وطأت قدما الفنان التشكيلي الفرنسي، إيتيان دينيه، في عام 1884 أرض واحة صغيرة تقع على مشارف الصحراء الجزائرية وتُدعى بوسعادة؛ الرحلة الاستكشافية التي جاءت بمحض الصدفة، ضمن بعثة علمية للبحث عن حشرة نادرة تسكن الصحراء، كانت سببًا في قلب مسار إيتيان دينيه الفرنسي رأسًا على عقب وتغيير حياته إلى الأبد. الرسام الذي ينحدر من أسرة برجوازية، والمتخرِّج في أرقى المدارس الفنية الفرنسية، «أكاديمية جوليان»، سيجد نفسه مسحورًا بواحة صحراوية صغيرة تقع في الجنوب الجزائري؛ ليكرِّس مساره الفني كاملًا لنقل مشاهدها وتضاريسها وعادات أهلها، وينتهي به المطاف معتنقًا الإسلام، ومُقيمًا بين أهل بوسعادة حتى دُفن هناك.

مدينة بوسعادة الساحرة هي واحة تقع على بعد 250 كم جنوب الجزائر، وتعدُّ مدخلًا للصحراء الكبرى، كما أن بها طبيعة فريدة وخلَّابة، ومناظر الجبال ذات التكوين الجيولوجي الفريد يجعلها مزارًا للسيَّاح الأجانب، وكان يسكنها العرب والأمازيغ وبعض اليهود والأوروبيين، وأصبحت في القرن العشرين مقصدًا للمخرجين السينمائيين الأجانب لتسجيل أفلامهم بسبب طبيعتها الفريدة، ولذلك لقَّبها البعض بـ«هوليوود الجزائر»، كما تملك الواحة سحرًا خاصًّا بسبب أصالة بناياتها، وعادات وتقاليد أهلها، وتنظيمها الاجتماعي التقليدي؛ الأمر الذي أثار فضول المستكشفين الأوروبيين. 

من شوارع باريس الراقية.. إيتيان دينيه يختار «بوسعادة» الجزائرية

على غرار العديد من الفنانين والكتَّاب والمفكرين الغربيين الاستشراقيين، الذين زاروا «الشرق» للتعرُّف إلى ثقافات شعوبه وحياتهم الاجتماعية، بعيدًا عن حداثة أوروبا وصخبها في تلك الحقبة، غيَّرت هذه الرحلة حياة الفنان الفرنسي الذي ترعرع في شوارع باريس الراقية، فقد أُعجب الفنان بمدينة بوسعادة وبعادات الصحراء أيما إعجاب، تلك المدينة التي كان سكَّانها من العرب والبربر واليهود يعيشون حياة تقليدية بسيطة بعيدًا عن ضجيج الحداثة الباريسية ومشاغلها. هذه الزيارة التي كان من المخطط لها أن تكون قصيرة، بحكم أنها جاءت في إطار منحة دراسية، امتدَّت أكثر مما كان يتوقَّع إيتيان دينيه؛ لدرجة أنَّه سيقرِّر إمضاء ما تبقَّى من حياته فيها، كما أوصى بأن يُدفن في تراب هذه المدينة الصغيرة التي عشقها، وكرَّس الجزء الأكبر من أعماله الفنية لتصوير مشاهدها ووجوه سكَّانها وعاداتهم.

من الصعب أن تُخطئ العين لوحات ناصر الدين دينيه، لما تتمتَّع به من أصالة وحسٍّ فني فريد؛ ولذلك سيلاحظ المُتابع بسهولة أن قصر الرئاسة الجزائرية، ومكتب الرئيس، وغيرها من المقرَّات الحكومية تتزيَّن بأشهر لوحات «دينيه»؛ إذ نجد في قصر رئيس الجمهورية لوحته الشهيرة «صلاة في المسجد» بالإضافة إلى لوحة «المرأة المتروكة»، وغيرها من اللوحات، فقد أصبح اسم إيتيان دينيه رمزًا للفن التشكيلي الذي نقل مشاهد من حياة السكان الجزائريين أثناء القرن التاسع عشر، وربما قد تجاوز اسمه بسبب اندماجه المطلق في المجتمع الجزائري وعدِّ نفسه جزءًا منه، أسماء جزائريَّة وصلت للعالمية جاءت بعده، مثل الفنَّانة باية، ومحمد راسم، ومحمد إيسياخم، وغيرهم.

لوحة لإيتيان دينيه في مكتب رئيس الجمهورية

ويتضح في لوحات دينيه الفنيَّة تأثره العميق بروح الإسلام وتعاليمه، على عكس الأعمال الفنية الاستشراقية التي يغلب عليها الطابع الرومانسي الذي يرى الشرقي بصورة منمَّطة تغلب عليها الخرافة والمبالغة والأفكار المسبقة؛ إذ إن لوحات دينيه تنقل حياة السكَّان البسطاء في أدقِّ جوانبها وأكثر تفاصيلها الوجدانية؛ فنجد لوحات عديدة تجسِّد التعاليم الإسلامية، مثل صلاة الجماعة، ومراقبة هلال العيد من سطوح المنازل، والدعاء الجماعي، بالإضافة إلى القافلة التي تستعد للذهاب في رحلة الحجِّ، كما كان للمرأة حضور كبير في لوحاته وبصورة توضِّح أن هذا الفنَّان قد خبر المجتمع الجزائري البوسعادي التقليدي، وغاص في أعماقه، ولم يكتفِ بمجرد الصور النمطية، فقد صوَّر المرأة الوحيدة التي تركها زوجها مع ولدها في لوحته «المرأة المتروكة» (la femme abandonnée)، كما صوَّر النساء في أشغالهن اليومية، إضافة للوحته الشهيرة بـ«المشعوذة»، بالإضافة إلى تركيزه على طبيعة واحة بوسعادة الساحرة، ولون التربة الملونة التي تتَّسم بها.

تاريخ

منذ 3 سنوات
بريشة فرنسية.. لوحات فنيّة خلّدت المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال

 أيضًا، استخدم دينيه ريشته لإيصال معاناة الشعب في ظل الاستعمار، كما حاول نقل حالة الظلم والفقر والعوز التي كان يعيشها أغلب الجزائريين، ويتجلَّى ذلك في لوحات «العمياء»، و«الأهالي المحتقرون»، و«عهود الفقر» وغيرها. لكن دينيه ظلَّ استشراقيًّا نمطيًّا بالنسبة لبعض النقَّاد، وإن حاول الهروب من عباءة تلك المدرسة الفنية التي كانت سائدة في عصره، وما اتسمت به من مداعبة خيالات الأوروبيين حول الشرق.

لوحة «العربي ذو القبعة الكبيرة»

فعلى الرغم من سبره لأغوار المجتمع البوسعادي المحلِّي، والتماهي معه، ودخوله الإسلام، وعيشه وسط أهله؛ فإن بعض النقَّاد يعيبون عليه أنَّه ساهم بطريقة غير مباشرة في إرسال صورة مغلوطة عن واقع السكان الجزائريين في الحقبة الاستعمارية، كما يرى الكاتب سعيد خطيبي في مقالة له على صحيفة «الوطن» الفرانكفونية، فمن خلال تركيزه على مظاهر البهجة والاحتفال والصلاة؛ وتركيزه في فترة ما على مشاهد العري والمومسات وتسلُّله إلى مخادعهن، وعدم إعطاء المساحة نفسها لمشاهد الظلم والقهر في ظل الاستعمار الذي كان يقاسيه الجزائري البسيط، وبالتالي فإن بعض النقاد يرون أنَّ فنه ينتمي إلى المدرسة الاستشراقية، وإن حاول أن يبتعد عن الصورة النمطية، فإنه وقع فيها من حيث لم يشأ، كما اتهمه بعض النقاد بتزيين الاستعمار وتجميله، لكن الآراء حوله تبقى متباينة.

صداقة الجزائري تستمر في الحج والموت!

وعن قصَّته الشهيرة مع صديق عمره سليمان، تنتشر في الأوساط الشعبية لمدينة بوسعادة حكاية هذه الصداقة التي بدأت بشكل غريب، فقد كاد إيتيان دينيه، الشاب القادم من أجواء أوروبا المنفتحة يفقد حياته في بوسعادة، عندما حاول التجسس على نساء المدينة أثناء استحمامهن في الوادي قصد رسمهن، وهو ما تسبب في القبض عليه ومحاولة قتله من طرف السكان الغاضبين، لكن شخصًا يُدعى سليمان بن إبراهيم أنقذه من الموت المحقق، وسيصبح رفيق دربه منذ تلك اللحظة، وسيحجَّان معًا في أواخر عمر ناصر الدين دينيه بعد دخوله الإسلام. توجد تحويرات كثيرة على القصَّة، من بينها أن يهود المدينة هم من اختطفوه، لكن المؤكد أن الصداقة التي بدأت مع سليمان بن إبراهيم استمرت حتَّى الموت، فقد دفنوا في المقبرة ذاتها.

 لوحة «فتيات صغيرات يحملن المياه»

لم يكن الرسم فقط هو الشكل التعبيري الوحيد الذي امتاز به ناصر الدين دينيه؛ إذ كتب عدَّة مؤلفات يحكي فيها قصَّته مع الإسلام ورحلته إلى الحجِّ، فقد ألَّف عن حياة النبي محمد كتابه «حياة محمد نبي الله»، وكتابًا في الاستشراق بعنوان «الشرق كما يراه الغرب»، ورسالة عن رحلته إلى الحج في آخر سنوات عمره بعنوان «رحلة الحج إلى بيت الله الحرام».

تحوَّل البيت الذي عاش فيه ناصر الدين دينيه في وسط مدينة بوسعادة إلى متحف يضمُّ أعماله الفنيَّة، ومزارًا للمهتمين بهذا الشخص الفريد الذي ترك حياة البذخ والرفاهية في مسقط رأسه بباريس من أجل حياة أكثر بساطة في مدينة صغيرة تقع في الجنوب الجزائري؛ ويضمُّ المتحف أيضًا بعض كتاباته ورسائله، وبعض أغراضه الشخصية.

 منظر مكة – لوحة لناصر الدين دينيه

في آخر سنوات حياة دينيه، وبالتحديد في سنة 1929، سافر إلى الحج رفقة رفيق دربه سليمان بن إبراهيم، وهنالك وجد بعض الصعوبات في الوصول إلى الحجاز بحكم جنسيته الأوروبية، إلا أن تزكية الشيوخ المسلمين له سهلت المهمة، وبعد رجوع ناصر الدين دينيه من رحلة الحج، والتي وثَّقها في كتابات تحمل عنوان «رحلة الحج إلى بيت الله الحرام»، أصيب بنوبة مرضية وهو مقيم في فرنسا حيث توفي، وأقيمت له صلاة الجنازة في مسجد باريس، لكنه كان قد أوصى بدفنه في مدينة بوسعادة التي أحبها وكرَّس فنَّه لنقل مشاهداته وأحساسيه بها، وهو ما حدث بالفعل؛ إذ نُقل جثمانه إليها ودُفن في مقبرتها في 12 يناير (كانون الثاني) 1930.

المصادر

تحميل المزيد