منذ زيادة وتيرة التدهور الاقتصادي في تركيا وانهيار سعر صرف الليرة، تعاني أغلب الأسواق الناشئة النتائج السلبية لهذا التدهور، وذلك من هبوط أسعار العملات المحلية وتوترات بأسواق المال وصولًا إلى ارتفاع وتيرة خروج الأموال من هذه الأسواق بسبب هذا القلق، وما يزيد الأزمة هو الاعتماد التركي على الحلول التقليدية بعيدًا عن المؤسسات المالية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. ولكن ماذا لو نجحت تركيا في تخطي الأزمة بهذه الحلول؟، هل ستستفيد الأسواق الناشئة من هذه التجربة؟
فعلى مدار الأعوام الماضية، وخاصة منذ بداية العقد الحالي وانفجار الربيع العربي، أصبحت إدارة الأزمات الاقتصادية في أغلب دول المنطقة بالإضافة إلى الأسواق الناشئة؛ متعلقة بسياسات ودعم صندوق النقد الدولي من خلال برامج قروض يعتمدها الصندوق لإعادة هيكلة اقتصاد الدول، وذلك بداية من تونس والمغرب ومرورًا بمصر والأردن وأخيرًا الأرجنتين وغيرها. لكن على مستوى تركيا ورغم دعوات كثيرين لها باللجوء إلى الصندوق، فضلت البلاد الاعتماد على المعالجات التقليدية بعيدًا عن سياسات الصندوق، فهل تنجح تركيا في جلب الاستقرار الاقتصادي بعيدًا عن الصندوق؟
بعيدًا عن مساعدة النقد الدولي.. ما هو برنامج تركيا الاقتصادي؟
رفضت تركيا الاعتماد على برنامج اقتصادي منبثق عن سياسات صندوق النقد الدولي، ولجأت لإعداد برنامج وطني تقليدي للخروج من أزمتها، ففي 20 سبتمبر (أيلول) الجاري، أعلن وزير الخزانة والمالية التركي براءت ألبيرق، برنامجًا اقتصاديًا جديدًا لبلاده، تهدف لتحقيقه في الأعوام الثلاثة القادمة بما يتوافق مع واقع البلاد، وقدرة الإدارة الاقتصادية على اتخاذ القرارات السريعة.
أهداف البلاد جاءت واقعية إلى مدى بعيد؛ فبالنسبة للنمو الاقتصادي استهدف البرنامج 3.8% لعام 2018، و2.3% لعام 2019، و3.5% لعام 2020، و5% لعام 2021، وهذه النسب هي أقل من الأهداف السابقة، بينما برزت الواقعية أكثر فيما يخص التضخم، إذ تتوقع الحكومة وصوله إلى 20.8% خلال العام الجاري، لينخفض إلى 15.9% في 2019، ثم 9.8% عام 2020، وصولا إلى 6% عام 2021.
وزير الخزانة والمالية التركي براءت ألبيرق
حلول الحكومة تركزت في مضمونها على الدخل التركي الخاص، بعيدًا عن الاقتراض الخارجي أو طلب الدعم من المؤسسات المالية العالمية، إذ تم إنشاء مكتب للإشراف على التدابير المتعلقة بخفض الإنفاق وزيادة الدخل، بهدف استخدام الموارد والطاقات في القطاع العام، وتم تعليق تنفيذ بعض المشاريع التي طُرحت للمناقصة، ولذلك لتوفير النفقات.
ويعتمد البرنامج كذلك على إعطاء الأولوية للاستثمار في الصناعات الدوائية والطاقة والبتروكيماويات، من أجل تقليص عجز ميزان المعاملات الجارية، بالإضافة إلى مراجعة برامج التأمين الاجتماعي وإعادة هيكلة برنامج تنشيط الصادرات، وكما هو واضح تدخل كل هذه الخطوات في الإطار التقليدي لإنعاش الاقتصاد بعيدًا عن السياسة النقدية التي تواجه اختلافًا بين الحكومة والبنك المركزي.
الأسواق الناشئة تعاني.. فهل تتلقى الدعم من نجاح تركيا؟
على مدار العشر سنوات الماضية واصلت الأسواق الناشئة الاقتراض بشكل كبير بالدولار، عندما كانت أسعار الفائدة الأمريكية عند مستويات منخفضة للغاية، بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وكانت النتيجة هي النمو المدفوع بالائتمان في معظم الدول الناشئة، لتنقلب الأمور ضد كل هذه الدول بتكلفة ديون مرتفعة للغاية مع ارتفاع قيمة الدولار أمام عملاتها المحلية بقوة، وهو ما ظهر على الليرة مؤخرًا عندما هبطت بنسب قياسية وصلت إلى 50% وقادات معها عملات معظم الأسواق الناشئة.
ويرجع ذلك إلى أنه على مدار العقد الماضي بات لتركيا أهمية كبيرة بين الأسواق الناشئة، باعتبارها أحد التجارب الملهمة للدول الأخرى على المستوى الاقتصادي، وذلك كونها إحدى الدول التي سعت إلى شق طريقها للانتعاش في ظل ركود عالمي، كما أن أهميتها الجيوسياسية تمتد إلى ما هو أبعد، وذلك كونها أحد أعضاء حلف «الناتو»، وأنها دولة تمتد ما بين أوروبا وآسيا، لذلك قد نجد أن تأثيرها الاقتصادي بات ريادي إلى حد ما.
وفي الوقت الذي تعاني فيه معظم الأسواق الناشئة، فإن تركيا حاليًا تحاول إعادة كتابة الفصل الخاص بإدارة الأزمات في كتيب قواعد الأسواق الناشئة، فبدلا من اللجوء إلى التمويل الخارجي لدعم تعديلات السياسة المحلية، تبنت الحكومة مزيجا من التدابير كما ذكرنا، وفي حال نجحت تركيا في حل أزمتها بهذه الطريقة؛ فإن الوضع سيتغير بالنسبة لباقي الأسواق.
ويرى محمد العريان، كبير المستشارين الاقتصاديين لدى شركة «Allianz» الألمانية، أن تعامل تركيا مع الأزمة الحالية؛ كان مختلفًا عن نظائرها من الأسواق الناشئة، فبدلًا من التمسك بالنهج الذي سلكته دول أخرى، مثل الأرجنتين التي اقترضت 50 مليار دولار مؤخرًا من صندوق النقد الدولي، تجنبت تركيا ذلك، إذ لجأت إلى النهج التقليدي الذي مالت الاقتصادات الناشئة إلى اتباعه في الماضي.
ويكمن التحدي حاليًا في تمكن تركيا من إنجاح برنامجها الاقتصادي الجديد دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، وأن تتمكن من استعادة الاستقرار المالي والنمو، ففي حال نجحت أنقرة في هذا الأمر فأننا سنكون أمام نهج جديد في إدارة الأزمات في الأسواق الناشئة.
باكستان والجزائر.. دول على نفس الطريق
في التاسع من سبتمبر (أيلول) الجاري ناقش مستشارون اقتصاديون باكستانيون استراتيجية واسعة لتفادي طلب حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، إذ يسعى المجلس الاستشاري الاقتصادي لتقليص عجز ميزان المعاملات الجارية المتضخم، وذلك في تصميم الحكومة الجديدة للبلاد على تفادي اللجوء لصندوق النقد، في خطوة ربما تشبه كثيرًا الاتجاه التركي، ولا شك أن نجاح تجربة تركيا إن حدث سيدعم خطوة باكستان ويشجع دولًا أخرى لاتباع نفس النهج التقليدي.
الحالة الباكستانية تقترب كثيرًا من تركيا، فبعد أن تراجع المعروض الدولاري تراجعت العملة المحلية وبدأت احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي في الهبوط، وسط تباطؤ الصادرات بارتفاع نسبي في الواردات، وتنبأ معظم الماليين بأن باكستان ستلجأ إلى صندوق النقد للحصول على حزمة إنقاذ ستكون الـخامسة عشرة منذ أوائل الثمانينيات.
وكما هو الحال في تركيا أيضًا اتسع عجز ميزان المعاملات الجارية في باكستان بنسبة وصلت إلى 43% أي حوالي 18 مليار دولار في العام المالي المنتهي 30 يونيو (حزيران)‘ تأثرا بارتفاع أسعار النفط، إذ تستورد البلاد 80% من احتياجاتها النفطية، وهي كذلك أبرز أزمات تركيا.
على الجانب الآخر تبرز أيضًا الجزائر، باعتبارها إحدى دول المنطقة التي ترفض الاتجاه نحو الاقتراض الخارجي عمومًا ومساعدة صندوق النقد الدولي بشكل خاص، بينما تعتمد حاليًا على الحلول التقليدية، وذلك منذ أن منع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في 2017، حكومة بلاده من الاقتراض الخارجي، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر جراء هبوط أسعار النفط التي تغذي أغلب موازنة البلاد.
قرار بوتفليقة، جاء وسط مطالبات متعددة من صندوق النقد الدولي، للحكومة الجزائرية، بضرورة اللجوء للاقتراض الخارجي، لمواجهة تبعات الصدمة النفطية، لكن هذا الأمر رفضته الجزائر واعتمدت على ما يعرف بسندات التمويل غير التقليدية، التي أقرتها الحكومة في 2017. ومع استمرار الضغوط المالية على البلاد قد تتخلى الجزائر عن هذا الاتجاه، ولكن في ظل التوجه التركي ربما تتلقى الجزائر دعمًا من التجربة التركية حال حققت نتائج سريعة.
الصين.. صديق الأسواق الناشئة الوفي بديل النقد الدولي
يمكن القول بأن الدول الثلاثة التي تحدثنا عنها خلال التقرير؛ تركيا وباكستان والجزائر من الصعب أن تنجح بدون دعم خارجي قوي، يكون بصبغة استثمارية أكثر من كونه دعمًا نقديًّا في صورة قروض. هذا الدور الذي يمكن القول بأن الصين التي تعد أفضل أصدقاء الأسواق الناشئة هي التي يمكن أن تقوم به، إذ تتطلع معظم اقتصادات الأسواق الناشئة التي تمر بأزمات مالية، من الأرجنتين وفنزويلا إلى تركيا وباكستان صوب الصين لتلقي دعم أقل إرهاقًا من خطط الإنقاذ لدى صندوق النقد الدولي.
فعلى سبيل المثال وعلى مدى العقد الماضي، قدمت الصين نحو 62 مليار دولار في صورة قروض إلى فنزويلا، في حين وقعت مقايضات العملات مع 32 جهة مناظرة منذ عام 2009. وحتى الآن استفادت من هذه المقايضات كل من باكستان والأرجنتين وتركيا وكذلك الجزائر، وساعدت هذه المقايضات على زيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي لدى الشركاء المتعثرين.
فبالنسبة لتركيا، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان مؤخرًا إن بلاده تعتزم إصدار سندات مقومة باليوان للمرة الأولى، وذلك لتنويع مصادر التمويل، وكذلك لمزيد من التعاون الاقتصادي بين دول الأسواق الناشئة، معتبرًا الصين أهم البدائل الحقيقية أمام بلاده، خاصة في ظل الحرب التجارية الدائرة حاليًا بين الصين وأمريكا.
وكان وزير المالية التركي، براءت ألبيرق، أعلن بنهاية يوليو (تموز) الماضي، أن بلاده حصلت على حزمة قروض من مؤسسات مالية صينية، بقيمة 3.6 مليارات دولار، وذلك لصالح القطاع الخاص والمؤسسات العامة والبنوك، للاستثمار في مجالي الطاقة والمواصلات، وهو ما يعد تحوّلا كبيرًا في العلاقات التركية الصينية.
وفي باكستان، قال رئيس الوزراء الجديد عمر خان، مؤخرًا إن باكستان لا تستبعد طلب المساعدة من «دول صديقة» -وهو مصطلح يقصد به عادة الحلفاء التاريخيين الصين والسعودية- وذلك لتفادي اللجوء إلى صندوق النقد، وهو ما يوضح دور الصين البارز في أن تكون بديلًا جاهزًا لهذه الدول عن الصندوق الذي ينهك الاقتصادات الناشئة بطلباته.