بعد ثلاثيته الشهيرة «قبل الشروق» و«قبل الغروب» و«قبل منتصف الليل» وبعد فيلمه «Boyhood»، يعود إلينا المخرج الأمريكي «ريتشارد لينكلاتر» بفيلم حواري آخر يبرز قدرة هذا الرجل الفذة على تحويل أشد السياقات ضجرًا ومللًا إلى أعمال سينمائية عظيمة.

المخرج الذي رشح من قبل لخمس جوائز أوسكار، قدم لنا في ثلاثيته «القَبلِية» التي صورها بين 1995 و 2013 حوارًا مطولًا على ثلاث مراحل بين شخصيتين رئيستين، شاب وشابة لعب دوريهما «إيثان هوك» و«جولي ديلبي»، يرتحلان في الأفلام الثلاثة بين مدن مختلفة في أوروبا وأمريكا، يقعان في الحب، وتفرقهما الأيام، وتجمعهما الظروف، وتفرقهما مرة أخرى وهكذا، وفي خضم هذا الرحلة يناقشان كل شيء يمكن أن يخطر على بالك عبر حوار ثري. الثلاثية لا تحتوي خطًا دراميًا، فقط مناقشة حميمة عن الحب والحياة والموت والدين والإله والثقافة واللغة والجنس والغاية والمصير.

وفي فيلمه «Boyhood» الذي استغرق تصويره 12عامًا تتبع فيه «لينكلاتر» مراحل نمو بطل الفيلم «مايسون» منذ طفولته المبكرة، وحتى دخوله للجامعة. حيث يرصد فيها رؤية الحياة من وجه نظر طفل صغير، وكيف تتطور تلك الرؤية من خلال حوار ذاتي مع النفس وحوار آخر خارجي مع باقي شخوص الفيلم، ومع تفاعلات المواقف المختلفة.

مرحبا بكم في عام 1980

وفي فيلمه الجديد المعتمد على حوار مطول وذكي ورشيق يعود بنا لينكلاتر 37 عامًا إلى الوراء حيث عام 1980؛ ليرصد لنا تفاصيل ثلاثة أيام قبل بدء فصل دراسي جديد بجامعة تكساس، حيث نغوص مع بطل الفيلم «جيك» (يقوم بدوره «بليك جينر») الذي أوشك على التسجيل في عامه الأول بالجامعة ملتحقًا بها عبر منحة رياضية تعطيه أيضًا ميزة الإقامة في منزل «أخوية» فريق الجامعة لكرة القاعدة (Baseball)؛ ما يعني أنه سيقيم ويدرس ويتدرب مع باقي أفراد فريقه طول العام الدراسي.

فيلم «Everybody Wants Some!» يغمس المشاهد في حقبة نهاية السبعينات الأمريكية، حيث يمرح الشباب في سياراتهم «الشيفروليه» الرياضية الشبيهة بقوارب بخارية، وهم يلوكون العلكة، ويستمعون إلى أغاني «الروك» الصاخبة. يتركون شعورهم الطويلة – على الموضة – تطير في الهواء، ويطلق بعضهم اللحى، أو يكتفى بشارب مهذب بعناية، ويستعرضون عضلات أذرعتهم الطويلة التي تظهر من تحت قمصان ضيقة قصيرة الأكمام، يعاكسون الفتيات اللائي يرتدين تنورات أو سراويل قصيرة للغاية، وأيضا يتركن شعورهن تنطلق دون تضييق.

ولا يستدعي الفيلم فقط «ديكور» أو ملابس أو عادات أو حتى أغاني الثمانينات، والتي من بينها أُغنية شهيرة من اُلبوم فريق للروك يُدعى «Van Halen» تحمل عنوان الفيلم نفسه Everybody Wants Some! ولا أحداث اجتماعية وسياسية مصاحبة لنفس العام، ومنها حملة الرئيس «جيمي كارتر» الانتخابية لفترة رئاسية ثانية، ليس ذلك فقط، وإنما صُوّر ليعطي نفس انطباع الأفلام التي تم تصويرها وإنتاجها في نفس الفترة! بنفس الألوان ذات درجة التشبع المنخفضة، والتباين المنخفض، والسطوع العالي. وبنفس طريقة تصوير الكادرات القريبة Close، ونفس الزاويا، ونفس وضعيات أداء الممثلين، وكل شيء، بل تجاوز لينكلاتر ذلك؛ ليقرب لنا تأثير عام 80 عبر شريط الصوت التي تشوب نعومته خربشة خفيفة كريح لطيفة تمر أمام ميكروفون التسجيل، أيضًا ليحاكي مستوى تقنية الصوت المستخدمة في ذاك الوقت. باختصار, من الصعوبة للغاية الاقتناع أن ذلك الفيلم تم تصويره في عام 2016.

داخل عالم الذكور

يحاول «جيك» التأقلم مع زملائه الجدد، سواء الملتحقين حديثا بالجامعة – والفريق – أو القدماء منهم، وسريعًا ما يجد لنفسه مكانًا كواحد من شلة الشباب المشاغبين، بالرغم من محاولاتهم الأولى لإستفزازه ومضايقته وتحديه، كعادة الشباب في هذه المرحلة من العمر.

تبدو مجموعة الشباب كصورة مجسمة لـ«Super Models» خارجين لتوهم من كتالوج للملابس الرياضية أو الملابس الداخلية الشبابية. يقضون وقتهم في الاعتناء بعضلاتهم ومظهرهم، يستخدمون «السشوار» في فرد شعورهم الطويلة، ويطيلون النظر إلى المرآة، وهم يتأكدون من نعومة شواربهم وحسن تصفيفها، ويضعون ماء «الكولونيا» في كل بقعة ممكنة من أجسادهم، وكأنهم يرغبون في بث رائحة ذكورية في الجو تجذب الفتيات، وتؤكد ذكورتهم الراسخة أمام أقرانهم.

يعكس لينكلاتر الجو الشبابي المفعم بهورمون «التوستيسترون» الذي يملأ جو «بيت فريق البيسبول»، حيث روح المنافسة بين الذكور موجودة طوال الوقت بشكل مركز، يتعارك الشباب بسبب وبدون سبب، بمزاح أو بشكل أخرق. يمارسون جميع أنواع الرياضة – وليس فقط البيسبول – بدءً من كرة السلة، والسباحة، ومرورًا بالبلياردو ولعبة تصويب السهام وسباق السيارات، وليس انتهاءً بضرب أكفهم بقسوة في أكف بعض؛ ليروا من يتحمل أكثر، حتى ولو انتهى الأمر بالخاسر إلى أن تدمى يداه.

المصدر: theguardian.com

تمضى الأيام الثلاثة بدون أي خط درامي، يظهر على الشاشة من حين لآخر مؤقت زمني يقوم بالعد التنازلي؛ حتى موعد بدء أول محاضرة في الفصل الدراسي الوشيك، وينتظر المشاهد أن يحدث شيء ما يعطى معنى للفيلم، أن تحدث أزمة أو مشكلة أو عقدة، لكن أمرًا من ذلك لا يحدث. كل ما يظهر على الشاشة فقط هو جيك وزملاؤه وهم يتشاجرون، ويتفاكهون، ويتعرفون على الفتيات، ويخرجون في حفلات موسيقية صاخبة تذكرك بأجواء فيلم «Saturday Night Fever» الشهير، للنجم «جون ترافولتا» (عام 1977)، يشربون الكثير من الكحوليات، ويمارسون الكثير من الجنس في كل مكان، ويتحدثون حول كل شيء بكثرة وحماس لا يهدأ.

لن تجد منهم من يتحدث في الهاتف، أو ينظر إلى شاشة التليفزيون، وبالطبع لم تكن الحواسب الآلية الشخصية منتشرة في هذا الوقت، ولم يكن هناك إنترنت أو ألعاب إلكترونية مجنونة تشغل الشباب، كان عليهم أن يخرجوا طاقاتهم الجسدية والنفسية في أنشطة بدنية وذهنية متوالية لا تنقطع.

«كلنا نرغب في بعض الـ..»

وعلى ما يبدو فقد كان «لينكلاتر» يقصد أن ينقل إلينا هذه الحالة «الصافية» من حالات النشاط والابتهاج والانطلاق والعنفوان، حالة «الشباب» التي يعرضها الفيلم خلال ما يقرب من الساعتين، وكأن الزمن قد توقف تمامًا؛ ليسلط كشافًا مبهرًا من الضوء على هذه الفترة الزمنية من عمر كل إنسان، الفترة التي تلي مرحلة المراهقة بقليل، وتتأخر عن مرحلة النضج، وتحمل المسئوليات، والتعقل والاتزان أيضًا. وبالتالي فلا يعنيه كثيرًا أن يضع «قصة» أو «حبكة» داخل تلك «الحالة»، فهذه الحالة في حد ذاتها هي القصة، وهي «الفيلم».

وحتى الأحداث السلسلة والنمطية التي تعرف فيها جيك على الفتاة الجامعية «بيفرلي» – الجميلة «زووي دوتش» بطلة فيلم «Why Him?»، وخروجه معها، وحديثهما المسهب حول «سقراط»، وحول «ديناميات» اللغة الإنجليزية، والتنافسية بين الذكور، كل ذلك كان في إطار الاحتفاء بطاقة الشباب المبهرة، «الينبوع» الذي يرغب الجميع في بعض منه.

وليس المقصود بكلمة «Some» في عنوان الفيلم فقط الجنس أو النساء كما قد يتبادر للذهن من أول وهلة، وإنما المقصود أن الكل يرغب فيما لدى الشباب؛ لأن لديهم أغلى ما في الوجود: الوقت الجميل الرائع الذي يتمتعون به، وهم في قمة صحتهم وعنفوانهم وبهجتهم ورغبتهم في الحياة، دون شعور حقيقي بكآبة الدنيا بمشاكلها ومسئولياتها التي يمكن أن تعكر صفو ذلك كله.

المصدر: pureanarchy.net

وفي مشهد هام يؤكد لينكلاتر هذه الفكرة: عندما تبدأ أول حصة في الفصل الدراسي؛ ليصادف أنها درس في «التاريخ»، حيث يحضر جيك إلى قاعة الدرس في الصباح، دون نوم؛ حيث قضى الليلة السابقة في الاحتفال مع الشباب، ومع صديقته، يترك جيك الأستاذ المحاضر يبدأ حصته «التاريخية»، فيما يريح هو رأسه على ذراعه، ويبدو وكأنه سيغيب في نوم عميق، وكأن لحظته «الشبابية المتفجرة» لا تخضع لسياق التاريخ، ولا لجريان الزمن، وإنما هي حالة متوهجة يريد أن يغيب فيها إلى الأبد، دون أن يتحرك الزمن للأمام خطوة واحدة.

عرض التعليقات
تحميل المزيد