كانت حياة يوليوس قيصر ملحمية، بقدر ما كان مقتله مأساويًا. كان سفك الدماء والمؤامرات في عصره متلازمين مع السلطة، غير أنه ما كان ليتخيل أن تكون نهايته على يد أقرب أصدقائه وهو في أوج قوته، وقمة نفوذه. أو أن يتحول مشهد سقوطه مضرجًا بالدماء؛ إلى أسطورة سطرها شكسبير في مسرحية خالدة تحمل اسمه، ولندع الكاتب المسرحي الأشهر يكمل من هنا، فعندما يتحدث شكسبير، تتضاءل كلمات الجميع:
«قيصر: كنت ألين لو كنت على شاكلتكم، ولو كنت أتوسل إلى أحد بالرجاء، لكان للتوسل سلطان علي إذا ما وجه إلي، ولكني ثابت كالنجمة القطبية التي لا تضارعها أخرى من الملأ إلا على ثباتها وعدم تحولها. إن السماوات مرصعة بشرر لا عدد له، كله كالنار، وكل واحدة منها تلمع وتسطع، ولكن من بينه واحدة لا تحول ولا تحور، وكذلك الأرضون كلها آهلة عامرة بالناس، وكل الناس دم ولحم وروح، ولكن من بينهم لا أعرف غير واحد لا يتزعزع من مقامه، ذلك أنا. فلأثبتن لكم بالحادث الصغير الذي نحن فيه أنني ثابت راسخ.
سنا: رحماك يا مولاي
قيصر: عني أو تزحزح الجبل
ديشاس: مولاي
قيصر: أولم يركع بروتاس عبثًا؟
كاسكا: فلتكلمك يداي إذًا
يطعنه كاسكا أولا ثم باقي العصبة وآخرهم بروتاس
تلتمع عينا قيصر بالدهشة، يزحف الموت إلى قلب الجنرال ببطء، لا تسعفه حنكته وخبرته في القيادة والحرب هذه المرة، هزم جميع الأعداء، لكن الموت لا هازم له، تتصاعد الكلمات إلى شفتيه، يلفظها في ثبات، يسطرها التاريخ من بعده: حتى أنت يا بروتاس! إذًا فليسقط قيصر».
وسقط قيصر، لكن التاريخ لم يُسقطه أبدًا من بين طياته وصفحاته.
روما.. حيث ولد سليل فينوس وحفيد أمراء طروادة
فى عام 100 قبل الميلاد، شهدت روما حدثًا سيغير من مصيرها إلى الأبد، إذ تصاعدت الصرخات الأولى من جايوس يوليوس قيصر، الذي وُلد لعائلة تنتمى بأصولها إلى «الباتريشيين» أو الأرستقراطيين الأوائل بروما، ولها باع طويل فى السياسة. كان والده حاكمًا لآسيا، واكتسب خلال فترة حكمه نجاحًا سياسيًا متوسطًا.
أما والدته فقد كانت من عائلة ذات جذور نبيلة. وبالتالى كان مجرد انتمائه لأسرة بهذا الثقل السياسي يجعله قريبًا من مركز الحكم وصناعة القرار، ويؤهله تلقائيًا للعديد من المناصب السياسية. وكما جرت العادة لهذه الحقبة من تاريخ روما، تلقى قيصر التعليم الروماني الكلاسيكي في كل من روما ورودس، إلا أنه أبدى ذكاءً ملحوظًا، لدرجة وصف الفيلسوف الروماني سيسيرو له بأنه «أحد أكثر الرومانيين ثقافة وأعلاهم تعليمًا».
يوليوس قيصر
على الرغم من ذلك، لم يكن طريق قيصر مفروشًا بالورود، فمع الموت المفاجئ لوالده وهو في السادسة عشر من عمره، صار قيصر المسؤول الأول عن العائلة، فكان قراره أن يصبح راهبًا، هو السبيل الأمثل لعائلته. لم تكن الرهبانية فى روما القديمة مجرد منصب ديني، بل كانت تحمل فى طياتها أبعادًا سياسية. ومع ذلك لم يكن الأصل الأرستقراطي النبيل لقيصر كافيًا ليخوض غمار السياسة، فقرر دعم موقفه بالزواج من كورنيلا ابنة السياسي الروماني رفيع المستوى لوشيوس سينا، إلا أنه لم يكن يدري أن زواجه وعائلته سيضعانه أمام خيار صعب ويدفعانه دفعًا لخوض صراعه السياسي الأول.
ثم قامت ثورة.. يوليوس قيصر عدوًا للإمبراطور!
في عام 85 قبل الميلاد، استغل النبلاء المعارضون لنهج القيادة السياسية أحوال البلاد المتردية وغياب الإمبراطور لوشيوس سولا، لإشعال ثورة فى أرجاء روما، اضطر سولا على إثرها للعودة إلى إيطاليا، وقاد قواته ضد الثورة ونجح فى إجهاضها. لم يكن قائد هذه الثورة سوى أحد أعمام قيصر، القائد الشهير هايوس ماريوس، في حين كان والد زوجته أحد كبار مؤيديه.
وفور القضاء على الثورة شن سولا حملة تطهير لأعدائه السياسيين، وحتى المحتملين منهم، وبالطبع كان اسم قيصر على رأس القائمة، فأمره بتطليق زوجته، وهو ما قابله قيصر بالرفض. وبالطبع كان عصيان أمر إمبراطوري مباشر معناه أن يفقد قيصر كافة امتيازاته وممتلكاته، وربما حياته نفسها.
كان قيصر على درجة من الذكاء الكافي لإدراك أن سولا جاد في تهديده ووعيده، وهنا امتثل لنصيحة المقربين منه بمغادرة روما، هربًا من بطش سولا. ورغم تدخل عائلة والدته للوساطة لدى الإمبراطور لتأمين حياته، والتي استجاب لها الأخير، إلا أن قيصر كان قد تجرد من منصبه، وصودرت أمواله، ليجد نفسه عاجزًا عن إعالة نفسه وأسرته فيضطر للالتحاق بالجيش.
ليبدأ مسيرة عسكرية ناجحة، أبدى فيها شجاعة فائقة في الحملات التي شارك فيها، بآسيا وجزيرة «سيشل» وتلقى وسام «التاج المدني» لإنقاذه أحد المدنيين فى إحدى المعارك. مرت الأعوام وكان للموت كلمته الثابته دائمًا والتي لا ينازعه فيها أحد فمات سولا ومع موته عاد قيصر إلى روما مجددًا ليتغير مصيره ومصير روما بأسرها.
ما كان يميز روما في ذلك الوقت هو مدى التقدم الكبير الذي وصلت إليه من ناحية التنظيم والإدارة، فلقد كان لديها نظام قضائي مشابه إلى حد كبير الأنظمة القضائية الحالية، وكان هذا النظام طريق قيصر إلى المجد. فور عودته إلى روما عمل قيصر في وظيفة توازي المحامي في العصر الحديث، ليحالفه النجاح مرة أخرى ويذيع صيته مُحدِثًا وخطيبًا مُفوهًا.
ثم تولى منصب المدعي العام، لتكون قضيته الأولى ضد جينوس دولابلا واحد ممن شاركوا في قمع الثورة وأحد أكبر مناصري الإمبراطور الراحل سولا. فأقام محكمة مؤلفة من أعضاء مجلس الشيوخ ورغم أن المحامى الخاص بالرجل كان أحد أبرز المحامين وقتها، إلا أن المحكمة تبرأت من أفعاله، وانتزعت منه ألقابه وصلاحياته كافة، ليسجل قيصر انتصاره ويخطو أولى خطواته الفعلية في عالم السياسة.
إلى رودس.. مغامرة من نوع آخر!
تسير الأيام مسرعة إلى الأمام، وقيصر يحصد النجاحات واحدة تلو الأخرى، وفي عام 75 قبل الميلاد، يقرر قيصر أن يأخذ بحياته ونجاحاته إلى مستوى آخر فيقرر الإبحار إلى اليونان أو رودس تحديدًا لدراسة الفلسفة، دون أن يدري أنه على موعد مع مغامرة فريدة من نوعها.
اعترض القراصنة السفينة التي كانت تقلهم واحتجزوه مطالبين بفدية مقابل تسليمه. والطريف أن قيصر استخدم مهاراته في الإقناع ليجعلهم يرفعون الفدية إلى 50 بدلًا من 20 ألف قطعة ذهبية. ومع ذلك استغل كل مناسبة ليخبر خاطفيه بأنه سيطاردهم إثر إطلاق سراحه، ليعاقبهم بالصلب، وهو ما كان يثير موجة من الضحك بينهم معتقدين أنه يمزح لكن الرجل لم يكن يقول سوى ما كان ينوي فعله حقًا.
استطاع قيصر الخروج من قبضتهم بعد إقناعهم بالفدية الموعودة وفور أن تنسم الحرية، حوّل قيصر تهديده إلى واقع، فشن حملة بحرية بمجهود فردي على نفقته الخاصة للإيقاع بهم، والتقى قيصر من كانوا بالأمس خاطفيه، ثم أمر بالقبض عليهم ونظر إلى أعينهم، «ألم أحذركم من خطورة العبث معي؟». لم تجدِ محاولات القراصنة طلب العفو منه شيئًا ولكنه أراد الإمعان في السخرية منهم، فأمر بذبحهم قبل صلبهم، نوع من الرحمة إزاء معاملتهم الجيدة له خلال فترة اختطافه. لتصبح قوة الإرادة وتنفيذ الوعود صفة ملازمة له حتى مقتله.
مع عودة قيصر إلى روما، وقع الاختيار عليه ليكون محاميًا للجيش، ليبذل قصارى جهده لإسقاط دستور الإمبراطور السابق سولا بالتعاون مع جينيوس بومبيوس أو بومباي الأكبر كما سُيعرف فيما بعد، والذي كان عريفًا بجيش الإمبراطور الراحل، إلا أنه غير موقفه بعد وفاته.
في عام 69 ق.م، يتم انتخاب قيصر موظفًا ماليًا، للوظيفة التي تعد البداية على السلم السياسي الروماني. وفي العام نفسه يختطف الموت زوجته، فيتزوج بعدها بومبيا إحدى حفيدات الإمبراطور سولا وقريبة بومباي.
خلال هذه الفترة يتذوق قيصر الطعم الحقيقي للسلطة، والتي حاز منها ما يكفي، فيقوم بدعم بومباي ليصير لواءً للجيش وصديقًا مقربا من ماركوس كراسوس الرجل الأكثر ثراءً في روما، ومن ثم ترشح قيصر لمنصب الراهب الأكبر، ليفوز به في عام 63 ق.م، وفي العام التالي يتم انتخابه قاضيًا ويطلق بومبيا بعد فضيحة تورطت بها مع رجل آخر، ويبحر بعدها إلى إسبانيا، بعد أن وقع الاختيار عليه ليصبح حاكمًا لها.
وهناك حالفه النجاح فى هزيمة القبائل المعادية، وفرض النظام والاستقرار، واكتسب احترام فصائل الجيش لمهاراته في القيادة وأمور الحرب، النجاح الذي تردد صداه فى روما ليكلفه مجلس الشيوخ بأحد أبرز المناصب الحكومية مع عودته إلى روما، حاكم رسمي للأراضي الأجنبية.
التحالف الثلاثي
على الرغم من ذلك، لم تجلب المسيرة المشرفة والنجاحات المبهرة لقيصر المجد الشخصى له فحسب، فبالإضافة إلى الطموح الذى اشتهر به فى الأوساط السياسية، كان له العديد من الأعداء من ذوي النفوذ الذين تمكنوا من توجيه مجلس الشيوخ لتحطيم آماله بالمزيد من النفوذ والسلطة عن طريق توليه مناصب ليست ذات أهمية سياسية. وبالتالي أدرك قيصر أن عليه بناء علاقات قوية ليتغلب على معارضيه بالمجلس فيتحالف مع بومباي مجددًا، ويتقرب من كراسوس.
يستخدم قيصر مهاراته في الإقناع مجددًا لإقناع بومبي وكراسوس بالتخلي عن خلافتهما، فالأول كان لواءً في جيش سولا والثاني من أشد معارضي الإمبراطور الراحل، وينجح بكسب ثقة الرجلين، ليُكوّنا معًا ما عرف تاريخيًا بالتحالف الثلاثي الأول، والذى صار الحاكم الفعلي لروما وراء الكواليس، قيصر بنفوذه وسلطاته السياسية الرسمية، بومبي بموقعه فى قيادة الجيش، كراسوس بأمواله وعلاقاته.
وعلى الفور يلقى التحالف تأييدًا شعبيًا، خاصة بعد تبني قيصر مشروع قانون لإعادة تشكيل الحكومة وتوزيع الأراضي على الفقراء في روما، وهو ما أغضب بعض الأرستقراطيين في مجلس الشيوخ. إلا أن حصانة منصبه أعجزتهم عن اتهامه، وبالتالي فور انتهاء فترة حكمه، يصبح قيصر عرضة للمكائد والاتهامات كما أنه صار يدين بالكثير لكراسوس ماديًا وسياسيًا، فيقرر اتباع الطريق الأشهر لاكتساب الأموال والمجد في روما القديمة، الغزو.
إلى جول.. أنا جئت فغزوت فحكمت!
في عام 85 قبل الميلاد يستغل قيصر علاقاته ليحكم جول -فرنسا وبلجيكا حاليًا- والتي لم تكن سوى مقاطعة رومانية مترامية الأطراف تتوزع السلطات فيها بين عدة قبائل دون سيطرة حقيقية للدولة الرومانية عليها، مع ذلك كانت الحكومة الرومانية ترتبط بعلاقات سياسية قوية بعدة قبائل ذات شأن داخل حدود المقاطعة.
استغل قيصر هذه العلاقات ليرسي دعائم حكمه فى جول، ويؤمن حدودها. وفي العام نفسه حاولت إحدى قبائل السويد غزو جول ليصد قيصر هجومهم في معركة ضخمة ويردهم إلى بلادهم مهزومين. ساعده هذا الانتصار على الارتباط بعلاقات صداقة مع زعماء القبائل في جول ليطالبوه بحمايتهم من غزو القائد الألماني القادم عبر نهر الراين.
تمكن قيصر من دحض الغزو الألماني دون إسالة قطرة دماء واحدة، فقط أمر مهندسيه ببناء جسر فوق الراين، ليستعرض قوته أمام الغزاة الألمان فوقه. فهم أريوفيستوس القائد الألماني الرسالة فعاد أدراجه بقواته دون قتال.
يوليوس قيصر متمردًا.. صديق الأمس عدو اليوم!
على النقيض من الانتصارات الساحقة التي حققها قيصر في جول كان نفوذه السياسي فى روما يتضاءل شيئًا فشيئًا لصالح حليفه بومباي، الذي زاد نفوذه داخل دوائر صناعة القرار ومجلس الشيوخ وصار الحائل الوحيد بينه وبين السلطة المطلقة هو قيصر نفسه. تعمقت الهوة بين الرجلين بوفاة جوليا -ابنة قيصر وزوجة بومبي- أثناء الوضع ومقتل كراسوس حليفهم الثالث عام 53.
وفي محاولة للقضاء على قيصر سياسيًا، أنهى بومباي ومجلس الشيوخ فترة حكمه على جول، ليسيطر بعدها على روما سياسيا وعسكريًا بصورة كاملة، وصدر الأمر باستدعاء قيصر إلى روما مواطنًا عاديًا، مما يعني تجرده من الحصانة، وإمكانية محاسبته على التجاوزات التي ارتكبها أثناء حكم جول، وبالتالي إنهاء حياته السياسية.
أما القشة التى قصمت ظهر البعير، وقضت على أي محاولة للتفاوض مع بومباي فكانت بزواج الأخير من ابنة ميتليوس الغريم الأكبر لقيصر في مجلس الشيوخ، في رسالة ذات مغزى. بالتالي صار أمام قيصر خيارين لا ثالث لهما، إما تسليم رقبته لبومباي، أو الحرب، وبالطبع اختار الحرب.
الحرب الأهلية.. مرحبا بالسلطة المطلقة
عاد قيصر بقواته إلى إيطاليا بقواته عام 49 ق.م، ليحرز نصرًا مؤزرًا ضد جيوش بومباي الأكثر عددًا إلا أنها أقل تنظيمًا وخبرة، ليفر الأخير مع فلول جيشه إلى إسبانيا. لاحق قيصر حليفه القديم بعد أن ثبّت دعائم حكمه في روما، ليدحر آخر من بقي من قواته مجددًا، ليلجأ بومباي إلى مصر، لتكون النهاية بمقتله على أيدي المصريين ما أن حط قدميه على شواطئها، لاعتقادهم بأن الآلهة تؤثر قيصر عليه.
استغل قيصر واقعة مقتل غريمه ليفرض الأحكام العرفية في مصر ويستولي على القصر الملكي، وأرسل سرًا في طلب كليوباترا، التي رأت في قيصر فرصتها للوصول إلى الحكم، فنشأ بينهما تحالف، كانت نتيجته إعلان الحرب على أخيها الملك الشرعي.
استمر السجال بين الطرفين لستة أشهر، وصل بعدها الدعم الروماني ليدحر الجيوش المصرية، ليطول بقاء قيصر في مصر بعدها تسعة أشهر أخرى، اتخذ فيها كليوباترا عشيقة، وأنجبت له ولدًا أعلنته فيما بعد ولي عهدها والوريث الشرعي لحكم مصر.
قيصر وكيلوباترا
عاد قيصر أدراجه إلى إيطاليا، بعد أن أجهض ثورة قامت ضده في الشرق، وأقصى خصومه السياسيين في روما، وفي النهاية اضطر مجلس الشيوخ تقليده لقب الديكتاتور أو الحاكم الأزلي. وعلى الفور أطلق قيصر حملة إصلاحات سياسية واقتصادية، وتمكن من السيطرة الكاملة على مجلس الشيوخ لدرجة تمرير قوانين كاملة أو منعها كما يشاء بالأمر المباشر، وهو ما أثار مخاوف لدى بعض من نوابه بأن يتزايد نفوذ وسلطة قيصر لدرجة حل المجلس نفسه.
فحاكوا مخططًا ناجحًا لاغتياله في 15 مارس (آذار) عام 44 قبل الميلاد وهو ما نجحوا فيه بالفعل عن طريق خيانة بروتوس أحد أقوى أصدقاء قيصر له ليتلقى 23 طعنة أنهت حياته، ليسدل الزمان الستار على واحد من أشهر حكام روما عبر التاريخ.