهمية الالتزام بمعاهدة السلام في ظل عدم وضوح نوايا الرئيس المصري الجديد.
في الفترة من يوليو (تموز) لنفس العام إلى نهايته، مرت العلاقة الثنائية بمنحنى معكوس، بدا وكأنه ينذر بانتكاسة وشيكة. وكان الاستثناء الوحيد هو حادثة شهر أكتوبر (تشرين الأول)، عندما أرسلت مصر خطابًا دبلوماسيًا إلى الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، لاعتماد السفير المصري الجديد في تل أبيب، وهو الخطاب الذي حمل توقيع مرسي ووزير الخارجية، وبدأ بجملة «عزيزي وصديقي العظيم»، وأعقب تسريبه صدامات إعلامية واسعة بين السلطة والمعارضة. لكن هذا الاستثناء والذي تم وصفه بـ«خطاب روتيني رسمي»، لم يكن كافيًا لأي شيء.
بعد أقل من ثلاثة أشهر على تولي مرسي الرئاسة، وفي سبتمبر(أيلول) 2012، أتى أول تصريح رفيع المستوى بخصوص صلب العلاقات (معاهدة كامب ديفيد)، على لسان محمد سيف الدولة، مستشار الرئيس للشؤون العربية، والذي قال فيه، إن «هناك اتفاق بين الأحزاب والتيارات السياسية المصرية على إعادة النظر في المادة الرابعة من اتفاقية السلام تمهيدًا لتعديلها». هذا التصريح الذي كرره سيف الدولة للبي بي سي بعدها بأيام، مؤكدًا فيه على وجود إجماع من الرأي العام المصري بعدم قبول الاستمرار في تنفيذ المادة الرابعة بشكلها الحالي، وهي المادة الخاصة بالوضع العسكري في شبه جزيرة سيناء، وتنظيم التواجد الأمني على الحدود بين الجانبين، تصريح رئيسي رد عليه وزير الخارجية الإسرائيلي اليميني حينها، أفيغدور ليبرمان، بلا انتظار، قاطعًا الأمر، ومؤكدًا للإذاعة الإسرائيلية أن تل أبيب ترفض بشكل كامل أي تعديل على اتفاقية السلام مع مصر. وربما انتهت المشكلة سريعًا عند التصريح والرد عليه. لكن الجميع عرفوا أن الأمور لم تعد كالسابق.
مر الأسبوع الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) ثقيلًا على تل أبيب، في تقبلها لردود الأفعال المصرية، بعد بداية عملية «عمود السحاب» وقصف سلاح جو جيش الاحتلال لقطاع غزة المحاصر، ردود أفعال تمثلت في سحب السفير المصري عاطف سالم، بعد ساعات قليلة من اغتيال أحمد الجعبري، الذي أشعل كل شيء واستدعاء السفير الإسرائيلي، وتسليمه احتجاجًا دبلوماسيًّا رسميًّا، ثم تكليف مرسي لرئيس الوزراء المصري هشام قنديل، بزيارة القطاع، وهي الزيارة الرسمية غير المسبوقة على هذا المستوى. في خلال الثلاث ساعات التي قضاها قنديل في القطاع. كان نتنياهو قد وافق على تجميد القصف، وحتى ينتهي رئيس الوزراء من زيارته القصيرة. لكن هذا لم يحدث. وكانت الزيارة تحت قصف إسرائيلي مستمر وردود أفعال صاروخية من المقاومة الفلسطينية.
في نهاية الأسبوع، وبعد عقد الهدنة بين الجانبين بتأييد أمريكي ورعاية مصرية، تبارى محللو السياسات الإسرائيليون، في انتقاد القاهرة ودبلوماسيتها الجديدة، مثل تسفي مزال، سفير تل أبيب السابق في القاهرة، الذي قال في مقال له نشرته صحيفة معاريف، إن «الحرب الأخيرة على غزة كشفت أن مصر الجديدة متكأ واه بالنسبة لإسرائيل».

أحد أهالي رفح يقوم بنزح أحد الأنفاق من مياه ومخلفات الصرف الصحي
بعد ذلك وفي الشهور الثلاثة الأولى من عام 2013، بدا وكأنه هناك شق يتسع باطّراد بين مؤسسة الرئاسة ووزارة الدفاع، وبدت الأخيرة وكأنها تتصرف بمفردها في ملف سيناء بلا تنسيق مع الرئاسة، وإنما مع تل أبيب. يمكن التدليل على ذلك بما حدث في شهر فبراير (شباط)، عندما كشفت صحيفة نيويورك تايمز، عما أسمته بـ«التكتيك الجديد»، الذي استخدمه الجيش المصري لأول مرة للتخلص من الأنفاق الحدودية بين مصر وقطاع غزة/ عن طريق إغراقها بمياه الصرف الصحي، وهو الأمر الذي أكدته عدة مصادر أخرى، وبدأ منذ الأسبوع الأول من الشهر بإرسال الجيش المصري لـ «وحدة عسكرية هندسية قامت بحفر عشرة آبار ارتوازية؛ لإغراق الأنفاق بمياه الصرف الصحي عندما يصدر الأمر بذلك»، وهو ما حدث بالفعل بعدها بأيام قليلة، فضلًا عن أن الجيش لم يكتفِ بمياه الصرف الصحي، وإنما استخدم المياه العادية، وهدم بعض الأنفاق بردمها بالحجارة أيضًا، وهو الأمر الذي علقت عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بقولها، إن «وتيرة استهداف الأنفاق تتزايد من الجانب المصري على الرغم من معرفتهم بأنها الوسيلة الرئيسية والأهم لإدخال المواد الغذائية لمئات الآلاف في القطاع المحاصر». استمر هذا الحال حتى الثالث من يوليو (تموز) لنفس العام، والذي بدأت معه مرحلة جديدة.
صديق يوليو
مازلنا إذًا في يوليو (تموز) لعام 2013، وتحديدًا بعد بيان القوات المسلحة الذي ألقاه الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع آنذاك، في الثالث من الشهر، ليعلن فيه عزل رئيس الجمهورية محمد مرسي، وتعيين المستشار عدلي منصور، رئيسًا مؤقتًا للجمهورية، بجانب تفاصيل أخرى خاصة بخارطة الطريق. بعد يومين فقط، وفي الخامس من ذات الشهر أصدر بنيامين نتنياهو، تعليمات مشددة لجميع وزراء حكومته والمسؤولين رفيعي المستوى، بالامتناع عن أي تصريحات بخصوص الأحداث المصرية، مع اعترافه أن الأوضاع المصرية أثارت اهتمام الدوائر الإسرائيلية البالغ، وهو الاهتمام الذي صدقت عليه وسائل الإعلام هناك، والتي حملت جميع صفحاتها الرئيسية المشهد المصري، وذخرت ثناياها بالتحليلات المختلفة. لكن هذا الصمت الرسمي الإسرائيلي لم يمتد إلى الخارج كثيرًا، ففي الولايات المتحدة بدأت الأصوات تعلو مطالبة الإدارة الأمريكية بوصف ما حدث بـ«انقلاب عسكري»، وهو ما يعني قطع المعونة العسكرية لمصر تمامًا، لذلك بدأت ملامح الصداقة والرضا الإسرائيلي تتضح منذ هذه اللحظة.
في 11 يوليو (تموز)، وبعد المؤتمر الصحافي الذي عقده جاي كارني، المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض وقتها، والذي أنكر فيه تمامًا تسمية ما حدث في مصر بالانقلاب العسكري، على الرغم من حزم بعض الصحافيين في أسئلتهم له، قام السيناتور الجمهوري راند باول، بتقديم مذكرة قانونية إلى الكونجرس، مطالبًا فيها بالتصويت لقطع المعونات العسكرية الأمريكية السنوية للجيش المصري، والمقدر قيمتها بـ 1.4 مليار دولار، ومتهمًا إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بإرسال أموال دافعي الضرائب الأمريكيين إلى «أناس يكرهوننا، بينما ديترويت تنهار». ولأن الأمر يمس التحالف المصري الإٍسرائيلي، كان على تل أبيب ومن أمامها اللوبي الإسرائيلي، أن يتدخلوا لحسم الموقف وإنهاء القانون في مهده تمامًا.
كان لابد للتمهيد الإعلامي أن يحدث قبل قتل القانون برفضه، ولذلك كانت البداية بمقال لأحد أهم منظري العلاقات الأمريكية الإسرائيلية وخبراء الشؤون الخارجية في الولايات المتحدة، مارتن شين إندك، الذي شغل منصب نائب رئيس معهد ومركز أبحاث بروكينجز ذائع الصيت، وهو أيضًا أحد أقطاب اللوبي الإسرائيلي في واشنطن.
كان عنوان مقال مارتن على الفورين بوليسي هو «حان الوقت للعمل مع الجنرالات المصريين»، وفيه حث على التواصل معهم، والعمل سريعًا على إعادة مصر للطريق الديموقراطي، بعد الإطاحة بمرسي، وإلا ستضطر الإدارة الأمريكية آجلًا لقطع المساعدات، «لأن القوانين الأمريكية تمنع مساعدة صانعي الانقلابات»، ولأن هذا إن حدث «سيثير استياء القادة الإسرائيليين»، وهي الكلمات التي لم تكن لتقال بصيغة أوضح من ذلك.
بعد ذلك، وكما ذكر جيم لوب في مقاله على موقع وكالة أنباء «IPS» الدولية، فإن اللوبي الإسرائيلي حشد بالفعل نواب الكونجرس المقربين منه، ومنهم على سبيل المثال السيناتور الجمهوري إيد رويس، والسيناتور الديموقراطي إليوت أنجل، اللذان شاركا في بيان مشترك صدر عن لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي، والذي قالا فيه إن «واشنطن ستعطي الجيش المصري فائدة الشك، قبل اتخاذ أي إجراء، والأمر الآن متروك للجيش المصري لإثبات أن الحكومة الانتقالية الجديدة ستعمل على إعادة البلاد للمسار الديموقراطي». ثم كان الموعد مع الكاتب الصحفي ديفيد بروكس المقرب للغاية من إسرائيل، والذي خدم ابنه الأكبر في جيش الاحتلال الإسرائيلي. كان ديفيد أكثر تطرفًا في مقاله المعنون بـ«دفاعًا عن الانقلاب» على نيويورك تايمز، وذهب إلى وصف نظام حكم محمد مرسي، ومن ورائه جماعة الإخوان، بأنه «نظام يقع ضمن الإسلاميين الراديكاليين، الذين لا يصلحون لإدارة حكومة حديثة، ولذلك كان الشعب المصري على حق».
أتى الحشد الإعلامي الإسرائيلي بثماره، تمهيدًا لقطع الطريق على السيناتور باول، من خلال حشد اللوبي لأعضاء مجلس الشيوخ. وبالفعل في نهاية يوليو (تموز) كان المجلس يُصوت ضد مشروع قرار قطع المساعدة، بإجمالي 86 صوتًا رافضًا لقطعها، مقابل 13 مؤيدًا فقط، من بينهم باول نفسه. وجاء الرفض رغم أن مشروع قرار السيناتور كان يقتصر على قطع المساعدات، حتى إجراء انتخابات مبكرة، أي لمدة محدودة فقط.
لقد نجحت تل أبيب بالفعل، ولم يقتصر تدخلها على اللوبي الخاص بها في واشنطن فقط، وإنما تدخلت بالطريق الرسمي، كما أوردت صحيفة هآرتس، في بداية الأسبوع الثاني من يوليو (تموز)، إن إسرائيل طلبت بشكل واضح من الولايات المتحدة عدم تقليص المساعدات للجيش المصري، بعد ما حدث، بينما وصف عاموس جلعاد، أحد أهم المفاوضين الإسرائيليين العاملين بين تل أبيب والعواصم العربية والجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي، الانقلاب بـ«المعجزة الأمنية لإسرائيل»!
علاقة حميمة
في 2014، وصل التفاهم بين القاهرة وتل أبيب لدرجة عالية، سمحت بتدخل عسكري إسرائيلي، ففي 23 يوليو (تموز) أجمع شهود عيان لموقع المونيتور، ولوسائل إعلامية أخرى على أن طائرة بدون طيار إسرائيلية، اخترقت الحدود المصرية وقصفت سيارة مُحمّلة بمجموعة مسلحة، كانت في طريقها لتنفيذ عملية مُسلحة، لا يُعرف وجهتها، وقتلتهم بالكامل. فيما بعد نفت السلطات المصرية ما حدث، قائلةً إنّها من أوقف الهجوم، وهي نفسها من قتلت العناصر التي أسمتها بـ«الإرهابية». لكن رواية شهود العيان كانت مختلفة، إذ قالوا إن السلطات الأمنية المصرية لم تعرف بالحادث، إلا بعد وقوعه. وسواء كان التنسيق الأمني متواجدًا واخترقت الطائرة الحدود بعلم القاهرة، أو أنها على الأقل غضت الطرف عما حدث. في كلا الحالتين لا يشير ذلك إلا إلى علاقات متينة لا يعكرها صفو حوادث، يمكن اعتبارها بسيطة بالنسبة لحجم العلاقات حينها وحتى الآن.
لم يقتصر التوسع على الجانب الأمني، أو الاستخباراتي فقط، وإنما شمل جوانب أخرى بالطبع، فمثلًا وفي نهاية العام الماضي (2015) توصل الطرفان لاتفاق شبه نهائي، تُصدّر بموجبه إسرائيل أربعة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا إلى مصر، على مدار 15 عامًا، في صفقة يتوقع أن يدفع فيها الجانب المصري 60 مليار دولار. بالطبع لم تمانع الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة الطاقة، إذ قالت في بيان لها، إنها لا تمانع استيراد الغاز الإسرائيلي «طالما يحقق قيمة مضافة»، فضلًا عما فعله السيسي بنفسه من تخليه عن جزء من الحدود البحرية المصرية لصالح إسرائيل بشكل غير مباشر، عندما أعاد ترسيم الحدود مع قادة قبرص واليونان في قمة الكالاماتا، وتخلى عن جزء مهم من منطقة مصر البحرية الاقتصادية في البحر المتوسط، لصالح اليونان، التي يشرف على حقول نفطها في المتوسط شركات طاقة إسرائيلية!
بينما على المستوى الدبلوماسي، فإنه ولأول مرة في التاريخ، صوتت مصر لصالح عضوية إسرائيل في لجنة «الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي»، ثم دافعت دبلوماسيًا عن الخطوة، معتبرة أن التصويت كان ضروريًا، لأنه لمجموعة من ست دول، من بينها 3 دول عربية، ولا يسمح بالتصويت لكل دولة على حدة، وهو الأمر الذي رد عليه المنتقدون بإمكانية الامتناع عن التصويت من الأساس، سواء لمصر أو للمجموعة العربية بالكامل. ولم تكن هناك إجابة مصرية رسمية على هذا الانتقاد.
أما الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فبالإضافة إلى ترسيم الحدود البحرية، كان أكثر حسمًا ووضوحًا في علاقاته، عندما استقبل في أوائل العام الماضي أيضًا، رجل الأعمال الأمريكي الملياردير رونالد لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، ومعه نائبه موشي رونين. والمؤتمر اليهودي العالمي، منظمة عالمية تضم تحت جناحيها 70 مؤسسة «صهيونية» في عشرات الدول حول العالم، والتي ينحصر هدفها الرئيسي في تأييد قيام كيانٍ يهودي، في الأراضي الفلسطينية. وكررها بعدها بعام كامل، عندما استقبل منذ أقل من شهر، وفدًا من اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، والتقى بمالكوم هوين لين، رئيس مؤتمر المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى، وهو أحد أهم مؤسسات اللوبي الإسرائيلي في واشنطن أيضًا. وكان هذا الوفد قد وصل القاهرة رأسًا من أنقرة، بعد لقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فيما تم إحالته إعلاميًا على أنه وساطة يهودية، لإعادة العلاقات المصرية التركية، وإن لم يتأكد الأمر، لكن ما أثار عاصفة من الاعتراضات هو ما نقلته صحيفة ميكور ريشون الإسرائيلية، عن أن السيسي عبّر لوفد اللوبي، عن إعجابه بنتنياهو، وقوله عنه: «نتنياهو قائد ذو قدرات قيادية عظيمة، لا تؤهله فقط لقيادة دولته وشعبه، بل هي كفيلة بأن تضمن تطور المنطقة وتقدم العالم بأسره»، وهو ما يمكن اعتباره الثناء الأول بهذه الصيغة الحميمية بين رئيس عربي ومسؤول إسرائيلي. ويمكن إضافة إلى ما سبق، ذكر تأكيدات الرئيس المصري ذي الخلفية العسكرية، على أنه على تواصل دائم مع نتنياهو، وأنه «يتحدث إليه كثيرًا»، حسبما قال في مارس (آذار) من العام الماضي لواشنطن بوست.
في السادس من فبراير (شباط) الماضي، أتى ولأول مرة تصريح عالي المستوى، من أحد مسؤولي الحكومة الإسرائيلية، وهو يوفال شتاينتس وزير البنى التحتية والطاقة، عندما قال إن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، غمر الأنفاق على الحدود مع قطاع غزة بالمياه، بناءً على طلب إسرائيل، وأن التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل، أفضل من أي وقت مضى. أتى التصريح ليكلل قرابة العامين من التطور المدهش في العلاقات بين العاصمتين، وليضع الأمور في نصابها شديد الوضوح، بأن العلاقات بين القاهرة وتل أبيب لم تكن أفضل مما هي عليه الآن على مدار تاريخها، وأن تل أبيب تسطر تاريخًا حقيقيًا وغير مسبوق بينها وبين أي دولة عربية أخرى.