لا جديد في باكستان؛ فكل فصول الأزمة السياسية الحالية بين عمران خان والجيش تعد تكرارًا لفصول تاريخية سابقة، فمنذ الاستقلال، عام 1947، لعبت المؤسسة العسكرية الدور الأكبر في تصميم الحياة السياسية هناك، وتشكيل السياسة الخارجية وخريطة التحالفات وفق مصالح الجيش لا مصالح البلاد، لذلك لا عجب أنه على مدار 75 عامًا من الاستقلال، لم ينجح أي من رؤساء وزرائها في إتمام فترة ولايته كاملة.
فقد اغتيل أول رئيس وزراء لباكستان، لياقت علي خان، في عام 1951، وشهدت فترة حكمه أحداثًا عنيفة، وكذلك كانت معظم فترات حكم خلفائه في السلطة وإن كانت بحدة أقل، إذ دخل بعضهم في خلاف عاصف مع الجيش صعَّب من ممارستهم للسلطة، فيما تعرَّض الكثير منهم للطرد من السلطة بعد اتهامهم بشتى أنواع التهم.
فعلى سبيل المثال، تعرَّض رئيس الوزراء محمد خان جونيجو، لانقلاب نفذه الجنرال محمد ضياء الحق في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بعد اتهامه بعدم الكفاءة، وكذلك جرى عزل بينظير بوتو، التي شغلت منصب رئيس الوزراء مرتين في التسعينيات، في كل مرة بسبب مزاعم فساد، وكذلك عزلت المحكمة العليا، سيد يوسف رضا جيلاني، الذي انتُخب رئيسًا للوزراء في عام 2008، بتهمتي الفساد وازدراء القضاء.
وكذلك الأمر مع نواز شريف، الذي تولى رئاسة الوزراء ثلاث مرات، واختلف مع الجيش في جميع فترات حكمه، وأُطيحت حكومته الثانية في انقلاب أبيض عام 1999 على يد برويز مشرف، الذي كان آنذاك القائد العام للجيش، وجرى قطع فترة ولايته الثالثة من 2014 حتى 2017 بعد استبعاده من طرف المحكمة العليا.
حتى التصويت بسحب الثقة من رئيس الوزراء، والذي كان على وشك أن يتعرَّض له رئيس الوزراء الحالي، عمران خان، حدث مرتين تاريخيًّا، الأولى كانت في عهد بينظير بوتو عام 1989، والثانية في عهد شوكت عزيز عام 2006. ولم ينجح البرلمان في سحب الثقة من رئيس الوزراء في كلتا الحالتين، تمامًا كما فشل هذه المرة في مواجهة خان.
على حافة الهاوية.. مباراة جديدة بين عمران خان والجيش
انتُخب عمران خان رئيسًا لوزراء باكستان في يوليو (تموز) 2018، وذلك عندما قدم نفسه على أنه رجل قومي يعد بمحاربة الفساد وإنعاش الاقتصاد المتعثر في البلاد، والحفاظ على سياسة خارجية مستقلة.
عمران خان في شبابه
ينتمي عمران خان إلى عائلة ثرية في لاهور، وقد تلقَّى تعليمه في جامعة أكسفورد، ونال نصيبه من الشهرة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي حين كان لاعب كريكيت، اللعبة الشعبية في باكستان، ووصل إلى أوج هذه الشهرة، عندما ساهم في حصول منتخب بلاده على كأس العالم في الكريكيت عام 1992.
استغل عمران خان شهرته ليخوض مجال السياسة، فأسس عام 1996 حزبًا سياسيًّا جديدًا يُدعى «حركة الإنصاف الباكستانية»، ولأكثر من عقد من الزمان، كافح عمران خان لتحقيق نجاحات سياسية، وكثيرًا ما تعرَّض للسخرية بسبب طموحاته العالية، لكن بحلول عام 2011، بدأ في حصد ما زرعه على مدار 15 عامًا، إذ بدأ يحصل على الزخم السياسي، وجذب مئات الآلاف من الباكستانيين إلى مسيراته، وركَّز خطابه السياسي الشعبوي على محاربة الفساد ومناهضة السياسة الأمريكية.
وفاز حزب عمران خان بانتخابات يوليو (تموز) 2018، ليصبح بعدها رئيسًا للوزراء، وتؤكد بعض التقارير، وبعض قادة المعارضة الباكستانية، أن عمران خان لم يكن ليصل إلى هذا المنصب لولا دعم الجيش له، بالإضافة إلى بعض التلاعب في مسار انتخابات 2018 ونتائجها.
ومثلما كان الجيش فارقًا في وصول عمران خان إلى السلطة – وفقًا لحديث التقارير والمعارضة- فقد صعب الجيش الأمور على خان أيضًا، وذلك منذ أواخر عام 2021، عندما بدا أن الجيش لم يعد يدعم عمران خان، سواء فيما يتعلق بإدارته لاقتصاد البلاد، أو بسبب سياسته الخارجية المناوئة لواشنطن.
فعلى مستوى الاقتصاد، وصلت معدلات التضخم في البلاد إلى معدلات قياسية، بالإضافة إلى تراكم الديون الخارجية، ويُوضِّح عزير يونس، مدير المبادرة الباكستانية في المجلس الأطلسي بواشنطن ذلك بقوله:
«على سبيل المثال، في الفترة من يناير (كانون الثاني) 2020 إلى مارس (آذار) 2022، كان تضخم أسعار المواد الغذائية في الهند يقدر بنحو 7% بينما بلغ معدل التضخم في باكستان نحو 23».
وعلى مستوى السياسة الخارجية، فقد تبنَّى قائد الجيش، الجنرال قمر جاويد باجوا، خطًّا مناهضًا تمامًا لعمران خان، وذلك حينما أدان بشكل واضح الحرب الروسية على أوكرانيا، وشدَّد على أهمية علاقة بلاده بواشنطن، وذلك بما يخالف مواقف عمران خان المناهضة تمامًا لأمريكا، والداعمة لكل الحرب الروسية على أوكرانيا.
وبدأت خلافات عمران خان مع قائد الجيش في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، عندما قام قائد الجيش جاويد باجوا بتعيين رئيس جديد للاستخبارات الباكستانية، وهو الجنرال نديم أنجوم، بدلًا من الجنرال فايز حميد، وقد رفض خان توقيع قرار تعيين أنجوم، بسبب عدم تشاور قائد الجيش معه في هذا التعيين، قبل أن تجري تسوية الخلاف علانية، بتعيين أنجوم، ومنذ تلك اللحظة لم تعد الأمور بين خان وباجوا إلى سابق عهدها.
واستغلت المعارضة الباكستانية، بقيادة شهباز شريف (شقيق رئيس الوزراء السابق نوَّاز شريف)، خليط الأزمات الذي يواجهه عمران خان حاليًا، لتُسدِّد له ضربة سياسية موجعة، وذلك عندما تقدمت بطلب لسحب الثقة منه، على خلفية أزمات البلاد الاقتصادية، وسياسات عمران خان الخارجية، التي يرى قادة المعارضة أنها قد تذهب بالبلاد إلى مستقبل مجهول.
وبالفعل نجح قادة المعارضة في تنظيم صفوفهم، وضم أحد حلفاء خان السابقين، وهو حزب «الحركة القومية المتحدة»، بالإضافة إلى بعض أعضاء حزبه، وذكرت بعض التقارير أن المعارضة نجحت في حشد أكثر من نصف أعضاء البرلمان، بما يضمن لهم التصويت لسحب الثقة من خان.
ولكن عمران خان قام بمناورته الأخيرة؛ فبعد دعوته لأنصاره بالتجمع في شوارع العاصمة إسلام آباد احتجاجًا على تصويت البرلمان، تحدث عن كشفه عن وثائق تثبت تورط واشنطن في دعم المعارضة الباكستانية للإقدام على خطوة سحب الثقة منه، الأمر الذي دعا البرلمان في الثالث من أبريل (نيسان) 2022، إلى إلغاء جلسة التصويت على سحب الثقة من خان، وأفاد نائب رئيس البرلمان، أسد قيصر، بأن «سحب الثقة من رئيس الوزراء عمران خان غير دستوري»، قبل أن يُعلن عمران خان – في خطاب متلفز- حل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة.
والجدير بالذكر أن حظوظ عمران خان في الانتخابات القادمة، حال إقامتها، ستكون مرتفعة، ليس فقط بسبب خطابه الشعبوي المناهض لواشنطن، ولكن أيضًا بسب فاعلية بعض سياساته الاقتصادية، وفق عديد من الخبراء، والذين يعتقدون أن عمران خان أدى عملًا معقولًا في تقديم المساعدة للفقراء، كما أنه حقق نجاحًا باهرًا في مواجهة فيروس كورونا، فقد سجلت باكستان التي يبلغ عدد سكانها 220 مليون شخص، 1.5 مليون حالة فقط، من بينهم 30 ألف حالة وفاة، وهو رقم منخفض بشكل مذهل، مقارنةً بالدمار الذي حدث في جارته الهند.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو واضحًا للمراقبين أن المعارضة لا تملك برنامجًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا بديلًا، فكامل خطتها تتوقف عند مرحلة إطاحة عمران خان، دون توفير حلول لقضايا باكستان الهيكلية والاقتصادية والاجتماعية العميقة. الأمر الذي يجعل أسهم خان مرتفعة في الانتخابات القادمة.
«عمران خان» في ثوب سبارتاكوس
يعد المشهد الحالي «ديجا فو» (وهي كلمة فرنسية تعني شوهد من قبل)، لملخص تاريخ باكستان السياسي، ولكن العامل المحفز يبدو مختلفًا هذه المرة؛ إذ إن الموقف العدائي الذي اتخذه خان في مواجهة الغرب خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، هو ما شجَّع المعارضة على مواجهته، والجيش على التخلي عنه، وهنا لا بد من العودة إلى الوراء عميقًا في تاريخ البلاد، لوضع سياسات عمران خان في إطارها التاريخي المناسب.
فمنذ استقلال باكستان في عام 1947، سيطر الجيش على مقاليد السلطة الرئيسية في البلاد وسيطر على ملفات السياسة الخارجية والأمن، فقد شهدت باكستان أربعة انقلابات عسكرية، بجانب العديد من المحاولات الانقلابية الفاشلة، وقضت البلاد أكثر من ثلاثة عقود تحت الحكم العسكري. وحتى في ظل الحكومات المدنية، كان جنرالات البلاد يتمتعون بسلطة هائلة في وضع أجندات السياسة الخارجية الباكستانية.
وإبان فترة الحرب الباردة، كانت باكستان حليفًا تقليديًّا لواشنطن، في مواجهة التحالف الهندي-السوفيتي، وتبدَّلت الأوضاع بعد 1990، فاتجهت واشنطن إلى الهند، وتزعزعت أسس التحالف بين باكستان وأمريكا.
وكانت نقطة التحول في العلاقة بين البلدين بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حينما وافقت باكستان، تحت قيادة الجنرال برويز مشرف، على العمل مع الولايات المتحدة في ملاحقتها للقاعدة وغيرها من المنظمات الإرهابية، ولعدة سنوات، تعاونت الاستخبارات الباكستانية مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، واعتقلت عددًا من كبار قادة القاعدة وطالبان وسلَّمتهم لنظيرتها الأمريكية.
لكن بحلول عام 2006، كانت العلاقة في طريقها إلى تدهور جديد؛ إذ أعادت حركة طالبان تجميع صفوفها، وبدأت في زعزعة الوضع العسكري في أفغانستان، وأحدثت خسائر فادحة في صفوف القوات الأمريكية، واتهم المسئولون الأمريكيون الجيش الباكستاني بالسماح لقادة طالبان بالحفاظ على ملاذات آمنة عبر الحدود، على الأراضي الباكستانية.
ثم جاءت اللحظة الفارقة عام 2011، عندما طارت القوات الخاصة الأمريكية إلى باكستان وقتلت زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، في مجمع في بلدة أبوت آباد الشمالية، حيث كان يعيش، وأصرت باكستان على عدم علمها بوجود بن لادن هناك بالقرب من أكاديمية التدريب الرئيسية للجيش.
بالإضافة إلى كل ذلك، كانت ضربات الطائرات الأمريكية بدون طيار في باكستان، مصدر توتر دائم بين البلدين، إذ تقول واشنطن إن هذه الضربات كانت تستهدف مسلحين، لكنها قتلت على مدار سنوات مئات من المدنيين الباكستانيين، وهو الأمر الذي أغضب السلطات الباكستانية.
وفي المقابل، استغلت كل من الصين وروسيا التوتر الباكستاني-الأمريكي، واستثمرا بكثافة في البنية التحتية الباكستانية، واعتمدا على إسلام آباد وسيطًا لهما في أفغانستان، وتحوَّلت بوصلة البلاد نحو الشرق.
ولا يمكن إهمال دور الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في تعقيد العلاقات بين البلدين، فقد دأب ترامب على اتهام إسلام آباد بعدم الجدية في مكافحة الإرهاب، وإيواء متطرفين أفغان من حركة طالبان، وفي يناير (كانون الثاني) 2018، قرَّر تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية المقدمة لباكستان، والمقدرة بنحو 255 مليون دولار.
وقد ورث عمران خان، بوصوله إلى الحكم في يوليو (تموز) 2018، هذا التوتر مع واشنطن، ولم يجد صعوبة في التعامل معه، بل إن برنامجه السياسي الذي أوصله إلى الحكم قام بالأساس على مواجهة واشنطن، والفكاك من التبعية لمعسكر الغرب.
حركة طالبان بعد السيطرة على السلطة في أفغانستان
فبعد الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس (آب) عام 2021، رفض عمران خان السماح للولايات المتحدة بإنشاء قاعدة عسكرية في بلاده، وقالت حكومته إن وكالات الاستخبارات الأمريكية لن يُسمَح لها بالعمل داخل حدود باكستان، بل احتفل عمران خان علنًا بعودة طالبان إلى الحكم، قائلًا إن تغيير النظام يعني أن الأفغان «كسروا قيود العبودية».
وتمثل التصعيد الأكبر بين الطرفين والمغامرة الأخطر من طرف خان، في تحركات الأخير إبان الأزمة الأوكرانية الحالية، والتي يبدو أنه وجدها فرصة لتجديد تحديه للغرب، والارتماء كليًّا في المعسكر الروسي-الصيني، إذ قام خان، في 23 فبراير (شباط) 2022، أي قبل يوم واحد من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، بزيارة موسكو، والتي تعد الأولى لرئيس وزراء باكستاني منذ مارس (آذار) 1999، وتحدثت بعض التقارير عن أن خان كان يرغب –خلال تلك الزيارة- في دفع موسكو باتجاه إنشاء خط أنابيب غاز طال انتظاره، وهو أمر حيوي لتلبية احتياجات البلاد المتزايدة من الطاقة.
وبسبب موقفها الرسمي من الحرب الروسية، حذَّرت الولايات المتحدة باكستان من عواقب الغزو الروسي على الأمن الإقليمي والعالمي، وأصدر سفراء 23 دولة أوروبية بيانًا صحفيًّا، طالبوا فيه إسلام آباد بالانضمام إليهم في «إدانة تصرفات روسيا في أوكرانيا والتعبير عن دعمها لميثاق الأمم المتحدة والمبادئ التأسيسية للقانون الدولي».
فيما جاء رد عمران خان في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في مارس (آذار) 2022، بانتقاد الدبلوماسيين الغربيين لضغطهم على الدول غير الغربية لإدانة حرب روسيا على أوكرانيا، وقال:
«ما رأيكم فينا؟ هل نحن عبيدكم؟ وكل ما تقولونه سنفعله»
وكرَّر عمران خان الخطاب نفسه أمام أنصاره في بلدة ميليسي بمنطقة فياري، إذ قال: «لم يعترف الغرب أبدًا بدور باكستان في الحرب ضد الإرهاب، التي أودت بحياة 80 ألف شخص وتسببت في أضرار جانبية أخرى». ثم تساءل عمَّا إذا كانوا قد كتبوا الرسالة نفسها [التي تطالب بانتقاد روسيا] إلى الهند؟».

مشهد من نتائح الغزو الروسي لأوكرانيا
وبينما تبدو خطابات خان وسياساته منسجمة مع مبادئه السياسية وقناعاته التي تبنَّاها منذ بزوغه على الساحة عام 2011، يرى المراقبون الغربيون وكذلك المعارضة الباكستانية، أنها خطابات ومواقف شعبوية، تهدف إلى حشد أنصاره، وتعزيز موقفه في الانتخابات القادمة، وإلهاء الشعب عن أزماته الاقتصادية المستفحلة.
ولكن ورغم تخطي خان أزمة سحب الثقة، فما زال يقف على حافة الهاوية في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية من جهة، وقوى المعارضة في الداخل والجيش من جهة أخرى، خاصةً وأن مواقفه السياسية الأخيرة أفقدته أوراق المناورة، بعد أن جعل رهانه السياسي يقع بالكامل في كفة روسيا والصين.