ترك المسلمون آثارًا مختلفة في البلدان التي مروا بها أو حكموها في العصور الوسطى، تظهر في روح المدينة أو مبانيها أو شوارعها، لكن بعض المدن احتفظت باسم عربي حتى اليوم، وإن لم تحتفظ كلها بالروح العربية، أغلب هذه المدن تقع في إسبانيا، ومنها أبحرت أسماء مثل غرناطة ووادي الحجارة نحو العالم الجديد، فحملت مدن في أمريكا اللاتينية أسماء عربية أيضًا، رغم أن العرب ربما لم يصلوا إليها، وهنا قصص بعض المدن الأوروبية التي تحتفظ حتى اليوم بأسمائها العربية منذ أسسها العرب:
Madrid.. عاصمة أوروبية ببصمات عربية
مدريد هي العاصمة الأوروبية الوحيدة ذات الأصل العربي، فقد بناها الأمويون في منتصف القرن التاسع للدفاع عن الحدود الشمالية للأندلس. وتحديدًا في عام 855م لتحمي طليطلة من هجمات النصارى وكان مؤسسها هو الأمير محمد الأول، وقد بُنيت على سطح جبل وادي الرملة (Guadarrama) شمال طليطلة وشُيدت فيها قلعة منيعة على الضفة اليمني لنهر مانثاناريس الذي يبلغ طولة 92 كيلومترًا.

تصور لمدينة مدريد في القرن التاسع- مصدر الصورة
الاسم العربي لمدينة مدريد في الأصل هو كلمة «مجريط» وتعني الأرض الغنية بالمياه إذ تكثر في مدريد الأنهار الصغيرة التي تخترق المناطق الجبلية فيها، وتستمد المدينة ما يقارب من 50% من المياه العذبة من الأمطار و الثلوج التي تذوب في أعالي الجبال وتنساب حتى تصل إلى نهر مانثاناريس.
في 200 عام الأولى من تاريخها كانت «مجريط» مدينة صغيرة على حافة العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى، تؤدي مهمة دفاعية وإدارية، وكان من أشهر أبنائها أبو القاسم مسلمة المجريطي وهو رياضي وكيميائي وفلكي اشتُهر في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، واعتُبر إمام الرياضيين الأندلسيين في زمانه حتى أنه لُقب بـ«بإقليدس الأندلس».
بعد وقوعها في أيدي القشتاليين عام 1085 بقي في مدريد (مجريط) أقلية مسلمة عاشت طويلًا حتى الطرد النهائي للموريسكيين من إسبانيا في القرن السابع عشر، وكانت طُليطلة هي العاصمة في إسبانيا حتى قام فيليب الثاني باختيار مدريد لتصبح العاصمة في عام 1560م.
أشهر المعالم السياحية في مدريد اليوم هو الساحة الكبرى «بلازا مايور Plaza Mayor de Madrid» ورغم أنها تقع خارج السور العربي القديم للمدينة، فلها أصل عربي أيضًا فقد كانت تسمى «ساحة الربض» وتُباع فيها المواشي والمنتجات الزراعية في عهد المسلمين. ثم أصبحت بعد ذلك مركزًا تجاريًّا بعد أن تم تجديدها عام 1618 في عهد الملك فيليب الثالث على طراز كاثوليكي بدلًا من الساحة العربية القديمة، وتغير اسمها منذ ذلك الحين.
في المقاهي والمطاعم المنتشرة فيها اليوم يلتقي السياح بالسكان المحليين، ويمتلئ الميدان بالرسامين الذي يرسمون لوحات تذكارية للزائرين إلى جانب الفرق الموسيقية والعروض الأخرى، وتُقام فيها اليوم الاحتفالات الرسمية والمهرجانات المتنوعة على مدار العام.
ولا تزال البقايا الأثرية العربية في المدينة قائمة إلى اليوم، وإن لم تبد واضحة لزائريها فقد طمر النسيان الأصل العربي للمدينة من ذاكرة أبنائها أيضًا منذ القِدم، لكن ماضيها يستهوي الدارسين اليوم بحثًا عن تطورها الحضاري والأصول العربية الباقية فيها، وقد قام فريق من الباحثين مؤخرًا بالتنقيب فيما بقي من آثار عربية قديمة، ودعا لإعادة التقدير لمؤسسي المدينة العرب، وإطلاق أسمائهم على شوارعها.
la isla verde.. مسلمو الأندلس مروا من هنا
في بعض الطرق التي تقودك نحو مدينة «la isla verde» في إسبانيا ستجد لافتات توضيحية كُتب عليها اسم المدينة بالعربية «الجزيرة الخضراء» لإرشاد المغاربة الذين يعيشون في إسبانيا.
تقع مدينة الجزيرة الخضراء في أقصى جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية داخل خليج واسع، وكانت أول مدينة أندلسية يؤسسها المسلمون في الأندلس وأصبحت بسبب موقعها المتميز همزة الوصل بين الأندلس والمغرب. وكان أشهر أبنائها الحاجب المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر الذي غيّر تاريخ الأندلس حين خرج منها ووصل إلى قصر الأمويين في قرطبة.

«الجزيرة الخضراء» اليوم – مصدر الصورة
فى عهد بني نصر كانت الجزيرة الخضراء ضمن مملكة غرناطة، ونظرًا لموقعها فقد كانت موضع صراع بين الحكام، فقام بنو نصر بتحصينها، وبناء سلسلة من الأبراج فيها، كما حصّنها بنو مرين حكّام المغرب لكي تتمكن جيوشهم من العبور إلى الأندلس للجهاد ومساندة المسلمين، لكن الجزيرة الخضراء سقطت فى يد القشتاليين سنة 1342م، وفي عام 1760م أعاد الإسبان بناءها بحيث لم يعد هناك أثر إسلامي في المدينة سوى بعض الآثار التي تم حفظها فى «متحف البلدية Municipal Museum».
يقول بعض المؤرخين إن المدينة القائمة حاليًا ليست هي المدينة العربية، وإن المكان الأصلي للمدينة العربية يبعد عنها بضعة مئات من الأمتار، وإن آثارها قد اختفت بعد سقوطها في أيدي القشتاليين، ويحاول فريق من الأثريين اليوم البحث عن القلعة المحصّنة للجزيرة الخضراء واستعادة السور والأبواب التي تشير الوثائق القديمة إلى مواقعها، ليمكن من التعرف إلى ماضي المدينة القديمة وموقعها الأصلي.
Guadalajara.. حين اختلط المسلمون والمسيحيون واليهود
هي مدينة «وادي الحجارة»، تقع على بعد 50 كم شرق العاصمة مدريد وكانت تُسمى أيضًا «وادي القلاع». وتضم المدينة 30 موقعًا أثريًا من الحصون والقلاع والمعابد والقصور والأبراج والجسور وغيرها.
تقع المدينة قرب الجسر العربي القديم الذي بناه العرب على آثار جسر روماني قديم في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث، ويُعتقد أن المدينة أُنشئت بعد بناء مدينة مدريد (مجريط) سنة 873م وكان أحد أبواب سور مدينة مجريط يُسمى باب وادي الحجارة ويقع في الجانب الشرقي من سورها، يُشرف على منطقة خضراء يانعة مليئة بأشجار الزيتون تُفضي إلى وادي الحجارة.

الجسر العربي في جوادالاخارا – مصدر الصورة
ظلت المدينة تحت حكم المسلمين لثلاثة قرون إلى أن سقطت في أيدي القشتاليين عام 1085م، وحاول المسلمون استعادتها عام 1196م فلم يُفلحوا. ولم يبق من الآثار العربية فيها سوى جسر وبقايا سور يحيط بكنيستها العظمى «سانتا ماريا» التي ربما تكون قد شُيدت في موقع الجامع القديم كما يرجّح الدكتور محمد عبد الله عنان في كتابه «الآثار الأندلسية الباقية في اسبانيا والبرتغال».
مع ذلك يهتم أهل المدينة بإبراز الأثر العربي فيها بوضع برامج سياحية تتبّع الأثر الإسلامي في بناء الكنائس في مدينة وادي الحجارة وفي شوارعها التي اختلط فيها المسلمون والمسيحيون واليهود.
منطقة جبل طارق
من شاطئ منطقة سبتة في أفريقيا يمكن للناظر رؤية صخرة جبل طارق مثل الغمام تعترض زرقة البحر المتوسط الممتد حتى الجزيرة الخضراء في إسبانيا، كانت أول بقعة إذن يراها المسلمون الزاحفون نحو الأرض الأوروبية.
بعد أن عبر المسلمون إلى شبه الجزيرة وأُطلق اسم طارق بن زياد على الجبل، تحوّلت إلى قاعدة عسكرية منذ ذلك الحين إلى أن عبر من خلاله عبد المؤمن بن علي أعظم خلفاء الموحدين عام 1160م وأمر الخليفة ولديه أبي سعيد والي غرناطة وأبي يعقوب والي إشبيلية ببناء مدينة كبرى بجبل طارق.

مدينة جبل طارق- مصدر الصورة
استمر العمل لشهور وتم بناء المدينة في العام نفسه وضمّت جامعًا وقصرًا للخليفة ودُورًا لأبنائه وحاشيته وحدائق بمحاذاة البحر، وتم تجديد الحصن والسور القديم، واجتمع الناس ليشهدوا موكب الخليفة الذي جاء يزورها.
منذ ذلك الحين صارت المدينة همزة وصل بين المغرب والأندلس تنقل التحصينات والعتاد ونصر الأندلس كلما داهمها الخطر، إلى أن استولى عليها القشتاليون عام 1310م لأول مرة، وفي عام 1333م نجح الأندلسيون بمعاونة السلطان أبي الحسن المريني ملك المغرب في استعادتها، وتم تجديدها وبقيت في أيدي المسلمين قرنًا ونصف آخر، حتى جاء سقوطها الثاني في يد القشتاليين عام 1462م ضربة قوية للمسلمين ونذيرًا بقرب سقوط غرناطة.
لكن صراعًا آخر دار في المدينة؛ بين الإسبان والإنجليز بعد حوالي قرنين، إذ استولت عليها القوات الإنجليزية والهولندية عام 1704م وضمّتها إنجلترا إلى أملاك التاج، ورغم المحاولات الإسبانية لاستعادتها فلا تزال إلى اليوم تحت الحكم البريطاني.
وقد بقي من الآثار الأندلسية فيها بقايا الحصن القديم والذي يعود لعصر الموحدين، والحمامات العربية ذات الطراز الغرناطي، وهي قريبة من متحف جبل طارق الذي يضم بين محتوياته مومياوين مصريتين قِيل إنهما سقطتا من إحدى السفن التي كانت قادمة من مصر إلى انجلترا.
Tarifa.. أول أرض إسبانية تطؤها أقدام المسلمين
كانت جزيرة طريف هي أول أرض إسبانية تطؤها أقدام المسلمين القادمين في حملة صغيرة أطلقها موسى بن نصير من سبتة بقيادة طريف بن مالك أحد القادة البربر، وهي تقع غرب الجزيرة الخضراء، وظلت تحتفظ مثلها بأهمية بحرية خاصة وكانت همزة وصل أخرى بين المغرب والأندلس، ومركزًا لنزول الجيوش المغربية التي تعبر إلى الأندلس، إلى أن سقطت في أيدي المسيحيين عام 1292م في عهد الملك سانشو ولم ينجح العرب في استعادتها مرة أخرى منذ ذلك الحين.
في عام 1704 وبعد أن استولت بريطانيا على منطقة جبل طارق، اكتسبت طريف أهمية إستراتيجية كبيرة حين نجح سكانها في صد هجمات الفرنسيين وساعدتهم أمطار غزيرة تجمعت في مجرى مائي بجوار منطقة الهجوم فاضطر الفرنسيون إلى مغادرة المدينة.

مدينة طريف-مصدر الصورة
يُرجح أن المدينة القائمة اليوم قد بُنيت على أطلال مدينة طريف القديمة، ومن الآثار العربية الباقية فيها حصن طريف الواقع على البحر وبضعة أجزاء من الأسوار الأندلسية، وباب أندلسي قديم ودروب ضيقة، وهي قبلة للسائحين بسبب طبيعتها النقية إذ يحيطها البحر من ثلاثة جوانب ويحدّها الجبل من الجانب الرابع.
mdina.. تراث عربي يغلفه الصمت
مدينة هي أكثر مدن مالطا جمالا، وقد أطلق عليها هذا الاسم العرب القادمون إليها، ليفرّقوا بينها وبين مدينة الرباط، الواقعة في مالطا أيضًا غير بعيد عنها، وبين ما تحتفظ به مالطا من آثار عريقة للفينيقيين والإغريق والرومان والعثمانيين والبريطانيين الذين مروا بها، تحتفظ مدينة بروح عربية تظهر في أزقتها الشبيهة بشوراع حي البيازين في الأندلس وشوارع المدن العربية القديمة الأخرى.
كانت مدينة هي العاصمة القديمة لمالطا وقد أسسها المستكشفون الفينيقيون في قلب الجزيرة على تلة مرتفعة وبعيدة عن البحر لتحميها من الغزوات. ازدهرت مدينة في عهدهم وكانت تُعرف في العصور القديمة باسم «Citta Vecchia»، وورثت اسمها العربي حين حكمها الفاطميون، وظلت عاصمة الجزيرة حتى عام 1570م حين تم نقل العاصمة إلى فاليتا.

شوارع مدينة في مالطا – مصدر الصورة
مع تحول العاصمة بقيت «مدينة» مدينة هادئة يغلّفها الصمت، معزولة على تلها المحاط بجدار يتعذر الوصول إليه. واليوم بعد حوالي 500 عام لا يزال لقبها «المدينة الصامتة» إذ ما إن تغرب الشمس حتى يلفّها السكون ويسمع المتجول فيها وقع خطواته في ممراتها الضيقة.
يتكلم أهل مدينة اليوم لغة غريبة تجمع بين العربية والإيطالية، مثلما تجمع المدينة آثارًا فينيقية ورومانية وعربية وبريطانية، وقد تم تصوير المسلسل الشهير «جيم أوف ثرونز» في قلب مدينة مؤخرًا.