تثير العلاقات بين مصر والجزائر العديد من التكهّنات لدى المتابعين في البلدين، فبينما تتّسم هذه العلاقات بالودّ والتقارب على الصعيد الرسمي، تخفي البيانات الحكومية ما يراه البعض توتّرًا صامتًا وقلقًا جزائريًا من الدور الذي تلعبه القاهرة على حدودها الشرقية، وبالتحديد تدخلاتها في ليبيا منذ 2014 على الأقل، هذا بالإضافة إلى علاقة البلدين المتباينة مع أحزاب الإسلام السياسي.
تقارب رسمي مُعلن.. وخلافات في الغرف المغلقة
منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في عام 2014، شهدت العلاقات بين مصر والجزائر بعض نقاط التوتّر، كان أبرزها الخلاف المعلن في الملف الليبي، لكن هذه الخلافات بقيت إلى حدّ كبير خلف الغرف المغلقة، ولم تتطوّر إلى أزمات دبلوماسية معلنة.
وكانت قد نُسبت للسيسي عام 2014 تصريحات اعتبرها بعض الجزائريين عدائية تجاه الجزائر، في لقاء مع عدد من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية في مايو (أيار) 2014، وذلك ردًا على سؤال حول جاهزية الجيش المصري، وكانت الصحف حينها نقلت قول الرئيس السيسي «لو حصل أي حاجة أنا ممكن أدخل الجزائر في ثلاثة أيّام»، وقد تناقلت حينها الصحف الجزائرية هذا التصريح الصادم وانتقدته بشدة، خصوصًا مع عدم وجود أي داعٍ له، أو تصريح تهجّمي من الطرف الجزائري.
لكن الحملة الرئاسية للسيسي نفت في بيان لها هذه التصريحات، وقالت إن هذه التصريحات قد أُسيء تأويلها، كما جرى حذف هذه التصريحات من المواقع والصحف الإلكترونية المصرية، وأتبع السيسي هذه التصريحات بتصريحات جديدة أثنى فيها على الجزائر وتاريخها.
الرئيس السابق بوتفليقة والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في زيارته سنة 2014
وفي أوّل زيارة خارجية له بعد وصوله إلى رئاسة الجمهورية، زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الجزائر، وبحث تزويد مصر بالغاز الجزائري، وهناك التقى الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وأشار وزير الخارجية الجزائري حينها رمطان لعمامرة إلى أن السيسي قد أجرى «محادثات معمقة مع الرئيس بوتفليقة، سواء على الصعيد الثنائي، أو حول المسائل الأفريقية والعربية ذات الاهتمام المشترك».
وقد لعبت الجزائر دورًا مهمًا في عودة النظام المصري إلى الاتحاد الأفريقي بعد تعليق عضويته في أعقاب تدخل الجيش المصري في العملية السياسية ضد الرئيس المصري السابق محمد مرسي، خصوصًا بعد زيارة وزير الخارجية المصرية نبيل فهمي إلى الجزائر، بالإضافة إلى زيارة السيسي، وذلك من خلال استغلال منصب الجزائر في «مجلس السلم والأمن» داخل الاتحاد الأفريقي، وهذا رغم قرار الاتحاد تجميد عضوية الحكومات التي لم تأت بانتخابات.
ومع اندلاع الحراك الشعبي في الجزائر في فبراير (شباط) 2019، نظرت القاهرة بعين التوجّس إلى هذه الاحتجاجات الشعبية التي سريعًا ما أطاحت بحكم الرئيس بوتفليقة المستمرّ لمدة 20 سنة، خصوصًا مع الخوف من احتمالية انتقال رياح الاحتجاجات إلى مصر، إذ ربط بعض المحلّلين بعد ذلك بالفعل بين نجاح الحراك الجزائري وبين الاحتجاجات التي شهدتها مصر بعد ذلك في سبتمبر (أيلول) من نفس السنة، بعد دعوات من رجل الأعمال المصري محمد علي.
يمكن أيضًا الاستناد إلى الخط التحريري للإعلام المصري المرئي القريب من السلطة وطريقة تغطيته للأوضاع في الجزائر من أجل فهم وجهة نظر صانع القرار في مصر، ويلاحظ أن الإعلام المصري حاول عدم الخوض بكثافة في التركيز على صور الاحتجاجات، كما نقلت بعض وسائل الإعلام «صورًا لاحتفالات الجزائريين بعدم ترشّح بوتفليقة لعهدة جديدة» ولكن بنبرة وخطاب حذر للغاية؛ مما يشير إلى حذر القاهرة من التدخّل الإعلامي الواسع في الشأن الجزائري، أو تأجيج الأوضاع، أو الانحياز إلى طرف دون الآخر.
وبينما كانت الاحتجاجات الأسبوعية تدوّي في الجزائر العاصمة والعديد من المحافظات، عرفت البلاد أيضًا فوز المنتخب الجزائري بكأس أمم أفريقيا الذي انعقد في مصر، وقد امتدح الإعلام المصري مستوى المنتخب الجزائري وتجنّب الانخراط في أي خطاب يثير الاحتقان، عكس الموقف الذي عرفه البلدان في سنة 2009 على هامش مباراة السودان التي شهدت شحنًا وتراشقًا إعلاميًا شديدًا؛ ممّا أوحى بوجود دفء في العلاقات بين البلدين على الصعيد الرسمي.
الملف الليبي.. تباين صارخ في المواقف بين مصر والجزائر
ويبرز الخلاف بين مصر والجزائر في الفترة الأخيرة بشكل صارخ في الملف الليبي؛ إذ تتصادم المقاربتان الجزائرية والمصرية ورؤيتهما حول الحل في ليبيا، فبينما دعمت القاهرة الجنرال حفتر الذي يتمركز في الشرق الليبي، والذي ينال دعمًا فرنسيًا أكثر، دعمت الجزائر حكومة الوفاق المتمركزة في العاصمة طرابلس، والمدعومة أيضًا من جانب تركيا.
وفي الوقت الذي أطلق فيه حفتر تصريحات عدائية أكثر من مرّة تجاه الجزائر، من بينها تهديده بإعلان الحرب ضد الجزائر سنة 2018، وإعلانه السيطرة على معبر حدودي بين الجزائر وليبيا، أطلق في شهر أبريل (نيسان) من نفس السنة هجومًا جديدًا ضد طرابلس الليبية، لكنه عجز عن السيطرة على العاصمة الليبية.
الرئيس الجزائري تبون والرئيس المصري السيسي خلال قمة برلين مطلع سنة 2020
وكان تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون لقوّات حفتر بقوله: إنّ «طرابلس خط أحمر» قد قُرئ باعتباره تحذيرًا شديد اللهجة وغير معهود بالنسبة للدبلوماسية الجزائرية المعروف عنها التزام مبدأ عدم التدخّل في شؤون الآخرين، واعتبرها مراقبون تغيّرًا في العقيدة الدبلوماسية الجزائرية بمجيء الرئيس الجديد، وتحذيرًا ليس فقط لحفتر، ولكن للأطراف الدولية الداعمة له، والتي من بينها مصر.
يتجلّى الخلاف بين مصر والجزائر في الملف الليبي أيضًا في الموقف من القبائل الليبية، ففي الوقت الذي أصرّ الرئيس تبون على التذكير في العديد من المقابلات الصحافية على ضرورة تحييد القبائل عن الحرب الأهلية، وضمان عدم تسليحها، أو الدفع بها في هذه الحرب، وتضييق رقعة الحرب إلى أقل مدى ممكن لتجنّب تحوّلها إلى حرب عرقية أهلية شاملة، كانت القاهرة تستضيف زعماء قبائل ليبية قادمة من مدينة بني غازي إلى القاهرة في يوليو (تموز) 2020، وأفاد بيان للرئاسة المصرية بأن هذه القبائل قد فوّضت مصر للتدخّل من أجل «حماية السيادة الليبية واتخاذ كافة الإجراءات لتأمين مصالح الأمن القومي لليبيا ومصر».
وقد جاءت هذه التحركات المصرية، بعد تصريح لرئيس البرلمان الليبي السابق عقيلة صالح، دعا فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى «التدخل لحماية الليبيين من الإرهابيين والمستعمر الجديد (تركيا)» على حد وصفه، وذلك عقب إعلان تركيا تدخلها عسكريًا لصالح الحكومة في طرابلس، وهو الإعلان الذي اعتبرته مصر تهديدًا واضحًا لأمنها القومي متمثل في وجود قوّات تركية على حدودها الغربية، خاصة في ذلك الوقت الذي كانت فيه العلاقات المصرية التركية في أسوأ أحوالها.
وأكّد تبون في العديد من اللقاءات حينها أن الجزائر قد تواصلت مع القبائل الليبية الغربية، التي تربطها امتدادات عائلية وقبلية في الداخل الجزائري، وذلك من أجل ضمان عدم تسليحها أو تدخّلها في الحرب الأهلية الليبية؛ مما من شأنه أن يعقّد مساعي الحلّ أكثر مما سبق، وهنا يمكننا ملاحظة اختلاف كبير في المقاربات تجاه الأزمة الليبية.
خلاف حول العلاقة مع «الإسلام السياسي» وتركيا
في حديثه مع «ساسة بوست» يشير عثمان لحياني الصحافي الجزائري المتخصص في الشؤون العربية إلى نقاط التوتّر بين القاهرة والجزائر: «التوترات الجزائرية المصرية كانت دائمًا حاضرة في العلاقات بين مصر والجزائر، هناك توجس جزائري مستمر من مصر ودورها الوظيفي، وازداد التوجس بعد هيمنة الإمارات والرياض على خيارات القاهرة، وهي خيارات لا تناسب الجزائر. من بين المسائل التي تُثير القلق الجزائري هو الدور المصري في تخريب المصالحات في ليبيا، وإعاقة كل محاولة جزائرية للتدخل في هذا السياق».
ويضيف لحياني حول الخلاف بين مصر والجزائر في الملف الليبي: «يدرك صانع القرار الجزائري أن حفتر تقف وراءه مصر، وتحاول أن تمنع من خلاله دخول الجزائر إلى الساحة الليبية. آخر هذه المواقف التي تؤيد هذا المسعى هو إعلان قواته السيطرة على معابر في الجنوب لمنع التبادل التجاري بين الجزائر وليبيا، وهذا يصب في مصلحة مصر. هنالك أيضًا نقطتان تعزّزان الخلافات السياسية بين القاهرة والجزائر، والمتعلقة بالموقف من أحزاب الإسلام السياسي. فبينما تملك الجزائر موقفًا (إيجابيًا) منها، وآخرها تصريح الرئيس تبون في لقائه مع قناة الجزيرة وصحيفة «لوبوان» الفرنسية عن الإسلاميين، ويقصد بهم الإخوان المسلمين تحديدًا؛ في المقابل تطالب القاهرة بتصنيفهم تنظيمًا إرهابيًا».
وكانت السعودية وأبوظبي في سنة 2014، بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر، قد طلبت من الجزائر تصنيف الأحزاب القريبة من جماعة الإخوان المسلمين تنظيمًا إرهابيًا، وهو الطلب الذي رفضته الجزائر، وأشارت إلى أنها تمتلك تجربة خاصة في التعامل مع الأحزاب الإسلامية.
ويضيف لحياني بأن العلاقات الجزائرية التركية المميّزة قد تكون أيضًا إحدى نقاط التوجّس بين مصر والجزائر، خصوصًا أن الرئيس التركي أردوغان كان أول رئيس جمهورية أجنبي يزور الجزائر فور وصول الرئيس تبون إلى قصر المرادية، كما كانت الجزائر من أكثر البلدان الأفريقية التي زارها أردوغان منذ وصوله للسلطة.
وفي هذا السياق يضيف لحياني أيضًا: «النقطة الأخرى هي التقارب الجزائري التركي القطري، وهي النقطة التي تنظر إليها القاهرة بتوجّس، وتبقى هذه الخلاقات في إطار سياسي بارد، بمعنى أنها لم تتخذ شكل عداء أو قطيعة معلنة، وخير دليل على هذا هو لقاء وزيري خارجية مصر والجزائر في قمة برلين قبل أيّام فقط»، رغم أن تلك النقطة تحديدًا قد لا تكون مشكلة كبيرة في المستقبل القريب، خاصة مع مؤشرات التقارب الكبير بين القاهرة والدوحة.
جدير بالذكر أن صحيفة الأخبار اللبنانية كانت قد أشارت عرضًا في تغطيتها للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بشرم الشيخ في مطلع الشهر الجاري يونيو (حزيران) 2021، أن الرئيس المصري طلب وساطة السعودية لحل الخلافات مع الجزائر في ظل ما يراه النظام المصري تصرفات عدائية من الجزائر.