«30 درجة 02’10.2 شمالًا، 32 درجة 36’47.9 شرقًا. نجم يميز تلك البقعة في الصحراء شرق قناة السويس، على بعد حوالي 10 كيلومترات شمال شرق مدينة السويس المصرية، حتى أنه يمكن رؤية نجمة خماسية في السماء. المقبرة على شكل نجمة خماسية (بيتوكراكا) هي التذكير المرئي الوحيد في مصر لـ30 ألف يوغسلافي لجأوا إلى هنا خلال عامين في أواخر الحرب العالمية الثانية وأوائل فترة ما بعد الحرب، بين عام 1944 و1946»
*من مقال «بناء يوغوسلافيا في الرمال؟ اللاجئون الدلماسيون في مصر، 1944-1946».
عندما غزا الألمان وحلفاؤهم جنوب شرق أوروبا، فر عدد كبير من المدنيين من أوطانهم، فر الكثيرون منهم عبر البحر الأبيض المتوسط، قافزين من جزيرة إلى أخرى بحثًا عن المأوى والأمان، حتى أتت بريطانيا بفكرة إنشاء مخيمات لاجئين في مصر وفلسطين وسوريا، تحت إدارة منظمة الإغاثة واللاجئين بالشرق الأوسط.
مئات الآلاف من اللاجئين، معظمهم من النساء والأطفال، من بلغاريا وكرواتيا واليونان وتركيا ويوغوسلافيا السابقة عبروا المتوسط هربًا من ويلات الحرب، وبحثًا عن الأمان، وفي هذا التقرير نحكي لك قصة اللاجئين الأوروبيين الذين قدموا إلى الشرق الأوسط في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا قصة «مخيم الشط» في سيناء.
إجراءات الدخول للمخيمات
بعد رحلة شاقة عبر البحر، وبمجرد وصولهم لمصر أو فلسطين أو سوريا، كان يجري تسكين اللاجئين في أحد المخيمات التي أقامتها المنظمة، ففي سوريا وجد «مخيم حلب»، وفي فلسطين وجد «مخيم النصيرات» الذي كان الأكبر من حيث المساحة، أما في مصر فوجد عدة مخيمات مثل «مخيم الطلمبات» في الإسكندرية، و«مخيم الخطابة» بالقرب من مدينة السادات الحالية، و«مخيم آبار موسى» في شبه جزيرة سيناء، و«مخيم الشط» الموجود في سيناء أيضًا، والذي كان منزلًا لثلاثين ألف لاجئ، وهو المخيم الذي سنحكي عنه بمزيد من التفصيل لاحقًا.
كان على اللاجئين أولًا تسجيل أسمائهم لدى مسؤولي المخيم والحصول على بطاقات هوية صادرة عن المخيم. تضمنت هذه البطاقات التعريفية معلومات مثل اسم اللاجئ، ورقم تعريف المخيم، ومعلومات عن تاريخه التعليمي والعمل وأي مهارات خاصة يمتلكونها، وقد كان على اللاجئ حملها معه في جميع الأوقات.
بعض اللاجئين الأوروبيين في مصر – مصدر الصورة: رير هيستوريكال فوتوز
وقد احتفظ مسؤولو المخيم بسجل يحتوي على رقم التعريف، والاسم الكامل، والجنس، والحالة الاجتماعية، والمهنة، ورقم جواز السفر، والتعليقات الخاصة، وتاريخ الوصول، وفي النهاية تاريخ مغادرة كل من كان بالمخيم. وقد كان أغلب لاجئي «مخيم الشط» في سيناء، من يوغوسلافيا السابقة، تحديدًا من إقليم دلماسيا الذي يقع على الساحل الشرقي من البحر الأدرياتيكي، والذي كان يضم العديد من الأعراق مثل الصرب والكروات والطليان.
بمجرد أن يتم تسجيل الوافدين الجدد، يبدأ الفحص الطبي الشامل، إذ يتوجه اللاجئون إلى ما كان يعد مستشفى مؤقتة وعادة ما تكون خيامًا، لكن في بعض الأحيان كان يجري إعادة استخدام المباني الفارغة لأغراض الرعاية الطبية. في الكشف كان اللاجئون يخلعون ملابسهم وأحذيتهم ويغتسلون حتى يعتقد المسؤولون أنهم قد تم تنظيفهم بشكل كاف. وكان بعض اللاجئين – مثل اليونانيين الذين وصلوا إلى مخيم حلب من جزر دوديكانيز في عام 1944 – يتعرضون لفحوصات طبية بشكل مستمر، فأصبحت وكأنها جزء من روتين حياتهم اليومي.
وبعد أن يقتنع المسؤولون الطبيون بأن اللاجئين يتمتعون بصحة جيدة بما يكفي للانضمام إلى بقية المخيم، يجري تقسيم اللاجئين إلى أماكن معيشة للعائلات، والأطفال غير المصحوبين بذويهم، والرجال العزاب، والنساء العازبات. وبمجرد تعيينهم في قسم معين من المخيم، يتمتع اللاجئون بفرص للخروج من المخيم، ومن حين لآخر كانوا قادرين على الذهاب في نزهات تحت إشراف مسؤولي المخيم، ولكن اختلفت الحياة من مخيم لآخر، وفقًا لموقع المخيم وظروفه وعدد اللاجئين.
مخيم الشط (1944).. قرى كرواتية على أرض مصرية!
يغطي مخيم الشط نحو 170 كيلومترًا مربعًا، وقد كان مقسمًا إلى خمسة مخيمات فرعية، كل منها منظم تقريبًا على غرار قرية كرواتية. أقامت منظمة الإغاثة واللاجئين في الشرق الأوسط التي أنشأتها بريطانيا المخيم وكانت مسؤولة عنه، لكن المملكة المتحدة، التي تعرضت بالفعل لضغوط بسبب الحرب، كان لديها القليل من الموارد لمساعدة اللاجئين بشكل كامل.
اختلفت المصادر في حقيقة الوضع داخل المخيم، فبينما اتجهت المصادر البريطانية لتوضيح كيف ساهمت المنظمة والحكومة البريطانية والحكومة المحلية (المصرية) في استمرار المخيم وتوفير الاحتياجات الأساسية، ذهبت المصادر الكرواتية على سبيل المثال في الاتجاه الأخير موضحين كيف كانت الأحوال سيئة للغاية.
وفقًا للمصادر الكرواتية فقد ذكر ضابط أمريكي كان متمركزًا في القاهرة في ذلك الوقت أن «كل من كان في القاهرة مهتم بإغاثة اللاجئين تحدث معي بسخط بشأن هذا المخيم سيئ السمعة، حيث تُرك اللاجئون، ومعظمهم من النساء والأطفال، ليعولوا أنفسهم، حتى إن إدارة المخيم كانت إلى حد كبير تحت سيطرة اللاجئين».
وقد كتب جون كورسيليس، أحد دعاة السلام البريطانيين الذي خدم مع وحدة إسعاف أصدقاء المجتمع وعمل في المخيم في وقت لاحق كيف «ظهر الناس واختفوا في ظروف غامضة، وكأن المخيم أحد الفنادق».
ووفقًا للمصدر نفسه، فقد عاش جميع سكان المخيم في خيام الجيش البريطاني الفائضة، مع بناء عدد قليل من المباني لتقوم بشكل حصري بالوظائف الإدارية. وقد أعطى اللاجئون أنفسهم درجة من الشعور بالحميمية والبقاء، حتى إنهم قاموا ببناء أرضيات لخيامهم، وأقاموا المدارس والعيادات وحتى المسارح.
جانب من لاجئي مخيم الشط في مصر – مصدر الصورة: رير هيستوريكال فوتوز
ويوضح كورسيليس قائلًا: «بالنظر إلى ما مر به اللاجئون والبيئة المقفرة والمثبطة للعزيمة في صحراء سيناء، كان تكيفهم توضيحًا لاكتفائهم الذاتي». وأضاف لاحقًا: «يجب ألا أعطي انطباعًا بأن هؤلاء الناس قد خلقوا نوعًا من الجنة هنا على الصحراء ببراعتهم، لكن افتقارهم الشديد إلى كل شيء جعل ما يفعلونه أكثر إثارة للإعجاب».
وقد صُدم الضباط البريطانيون الذين أهملوا المعسكر لبعض الوقت عندما اكتشفوا بعد ذلك أن اللاجئين نظموا نشراتهم الإخبارية ومحاكمهم وقوات الشرطة الخاصة بهم.
المدارس التي نظمها اللاجئون لم يكن بها كتب مدرسية، فكان الأطفال يتعلمون القراءة بواسطة النسخ القديمة من النشرة الإخبارية الخاصة بالمخيم، إذ كانت ورش العمل التي تحاول توفير الضروريات في المخيم، تعمل بأقل الإمكانيات. أما بخصوص الرعاية الطبية فلم تكن عيادات اللاجئين قادرة على تقديم الكثير للعدد الكبير غير المتناسب من الشباب وكبار السن من السكان، ونتيجة لذلك فإن أكثر من 800 شخص قد ماتوا في الأشهر الثمانية عشر التي قضوها في المخيم.
لكن رغم الصعوبات؛ فإن الحياة في المخيم لم تكن كابوسًا مستمرًا من الأحزان، فقد كان هناك 300 حالة زواج في المخيم وشهد ولادة 650 طفلًا. كذلك يوضح مقال «بناء يوغوسلافيا في الرمال؟ اللاجئون الدلماسيون في مصر، 1944-1946» كيف أن مخيم الشط تحديدًا ودونًا عن باقي المخيمات كان دائمًا مليئًا بالحركة والحياة.
فوفقًا للمقال «بدأت الحياة الثقافية بمجرد وصول اللاجئين. وكان من ضمن اللاجئين بعض الفنانين البارزين الذين جرى إجلاؤهم مع المزارعين والصيادين. وفي غضون أسابيع من وصولهم في مارس (آذار) 1944، بدأت المدارس بالفعل في العمل، ونُشرت الصحف، وجرى إنشاء فرق المسرح والجوقة».
كذلك يذكر المقال كيف بنت إدارة المخيم المكتبات، وقد كانت قلة الكتب الموجودة في هذه المكتبات خير دافع للكتاب والمفكرين الذين كانوا في المخيم لأن ينشروا أعمالًا جديدة، أو يترجموا ما هو متاح لهم. كما كانت هناك مجموعة رائعة من الأحداث الثقافية التي جرى تنظيمها في جميع أنحاء المخيم، وتضمنت تلك الأمسيات الثقافية محاضرات وقراءات وحفلات غنائية وعروضًا مسرحية ورقصات فلكلورية.
على جانب آخر، تطلبت بعض المخيمات، وليس كلها، عمل اللاجئين. ففي «مخيم حلب»، جرى تشجيع اللاجئين -دون أن يُطالبوا بذلك- على العمل طهاة وعمال نظافة وإسكافيين.
لم يكن العمل إلزاميًّا في «مخيم النصيرات» أيضًا، لكن مسؤولي المخيم حاولوا خلق فرص للاجئين لاستخدام مهاراتهم في النجارة والرسم وصنع الأحذية وغزل الصوف؛ حتى يتمكنوا من البقاء مشغولين وكسب القليل من الدخل من اللاجئين الآخرين.
في مخيم «آبار موسى»، على سبيل المثال، طُلب من جميع اللاجئين القادرين جسديًّا واللائقين بدنيًّا العمل في مجموعة متنوعة من المهن، فعمل معظمهم أصحاب متاجر أو عمال نظافة أو خياطة أو بنائين أو نجارين أو سباكين، بينما عمل «أشخاص مؤهلون بشكل استثنائي» مشرفين مدارس أو رؤساء عمال.
بعض الحرفيين الأوربيين من أبناء المخيمات – مصدر الصورة: رير هيستوريكال فوتوز
أما فيما يخص «مخيم الشط» فتوفرت العديد من الفرص للاجئين لتلقي تدريب مهني، حيث كان طاقم المستشفى يعاني من نقص شديد، فتم السماح للعديد من اللاجئين بالتدريب على التمريض، خاصة اللاجئين اليوغسلافيين واليونانيين على حدٍّ سواء.
أخيرًا عاد اللاجئون إلى بلادهم عام 1946، بعد انتهاء الحرب، وانتهت قصة «مخيم الشط»، لكن ذكراه لم تنته، ولم يكن ذلك بالأمر السهل.
مخيم الشط (2006).. «أرض الوطن لا تنسى»
في عام 2006، وضع رئيس كرواتيا آنذاك ستيبان ميسيتش، إكليلًا من الزهور عند أقدام تمثال الأم دالماتيا في المقبرة التي كانت موجودة في «مخيم الشط» والتي أعيد افتتاحها في ذلك الوقت، قائلًا: «أرض الوطن لا تنسى. منذ أكثر من 60 عامًا، جلبتهم رياح الحرب إلى هنا، ويبدو أن الحرب قد تبعتهم حتى إلى ما وراء الحدود بين الحياة والموت».
وبالفعل، فإنه وفي خلال 60 عامًا من وجوده، كاد أن يختفي تمثال الأم دالماتيا والمقبرة ومخيم الشط مرتين تقريبًا. فقد جرى تدمير المقبرة الأصلية والنصب التذكاري أثناء الاحتلال الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء في حرب 1967. وبعد أن استعادت مصر سيناء، أعادت الحكومة اليوغوسلافية (التي كانت كرواتيا جزءًا منها في ذلك الوقت) بناء المقبرة، مع الجدار الخارجي على شكل نجمة بارتيزان خماسية الرؤوس، وأعادت تسميتها بـ«مقبرة حرب بارتيزان اليوغوسلافية».
وبعد أقل من 20 عامًا وجدت كرواتيا نفسها مرة أخرى في وسط حرب أهلية، عندما انهارت يوغوسلافيا الاشتراكية الفيدرالية وشنت كرواتيا حربًا من أجل الاستقلال والتي انتهت فقط في عام 1995. وفي خطابه ناقش ميسيتش – الذي أصبح أول رئيس لدولتين منفصلتين، – يوغوسلافيا وكرواتيا- ما عنته الحرب الأهلية لهذا النصب التذكاري: «مع تفكك الاتحاد اليوغوسلافي وسط الحرب، جرى إهمال المقبرة، وكاد أن يطويه النسيان».
وأوضح البروفيسور إيفان إيفكوفيتش، سفير يوغوسلافيا السابق في مصر، والذي كان موجودًا في مصر خلال الحروب اليوغوسلافية ودرس في الجامعة الأمريكية في القاهرة، إن سنوات الإهمال كانت صعبة على النصب التذكاري، الذي تعرض للتخريب الشديد.
لذلك وفي إعادة افتتاح المقبرة، شكر ميسيتش شعبي مصر وكرواتيا الذين عملا على التجديد، وأضاف في كلمته:
«أشكر كل الأشخاص الذين ساعدوا في الحفاظ على ذاكرة مئات اللاجئين، بعضهم بالمعنى الحرفي للكلمة كانوا في بداية حياتهم، ولم يتمكنوا من العودة أبدًا إلى ديارهم، التي تبعد مسافات كبيرة عن سيناء».
واليوم، وبعد أن عاد كل لاجئي مخيم الشط إلى بلادهم، وأصبحت سيناء حكاية يحكونها لأحفادهم وأولادهم، نجلس نحن في الوطن العربي، ننتظر ذلك اليوم، الذي يعود فيه لاجئونا إلى بلادنا، وتنتهي معاناتهم في الأراضي الغريبة، وتصبح مجرد حكاية يحكونها لأحفادهم وأولادهم.