بعد مغادرة الأمير عبد القادر الجزائري إلى دمشق سنة 1956 إثر انتهاء حربه مع الاستعمار الفرنسي، تواصلت المقاومات الشعبية المسلحة ضد الاحتلال حتى نهاية القرن. ومع بداية القرن العشرين أحكم الاحتلال الفرنسي سيطرته على أغلب مساحة الجزائر، وانحسرت المقاومة المسلّحة بشكل كبير.
ومن دمشق، التي تبعد عن الجزائر آلاف الكيلومترات، سينطلق مناضل جديد، هو حفيد الأمير عبد القادر؛ ليُعيد إحياء المعركة مع الاحتلال الفرنسي التي بدأها جدّه قبل سنوات، لكن النضال هذه المرة سيكون بلغة السياسة والدبلوماسية، والعرائض والبيانات بدلًا عن البندقية.
إنه الأمير خالد بن الهاشمي بن عبد القادر، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وصاحب الدور الاستثنائي في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية.
«التجنيد مقابل الحقوق»
شهدت حركات الاستقلال والتحرر شخصيات أيقونية تتكثّف في شخصها معاني الوطنية والنضال ومجابهة الاحتلال، إذ لا يمكن للقارئ تصوّر الحركة الوطنية المصرية دون أن يقفز إلى ذهنه صورة سعد زغلول ومصطفى كامل، أو المهاتما غاندي في الهند أو محمد عبد الكريم الخطابي في المغرب.
وبالنسبة للجزائر فإن هنالك العديد من الرموز التي قادت الحركة الوطنية، ونالت حظّها من الاحتفاء والدراسة، من بينها قادة الثورة الستّة، أو مصالي الحاج، والأمير عبد القادر الجزائري. ولكن شخصيّة الأمير خالد أقلّ حضورًا عند الحديث عن الحركة الوطنية، بالرغم من أنّها مثّلت الانطلاقة الحقيقية للحركة الوطنية، وبداية الوعي التاريخي للجزائريين بتفرّدهم واستقلالهم عن فرنسا الاستعمارية.
الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري
وقد تتلمذ على يده مصالي الحاج الذي سيقود حزبه «حزب الشعب الجزائري» في الثلاثينات والأربعينات النضال من أجل الاستقلال الشامل، وانتهاء بحرب التحرير في الخمسينات.
ولد الأمير خالد في دمشق محل منفى جده الأمير عبد القادر سنة 1875، ودرس هناك المرحلة الابتدائية، وبعد عودة والده إلى الجزائر سنة 1892 رجع معه ودرس المرحلة الثانوية هناك ثم دخل سنة 1893 المدرسة العسكرية بباريس «سان سير»، ليتخرج منها برتبة نقيب. عمل الأمير خالد في شبابه في الجيش الفرنسي، وشارك في الحرب العالمية الأولى تحت لواء فرنسا وترقّى إلى رتبة ضابط، وهو الأمر النادر بالنسبة لجزائري، ولذلك سطع نجمه واشتهر في الأوساط الفرنسية والجزائرية.
وقد كانت مشاركة الجزائريين في الحرب العالمية الأولى مرهونة بوعود فرنسية بإحداث إصلاحات وإعطاء حقوق أوسع لهم، لكن الحكومة الفرنسية وبعد انتهاء الحرب، ارتدّت عن تلك الوعود وربطت حق المساواة والحق في الجنسية الفرنسية بالتخلي عن قوانين الشريعة الإسلامية، وهو ما شهد رفضًا قاطعًا من طرف الجزائريين.
شكلت الحرب العالمية الأولى محطة تاريخية مهمّة في الكفاح نحو الاستقلال؛ إذ شرعت الشعوب المضطهدة بالمطالبة بالمزيد من الحقوق، وبدأت الأفكار الوطنية والاستقلالية تتبلور شيئًا فشيئًا، ولو لم تكن في صيغتها النهائية المطالبة بالاستقلال التام.
بدأ الأمير خالد بالنشاط السياسي والدفاع عن حقوق الجزائريين، ورأى في الحرب مناسبة مهمّة للدفع بمشروع الإصلاح والحقوق، إذ كان يرى أن الجزائريين، وبفضل التضحيات الكبرى التي قدّموها لفرنسا من خلال قتالهم تحت لوائها، قد استحقوا الحصول على حقوقهم وإلغاء القوانين الاستثنائية ورفع الظلم الاستعماري عنهم.
وطالب بقانون عام واحد يحكم الجميع فرنسيين وجزائريين، في الوقت الذي كانت فرنسا تعتبر الجزائريين «أهالي»، لا يملكون الحق في الجنسية وما يصاحبها من خدمات تعليمية وصحية وغيرها، ناهيك عن الحقوق السياسية، كالانتخاب والترشّح.
الأمير خالد يراسل رئيس أمريكا
في كتاب «الكفاح القومي والسياسي: من خلال مذكرات معاصر»، للمناضل الجزائري عبدالرحمن بن إبراهيم بن العقون، يذكر أن الأمير خالد أسس حركة سياسية تُعرف باسم «الأخوّة الجزائرية»، ورفع جملة من المطالب السياسية على شكل عرائض ورسائل للرؤساء والمسؤولين الفرنسيين، وقد مثّلت هذه المطالبات بالنسبة للفرنسيين صدمة كبيرة نظرًا للسقف الذي رفعه الأمير خالد.
إذ طالب بإلغاء القوانين الاستثنائية والسماح للجزائريين بالتمثيل البرلماني، وتسيير شؤون الدولة، حتى ولو كان كل ذلك في إطار الوطن الفرنسي، إلا أن هذا اعتبر نقلة في التفكير السياسي للجزائريين، الذين كانت أغلبيتهم الساحقة ترزح تحت ظل النظام الاستعماري وحكمه العسكري، وما يصاحبه من فقر وبؤس.
جنود فرنسيون في حرب تحرير الجزائر
كانت الفكرة التي آمن بها الأمير خالد، أو على الأقل حاول أن ينشط في إطارها، هي محاولة التأثير على القيادة الفرنسية الموجودة في فرنسا «الميتروبول»، إذ كان يرى أن سبب بؤس الجزائريين وحرمانهم المسؤولون الفرنسيون الاستعماريون الموجودون في الجزائر، بينما يخفى الوضع الحقيقي للجزائريين عن القيادة الفرنسية الموجودة في باريس، وعن الرأي العام الفرنسي. ولذلك حاول من خلال نشاطه في باريس نقل الصورة الحقيقية للجزائر والضغط على الحكومة لانتزاع إصلاحات.
أسّس الأمير خالد عدّة جرائد تطالب بالإصلاحات، وأقام العديد من الندوات واللقاءات في هذا الإطار، وراسل المسؤولين والزعماء الفرنسيين من أجل رفع مطالب الجزائريين إليهم، ويذكر العقون حادثة اقتحام الأمير خالد لحفل أقيم على شرف الرئيس الفرنسي ألكسندر ميلران، عند زيارته الجزائر، وهناك وقف أمام الرئيس الفرنسي وخطب فيه مطالبًا بالإصلاح.
قد ينظر للأمير خالد على أنه يحاول إصلاح الاحتلال ويقبل به، فهو لم يطالب بالاستقلال التام أو إنهاء الاستعمار، وكثير من أدبيات حركته السياسية ورسائلها كانت تمجّد فرنسا وتعتبرها الوطن، وتتغنى بقيم الثورة الفرنسية. إلا أن هذه المطالب في تلك المرحلة المبكرة من النضال الوطني، وفي ظل غياب أي مفهوم للدولة، أو الكيان الجزائري عند الأغلبية الساحقة من الجزائريين الذين يعانون الجهل والفقر الشديد، أحدثت نقلة نوعية في الوعي الجماعي الجزائري، وهو ما يتفق معه مؤرخون جزائريون، مثل: أبي القاسم سعد الله، ومحفوظ قدّاش، وآخرين فرنسيين مثل شارل روبير آجرون.
فلأول مرّة منذ دخول الاستعمار الفرنسي الجزائر سنة 1830، وانتهاء المقاومات الشعبية، تبرز شخصية وطنيّة جزائرية ذات كاريزما طاغية يتطلّع إليها الجزائريون وتحظى بشعبية كبيرة لديهم، تجابه الفرنسيين دون عقدة نقص وتطالب بحقوقهم وتحاور مسؤولين على أعلى مستوى، وتستخدم في خطاباتها ورسائلها مصطلحات وأفكار معاصرة وحديثة مثل «إعلان حقوق الإنسان»، وتلتقي الرئيس الفرنسي، وتراسل قادة العالم.
لاحقًا بعث الأمير خالد إلى الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، برسالة يعرض فيها جملة من مطالب الجزائريين، وأثارت ضجة كبيرة وغضبًا لاذعًا في الأوساط الفرنسية، إذ كانت أول مرة يتجاوز الجزائريون فيها السقف الفرنسي ويتّجهون بقضيتهم إلى العالم.
نقلة نوعية في الوعي الجزائري
حاول الأمير خالد تجاوز فرنسا الاستعمارية ومخاطبة فرنسا التي ترفع قيم ثورة 1789، لذلك كثيرًا ما كان يمتدح هذه القيم ويدافع عنها ويتبناها، ويوضّح كيف أن الاستعمار يمثّل كل ما قامت الثورة الفرنسية ضدّه من ظلم وقهر وحرمان.
وركّز الأمير خالد على مطالب إصلاحية محدّدة، من بينها إشراك الجزائريين في البرلمان، ورفع القوانين الاستثنائية، وتوزيع الأراضي عليهم بدلًا عن المستوطنين الأوروبيين، ونشر التعليم، وإقامة الطرق والسكك الحديدية لتصل إلى قرى الجزائريين، واختيار «القيّاد»، أو القادة المحليين للأهالي بالانتخاب.
مصالي الحاج، تلميذ الأمير خالد، أحد أبرز وجوه الحركة الوطنية الجزائرية
بالطبع لا تبدو هذه المطالب جذرية مقارنة بالمطالب الجزائرية في حرب التحرير، ولكنها جاءت في مرحلة ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية وما فيها من فوران سياسي. وتعرّض بسببها الأمير خالد للهجوم الشديد من المستوطنين، وانبرت الصحف الفرنسية لتشويهه واتهامه بالتمرّد والروح الانفصالية، وأحيل للتقاعد؛ ما يعني عمليًا طرده من الجيش، ثم طُرد من الجزائر عام 1924 لينتهي به الحال في دمشق، ولد فيها ومات فيها.
المؤرخ الجزائري نور الدين ثنيو، يرى في كتابه «إشكالية الدولة عند الحركة الوطنية الجزائرية»، أن أهمية التجربة السياسية للأمير خالد لا تنحصر في مجرد الدفاع عن الجزائريين ضد الآلة الاستعمارية القمعية التي لا ترحم، ولا في مجرّد كونه البداية الحقيقية للحركة الوطنية في صورتها الحديثة، والتي تمخّض عنها حزب الشعب بقيادة مصالي الحاج، الذي قاد تلامذته حرب التحرير الوطنية التي انتهت باستقلال الجزائر.
ولكن تكمن أهمية الأمير خالد في كونه أحدث نقلة نوعية في طرق النضال السياسي عند الجزائريين. فتأثره بالأفكار الأوروبية الحديثة ومصطلحاتها، بعد نشاطه المستمر في باريس، صبغ لغة النضال في الحركة الوطنية بأفكار حديثة وجديدة، عن الدولة الجزائرية والمؤسسات والمواطنة بحقوق وواجبات بدلًا عن فكرة «الرعايا» أو «الأهالي» التي استغلتها سلطات الاستعمار لانتزاع حقوق الجزائريين.