محمولًا داخل نعشٍ خشبيٍّ سيصبح بيته الجديد، بعد أن آلفته بيوتٌ كثيرة قبل القلوب. يسير النعش بخفةٍ تتشاركه أكتافٌ فلسطينية ولبنانية وسورية وتونسية وليبية ويمنية. «لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله، لا إله إلا الله الشهيد المصري حبيب الله»، يتهافت المشيِّعون للحمل.
يحملون بيدٍ طرف النعش وباليد الأخرى يُمسكون بالسلاح، ولا يخترق الهتاف إلا صوت الطلقات. يصل المُشيِّعون إلى مسجدٍ على مشارف مقابر مخيَّم شاتيلا الفلسطيني في بيروت، حيث انقسم الجمع، فدخل جزءٌ منهم مع النعش بعد أن أسندوا سلاحهم إلى الحائط وتجهَّزوا لأداء فرض الصلاة، وبقيَ أغلبهم في الخارج شاهرين السلاح لفرض التأمين.
كانت الأجواء تُنذر بهجومٍ انتقامي من قبل قوات الكتائب اللبنانية، عقب هزيمتهم في معركة الفنادق الأولى، لذا خشيَ المشيِّعون أن تنساب قوات الكتائب وحلفاؤها، من بين خطوط التماس نحوهم مثل هواء خريف تشرين الأول.
داخل المسجد، اخترق شيخٌ بعمامةٍ بيضاء صفوف المصلِّين، وقف وتوجَّه بعد أن رصُّوا الصفوف، ليتقدَّم شاب أسمر من الصف الأول نحو الشيخ بوجه مُخضَّب بالدَّمع حتى ابتل شاربه، ومالَ نحوه قائلًا: «عبد الكريم، الشهيد عبد الكريم المصري».
لم يكُن هذا مشهدًا روائيًّا حتى وإن بدا ذلك، هي قصةٌ حقيقة وقعت عام 1976، لمواطن مصري اسمه عبد الكريم المصري. ضابطٌ سابقٌ في الجيش المصري قرر الانضمام لصفوف قوات المقاومة الفلسطينية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، فرحل عن عالمنا بخفة غير مهتم بترك أثرٍ أو مذكرات لحياته المليئة بالتفاصيل والأخبار. ولم تجد قصَّته سوى ذاكرة من عاشروه تحميها من النسيان، في بلده الثاني لبنان، كما كان يقول.
صورة من أرشيف «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، مدون بها معلومات عن الشهيد عبد الكريم المصري
في الحروب الأهلية كل من يموت من أجل قضية شهيد، فهو شهيد على جانب من الجبهة وقتيل في نظر الفريق الآخر، ولكل جبهة شهداؤها تحكي عنهم وتخلِّد ذكراهم. إلا أن قصة عبد الكريم المصري كانت صادمة لي – بصفتي مصريًّا- وأقل من عادية لأبناء لبنان. لم أسمع أو أقرأ من قبل عن مشاركة مصريين بالاقتتال في الحرب الأهلية اللبنانية، فما بالك أن تسمع مصادفة، عن قيادي مصري لفرقة مقاوِمة في أكثر معارك الحرب الأهلية شراسة، في تلك الفترة القاحلة من تاريخ لبنان!
البداية دائمًا تأتي صدفة
في إحدى ليالي شتاء بيروت 2021، كنت في مكتبي في منطقة فردان حين اتصل بي صديقي المخرج موسى شلحة، وأخبرني بوجوده في شارع الحمرا القريب من مقر عملي، بصحبة والده الذي يزور بيروت لرؤية الطبيب. تذكرت أنه أخبرني عن شدة محبة أبيه لمصر والمصريين، وأنه تشوَّق للقائي حين أخبره عن صداقتنا، وأرسل مع موسى دعوة شفاهية لزيارة بعلبك والمكوث أيام عدَّة في بيتهم، وزيارة معالمها والاستمتاع بتذوق «الصفيحة البعلبكية» في موطنها الأصلي.
التقينا، وبعد سلام وترحاب حارٍّ متبادل بين الجميع، جلسنا نحتسي القهوة ونتبادل الأحاديث التعارُفية الروتينية. أخبرني أنه بـ«الزمانات» كان لديه صديق مصري عزيز على قلبه، اسمه عبد الكريم المصري، عرَّفه إليه عمه الأصغر عباس في أحد أيام عام 1974، أي قبل اندلاع الحرب الأهلية بعام، أشعل العم سيجارة وأكمل حديثه. يقول إن المرحوم الشهيد عبد الكريم كان يتمتَّع بحس دعابة عالٍ، مثله مثل باقي المصريين، وأنَّه أستشهد في معركة فندق «هوليداي إن».
استوقفته للحظة، حاولت أن أخفي شغفي حين سألته هل تقصد أنه شارك واستشهد في الحرب اللبنانية؟ «نعم»، ردَّ عليَّ، وهو يطفئ سيجارته بعد أن أشعل فضولي. ثم بنبرة حزينة وشرود مبرر لاسترجاع قصة عاشها منذ أكثر من 46 عامًا. بدأ قص الحكاية من آخرها، واصفًا جنازة عبد الكريم المصري دون ذكر شيء عن حياته، وكأنه فضح أمر شغفي للاستماع! استسلمت وأخبرته أنَّ عندي رغبةً في معرفة تلك القصة، ربما والكتابة عنها أيضًا، إن توافرت الظروف.
فدعاني لزيارة بعلبك نهاية الأسبوع، تحامل على عكازة مستعدًّا للرحيل، فضاحكته أنه لا يمكنه الذهاب الآن بعد ما أصَابني به من فضول. ابتسم، واعدًا بقص كافة التفاصيل التي يعرفها وقيادة جولة للقاء أصدقاء عبد الكريم القدامى والاستماع لقصصهم، ومشاهدة رسوماته ومعايشة أجواء الحي.
العم أبو موسى، وزوجة صديق عبد الكريم المصري، أبو عصام
سألته أثناء السير، عن مكان الفندق الذي استشهد فيه، لربما أبدأ بحثي من هناك! فأخبرني أن منطقة الفنادق كلها شهدت اقتتالًا عنيفًا وقتذاك، وأنَّ كل بقعة في هذا البلد الصغير شهد حادثة ما، مشيرًا بعكازه ناحية ناصية جانبية من شارع الحمرا. هنالك حدثت عملية «الويمبي» حيث اغتال خالد علوان ابن الحزب القومي السوري، قادة عسكريين من القوات الإسرائيلية في مقهى الويمبي، قال: أومأتُ برأسي موافقًا، وودعته مؤكدًا قدومي في نهاية الأسبوع مع موسى. عُدت إلى مقر عملي منتعشًا بعد أن قبضت على تلك القصة الثمينة. لكن بعد لحظات من زوال ذلك الشعور الحماسي، والعودة إلى المنطق الصحفي في طرح الأسئلة، تبدد شعوري واستُبدل به ثقل المهمة. فمهما كانت قصة عبد الكريم قد تبدو مختلفة، فمن هو عبد الكريم؟
هكذا تساءلت عما قد يكون مهمًّا في قصة شخص ليس مشهورًا بالقدر الذي يدفع الناس للقراءة عنه واستقطاع وقتي ووقتهم في تداول قصته وتدويلها، قصته التي تبدو مستحيلة في جمع خيوطها، لطول أمد حدوثها، وقلة المعلومات التي قد أجدها. لكن على كلٍّ، قلت لنفسي إن كانت تبدو مغامرة، فلتكن!
حينها، وضعت هدفًا لنفسي لا أحيد عنه، وهو توثيق تلك القصة قبل أن تموت برحيل أصحابها أو النسيان. لطالما أثارت الحرب اهتمامي، ليس المناورات التي يبتكرها الجنرالات الكبار، لكن حقيقة الحرب، أي القتل الفعلي. كان جلُّ اهتمامي هو معرفة بأيِّ طريقة وتحت أيِّ تأثير يمكن لجندي قتل آخر. وشبهت مهمتي بمهمة أحد أبطال قصص تولستوي الحربية، حين دفع الفضول رجلًا ليسافر إلى المكان الذي يتقاتل فيه الجند في القوقاز دون أن يكون واحدًا منهم، ليرى كيف هي الحرب، وكيف يتقاتل البشر.
فندق فلسطين: هنا بدأت الحكاية
يقبع فندق فلسطين، صغير الحجم، متوسط الرداءة بالنسبة لفنادق بيروت الفارهة، في منطقة العازارية، بالقرب من موقف كراجات سيارات صيدا وصور. المستأجرون نوعان: عُمال الأجور المتدنية، والعاطلون الباحثون عن وظائف، متمتعين بما يقدمه الفندق من أسعار متدنية. في تلك الأثناء، نمت علاقة صداقة بين عبد الكريم المصري وعباس شلحة (عم صديقي) في كوريدور الفندق الضيِّق، لقلة معارف عباس في بيروت بعد قراره ترك مدينته بعلبك والذهاب لخوض تجربة جديدة، أو ربما قرر مصاحبة عبد الكريم من باب «الجدعنة» وكرم أهل بعلبك المعروف مع الغريب المصري.
كان عباس يعمل صحافيًّا في مجلة «الصيَّاد» اللبنانية، لصاحبها الصحافي والمثقّف الكبير سعيد فريحة. لم يكُن راتب عباس كبيرًا، فعهده بالصحافة ما زال حديثًا، لذا فضَّل المكوث وتبادل الأحاديث واللعب مع المصري كل يوم، بعد انقضاء عمله في المجلة، توفيرًا للنفقات الشحيحة أصلًا لديه وغير الموجودة بالأساس لدى عبد الكريم. ومن أجل «تغيير الجو»، كان عباس يقترح ذهابهما إلى القهوة المجاورة للفندق أو مشاهدة فيلم في سينما «روبلي» بمنطقة الصيفي وقت امتلاء جيب أحدهم بالنقود. لكن ظلَّت جلسات الكوريدور والاستماع لأحاديث عبد الكريم «التي كانت كالبحر لا تنضب» تشغل حيِّز الترفيه اليومي.
وُلِدَ عبد الكريم المصري في القاهرة عام 1949، ونضج في فترة توهُّج ثورة 1952 والحالة التي رسمها جمال عبد الناصر لتلك المرحلة. كان عبد الكريم ناصريَّ الفكر مؤمنًا بالقوميَّة العربيَّة. أدركها في سنوات دراسته والتحاقه بالقوات المسلحة المصرية، وبعد تخرجه بدأ انخراطه الحقيقي في العسكرية باليمن وليس على الجبهة، فكان قد أُرْسِل مع القوات المشاركة في حرب اليمن عام 1962.
صورة عباس شلحة، صديق عبد الكريم المصري
خاض عبد الكريم حروبًا شرسة مع قوات الثورة الجمهوريين ضد القوات الملكية المدعومة من السعودية، وسط تضاريس جبال اليمن العصية على التطويع. أصيب بطلقة في ساقه في معركة فك الحصار الملكي عن العاصمة صنعاء، لم تكن إصابه خطيرة جدًّا، لكنها كانت كفيلة بخروجه من العسكرية، تاركةً عرجةً خفيفة على حركته.
تعرَّف عبد الكريم إلى فتاة مصرية، كانت تعمل نادلة في أحد المحال. نشأت بينهما علاقة عاطفية، يحكي عنها لصديقة عباس قائلًا إنها تجسيدٌ لـ«لمَّة المتعوس على خائب الرجاء»، وذلك تعبيرًا عن وضعهما شديد البؤس، المتزامن مع وضع تأزم الوضع في لبنان، واستحالة الزواج لـ«قصر اليد» رغم ولعه الشديد بها.
عُرِفَ ابن أخ عباس «والد موسى» عبد الكريم في منتصف عام 1975، بعد قدومه من صيدا، مُستقر الأسرة، فآلفَ المجلس والصحبة وصار ثالثهما في أيام صعلكة الشباب، لكن لم تمهل الأوضاع ثلاثتهم في الاستقرار في بيروت. انفجرت الحرب الأهلية، ورحل أبو موسى نحو مسقط العائلة في بعلبك، البعيد نسبيًّا عن بؤرة الأحداث في بيروت، ورحلت حبيبة عبد الكريم إلى مصر بعد عزوف أصحاب الأمزجة عن السهر، وفرار الأجانب من البلد قبل أن يطولهم أيُّ تصعيد.
مع مرور الأيام وزيادة الاقتتال في الشوارع، وتوقُّف الحياة الروتينية عن الدوران، والتهديد بالإفلاس، جرى تحذير «رفقاء الكوريدور» بإخلاء غرفهم في الفندق بعدما اكتشف الصحافيون والمراسلون الأجانب الطريق إليه. قرر عباس العودة من حيث أتى، لكنه سيعود تلك المرة يرافقه عبد الكريم المصري.
اليوم المنشود: الطريق إلى بعلبك
أتى اليوم المنشود. مبكراً، توجَّهت لمحطة نقل بعلبك قبل ساعات الزحام الخانقة، وفي الطريق ظلَّت قصة ذلك المصري شهيد المقاومة الفلسطينية تشغل تفكيري. فضولٌ يمكن قياسه بطول قمم الجبال المبعثرة في كل مكان. استغلَّيت طول الطريق لأكمل بحثي عن اسم عبد الكريم المصري في الشبكة العنكبوتية، التي بدأت منذ عرفت القصة، لكن اتضح بعد كل مرة من ظهور نتائج البحث عبث تلك الخطوة.
جربتُ البحث بشكل أدق بما توفَّر لدي من معلومات. كتبت عبد الكريم المصري شهيد المقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، ثم بحثت عن مصريين شاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية. لكن جولة البحث عبر «جوجل» لم أعد منها حتى بخفي حنين، فاستسلمت مذكِّرًا نفسي بما ينتظرني حين أصل.
لم يشاركني في رحلتي سوى كتاب «نظر إليَّ ياسر عرفات وابتسم» للشاعر والروائي اللبناني، يوسف بزي، كان قد رشحه لي صديقي الصحافي والشاعر محمود عاطف. فعلى الرغم من أنه لم يكن يدور في الفترة التي أبحث عنها، فإنه كان مفيدًا في دخول مناخات الحرب، وزواريب ميلشياتها. أوقفني نقص الأوكسجين وأعراض الارتفاع عن سطح البحر، من تسكير الأذن، وفقدان الاتزان، وانخفاض درجات الحرارة عن استكمال القراءة.
كان في استقبالي صديقي موسى، وبعد جولة سريعة في بعلبك ذهبنا إلى المنزل. شملوني بلطف شديد وكرم لا يُضاهى، وبعد حديث طويل عن الأحوال وذكريات والد موسى مع مصر أثناء فترة عمله في ليبيا، قرر بداية الجولة تعريفي إلى أصدقاء عبد الكريم ومعايشة أماكن مكوثه، يتخللها ذكرياته الخاصة مع الشهيد المصري.
وصلنا إلى زقاق ضيق يشبه أزقة أحياء القاهرة القديمة. فُتِحت أبواب مساكنه على مصراعيها للجميع. الترحيب هناك حار. وبالأخص بي، المصري الوحيد. عرَّفني أبو موسى إلى الجميع وعرَّفهم إلي، وأخبرهم عن سبب قدومي وبحثي عن قصة عبد الكريم.
في بعلبك عاش عبد الكريم، ينساب بين بيوتها وأهلها فلا يطرق بابًا إلا ويجده مُرحِّبًا. لم يجد عملًا طوال فترة مكوثه التي قاربت العام في ضيافة بيت أم عباس، فكان يمشي بين الأحياء ممسكًا بأوراقه وأقلام الرسم وأحيانًا الفأس. يرسم أصدقاءه وجيرانه أحيانًا ويساعدهم في الزراعة أغلب الوقت فيشاركونه طعامهم وبيوتهم ومجالس لعب الورق ودندنة الأغاني، مع أفراد أمن مقر «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
بابتسامة تتذكره زوجة صديقه أبو عصام: «الله يرحمه كان يعيش بيننا جميعًا، يأكل مما نأكل. كان يقول لي دائمًا الشاي لديكم «يعبي الرأس». أحبه أبو عصام جدًّا، فكان يلتقيه بالمساء مع المرحوم عباس وشباب الحي. تتذكر زوجته مبتسمةً قائلةً: «كان يخبط برجله السلاح ويقوم بعمل حركات تبهر الجميع»، ثم تضيف بنوع من الفخر: «كان ضابطًا عسكريًّا مصريًّا».
يتذكر أبو موسى أنَّ في إحدى سهراتهم، اشتعل رأس عبد الكريم بعد أنباء اتجاه مصر نحو السلام مع الاحتلال الإسرائيلي، وظلَّ يترحم على أيام عبد الناصر، مسترسلًا في الحديث عن هزائم العرب التي بدأت منذ ما حدث بين مصر وسوريا من فرقة بعد وحدة، وتحالف القوى الرجعية العربية مع شياطين الغرب، قائلًا إن «التشرذم العربي هو سر بقاء إسرائيل ومنبع قوتها». وكعادته يهز عباس رأسه، فيما ينظر أبو موسى له قائلًا: «شو بدنا نعمل؟».
سألتهم عن أيِّ معلومات حول توقيت انخراط عبد الكريم رسميًّا مع المقاومة الفلسطينية، لم تسعف ذاكرة زوجة عباس تحديد تلك الفترة بدقة، كما أنَّ أبا موسى كان قد قرر الذهاب آنذاك إلى ليبيا للعمل هناك. أصبتُ بخيبة أمل عندما بدا لي صعوبة واستحالة الوصول لتفاصيل مادية عن ذلك المصري.
قررنا الاستئذان والبحث عن خيط آخر، وبعد أن هممنا بالرحيل، طلبت منا زوجة عباس العودة، فلما رجعنا كانت تحمل في يدها صورة محاطة بـ«برواز» هش لزوجها عباس، ابتسمت وهي تقول «صورة عباس، رسمها له المرحوم عبد الكريم».
عدت إلى بيروت خائب الأمل بعد محاولات مضنية لاسترجاع قصة طواها التاريخ سريعًا. شكرت عائلة موسى على الاستقبال والمساعدة، واعدًا بالعودة قريبًا. بعد عودتي قررت طلب المساعدة من صديق فلسطيني يعمل صحافيًّا، شرحت له القصة وطلبت منه المساعدة في رسم طريق للبحث، قال لي «شبه مستحيل» أن أجد شخصًا استشهد قبل 40 عامًا في حرب أهلية، بالإضافة إلى عدم وجود صورة أو حتى اسمه الحقيقي. طلب مني التواصل مع المكتب الإعلامي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، رغم تشكيكه بقدرتهم في الوصول لشهيد لا يُعرف عنه سوى اسم: عبد الكريم المصري.
حقيقة الأمر، شعرت باليأس من الوصول إلى قصة ذلك الشهيد المصري المنسي، وعلى كل الأحوال تركت رسالة بسؤالي ورقمي وطلبت منهم التواصل معي. بعد فترة طويلة كادت أن تنسيني المصري، تواصل معي شخص عرَّفني بنفسه أنه من «الجبهة» قائلًا إنه وجد معلومات عن الشهيد عبد الكريم المصري الذي أبحث عنه.
معركة الفنادق.. هنا ارتقى الشهيد المصري
بلهفةٍ لم تتجاوز بضع دقائق، انتظرت تلك المعلومات حتى تصل إلى الهاتف. «عبد الكريم أبو الفتح شعبان، ولد الشهيد البطل في القاهرة عام 1949، مصري الجنسية، تلقى تدريبه العسكري في الجيش العربي المصري، ونال شهادة دبلوم في الرسم».
بالتأكيد، يمكن بسهولة تخيُّل مدى الفرحة الممزوجة بالحماسة التي غمرتني في تلك اللحظة. لم تكن هنالك صورة لعبد الكريم أبو الفتح شعبان، ظللت أكرر اسمه الحقيقي متخلِّيًا عن جنسيته (المصري) التي أصبحت جزءًا من اسمه بعد ذلك.
الشارع المؤدي لبيت عباس شلحة ومقر الجبهة الشعبية
أكملت الاطلاع على المعلومات، التي تذكر يوم التحاقه بالجبهة الشعبية، في 9 يناير (كانون الثاني) 1976، لكن لم تدُم فرحتي كثيرًا لتنقلب وتتحوَّل إلى حيرة. يقول أرشيف الجبهة إن «هاني عبد الفتاح» الاسم الحركي لعبد الكريم «شارك في معارك الدفاع عن الثورة وجماهيرها في لبنان، واستشهد في معارك المواجهة ضد القوَّات الانعزالية والفاشيَّة في منطقة بيروت، بتاريخ الأول من يوليو (تموز) 1976».
حسنًا، كل المعلومات عن شهيدنا المصري دقيقة، باستثناء توقيت استشهاده. بحسب أرشيف الجبهة، ما بين معركة «هوليداي إن» وتاريخ استشهاده، نحو شهرين. سريعًا، وازنت بحثي على جبهتين، الأولى كانت التوجه لمروان عبد العال، الناطق باسم الجبهة الشعبية في لبنان، وبدوره أحال الأمر لفؤاد الظاهر للمساعدة في التدقيق في الأرشيف والبحث عن قبر عبد الكريم، وكل ما قد يقع بين أيديهم من المصادر أخرى.
أما مهمتي الثانية كانت اللجوء لأرشيف الصحف والمجلات العربية، رحلة من البحث المضني لعدة ساعات أقتطعها يوميًّا للتجول في أرشيف جريدتي «السفير العربي» و«النهار»، كذلك مجلَّة «الآداب» اللبنانية، ورغم صعوبة الوصول لأرشيف الصحف المصرية، حاولت حصر بحثي على تلك الفترة، وهذا الشهيد المنسي.
كتف الفقر، ورشاشٌ، وأرض تتململ، وجياعٌ يُطلقون النَّار يأتون، كتاريخ مفاجئ! كل من سمَّاهم الأسياد في الماضي صغارًا، يكبرون!
تحت عنوان «نشيد للفقر المسلَّح»، كتب الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي تلك الكلمات، في مجلة «فلسطين الثورة» البيروتية في مارس (آذار) 1976. أمَّا أنا فقد وجدت تلك الكلمات، بالأدق وجدت هي طريقها إليَّ، بينما كنت أبعثر أرشيف الصُحف والمجلَّات العربية منها والأجنبية، بحثًا عن ذلك المصري المنسي تعيس الحظ، عَلِيِّ المقام في تاريخ المقاومة.
وبعد بحثٍ طويل، بين شهادات نادرة الوجود لتلك الفترة، وجدت حوارًا مهمًّا في مجلَّة «الآداب» اللبنانية، نُشر في 17 يناير 2018، للقيادي الفلسطيني، ماهر اليماني، قبل وفاته بعام واحد، يحكي فيه عن مشواره السياسي الحافل، وسنوات المقاومة والسجن، للكاتب اللبناني يسري الأمير عن «معركة الفنادق».
«في مارس سنة 1976 شاركنا في «معركة الفنادق» بعد الدخول الثاني للقوَّات المشتركة، اللبنانيَّة ــــ الفلسطينيَّة، إلى فندقَي «هوليداي إن» و«فينيسيا» (كانت القوَّاتُ المشتركة قد طهَّرت الفندقين، ولكنَّ القوَّات الانعزاليَّة أعادت احتلالَهما بعد انسحابنا). وصلتُ مع فصيلين مجهَّزيْن بأسلحةٍ فرديَّةٍ إلى المنطقة. كانت الجبهة الشعبيَّة ــــ القيادة العامَّة (بزعامة أحمد جبريل)، و«المرابطون» (بزعامة إبراهيم قليلات)، قد استوليا على فندق «هوليداي إنْ»، وكانت الجبهة الشعبيَّة ومجموعةٌ من حزب العمل الاشتراكيِّ العربيِّ قد دخلا إلى فينيسيا».
يكمل اليماني: «عمل الرفاق على تمشيط الفندقين. كُلِّفتُ بالتقدُّم في اتجاه «المنطقة الرابعة» (منطقة ستاركو). ثمَّ تقدَّمنا على خطِّ النورماندي، حيث خضنا أشرسَ المعارك، وسقط للطرف الانعزاليِّ العشرات. كان نهارًا جنونيًّا من التمشيط والقتال، من مكانٍ إلى آخر، وضمن مسافاتٍ تقارب الصفرَ أحياناً».
يكمل اليماني حديثه: «أذكرُ بهوَ فندق «النورماندي». دخل أحمد أبو شقرا ومجموعتُه بسرعةٍ إلى البهو، وكنتُ خلفه تمامًا، فاكتشفنا أنَّنا وجهٌ لوجه مع مقاتلي حزب الكتائب ــــ المنطقة الرابعة. فدار اشتباكٌ مذهلٌ قائمٌ على المفاجأة. ولكَ أنْ تتخيّل أكثرَ من 22 بندقيَّة ترمي النار داخل مكانٍ مغلق!».
لم أجد ضالتي بين صفحات أرشيف الصحف، إذ لم تشر من قريب أو بعيد إلى البطل المصري الذي شارك في معركة المعارك، فاضطررت مرغمًا انتظار وصول المعلومات الجديدة الآتية من مسؤولي الجبهة، عسى أن تكون مصحوبة بالخبر اليقين، وتحديد توقيت استشهاد عبد الكريم أو صورة تحمل الاسم الحركي له: هاني عبد الفتاح، وهو الأمر الذي لم يتكشَّف حتى هذه اللحظة التي تقرأ فيها عزيزي القارئ هذه السطور.



رسم لعباس شلحة، رسمه الشهيد عبد الكريم المصري



في محاولة أخيرة مني لسبر أغوار قصة نعرف نهايتها ولا نعرف تفاصيلها؛ ذهبت إلى المقبرة كي أبحث بنفسي، فاكتشفت صعوبة الاعتماد على النفس في البحث بمقبرة واحدة لشهداء فلسطين. لم يغرَّنِ طموح المحاولة، على التيقُّن من أن ما احتواه بطن هذه الأرض صعب أن تجود به على من يدوس عليها، فألقيت السلام والتحية، وقرأت الفاتحة، علَّها تصل إلى الشهيد عبد الكريم المصري، أو عبد الكريم أبو الفتح شعبان، أو هاني عبد الفتاح، الذي يرقد في بطن هذه الأرض، بجوار رفاقه.
وفي الوقت الذي ما زلت آمل فيه أن تصلني صورة للشهيد أو تفاصيل دقيقة عن حياته وبطولته، قررت الكتابة عنه. ربما تصل هذه الكلمات إلى من يعرفه، إلى أهله وناسه، أو الأصدقاء في مصر، الذين لا يعرفون أين نام عبد الكريم أخيرًا، والذين قد يجدون في هذه القصة، أجوبةً لأحجية تبعثرت منذ أكثر من 40 سنة، ويساعدون في استكمال رحلة البحث عن الشهيد المصري الوحيد – الذي نعرفه – في الحرب الأهلية اللبنانية. فهل تعرف عزيزي القارئ أو سمعت من قبل عن عبد الكريم أبو الفتح شعبان، أو هاني عبد الفتاح؟